الأب أنطوان ملكي
لم يكن مفاجئاً إعلان أن الكنيسة اليونانية قبلت استقلال “كنيسة أوكرانيا الأرثوذكسية”، خاصةً عندما يكون معروفاً حجم الضغط الذي تمارسه ثلاث جهات: القسطنطينية، الدولة اليونانية والدبلوماسية الأميركية بمختلف أدواتها المتوفرة. هذا يجعل كنيسة اليونان أول كنيسة تقبل هذا الكيان من بعد القسطنطينية التي أنشأته. المفاجئ في الإعلان هو أن المعترضين كانوا ستة أساقفة فقط لا يذكر البيان الرسمي أنهم اعترضوا بل أنهم طلبوا تأجيل التصويت. جدير بالذكر أن المجمع العام يضم 81 مطراناً لكن البيان لا يذكر عدد الحضور. أمّا الأخطر فهو التصريحات التي تبعت هذا الإعلان والتي تؤكّد أن أي قرار لم يُتّخَذ خاصةً وأنه لم يجرِ أي تصويت. هذه التصريحات الصادرة عن مطارنة كانوا في المجمع تنذر بأخطار على الكنيسة اليونانية وعلى الكنيسة الجامعة بشكل عام. وأخطر ما فيها أنها إشارات إلى 1) تعاظم تدخل السياسة في شؤون الكنيسة بشكل لا يحترم الحدّ الأدنى من مصلحتها أو حتى مظهرها كي لا يُحكى عن رسالتها، وهذا يتكرر في كل الكنائس، و2) أن عملية تدبيج القرارات وإعلانها بشكل ديماغوجي يظهرها وكأنها قرارات الكنيسة فيما هي بالحقيقة قرار رئاستها، وبالتالي يضع هذا الإعلان المعارضين، وعادة يكون التقليديون منهم، في خانة الخارجين على الإجماع ومثيري الشغب.
نظرياً، قد يكون مفهوماً أن تقبل كنيسة اليونان أو تدعم حق القسطنطينية في منح الاستقلال للكنائس المحلية نزولاً عند طلب هذه الكنائس أو طلب سلطاتها السياسية، علماً أن هذه التبعية تحوّل استقلالها الكامل (autocephaly) إلى مجرد استقلال إداري (autonomy) وحسب. لكن ما يبقى بلا تفسير، ولم يجب عليه لا منظرو هذا القبول ولا كلمة رئيس الأساقفة اليوناني التي وجهها إلى المجمع، هو كيف يتمّ قبول أبيفانيوس “ميتروبوليت” أوكرانيا وهو أصلاً مُسام على يد منشقّ مدان من كل الكنائس، وغيره من الإكليروس غير المُسام قانونياً.
من هنا أن لقرار كنيسة اليونان كلفة أعلى بكثير من أي خطأ ترتكبه القسطنطينية. فالكنيسة اليونانية تشكّل مرجعية علمية في الكنيسة الأرثوذكسية ليس لجهة أن غالبية مطارنة العالم الأرثوذكسي وبطاركته مرتبطون باليونان إما من جهة تخرجهم من مدارسها بل لأن لها علاقات دأبت كنيسة اليونان على توطيدها مع كل العالم. أستذكر هنا كلاماً لأحد الياروندات يقول: “أن تكون يونانياً أرثوذكسياً ليس امتيازاً ولا أفضلية بل هو رسالة (mission) وواجب”. وما يظهّر هذا الخطر في قرار الكنيسة اليونانية هو أن غالبية الإجابات التي أعطاها المطارنة للإعلاميين عند سؤالهم عن خلفية قرارهم تأتي في خانة الإثنية ودعم القسطنطينية في وجه الروس. حتّى الحجج التي كتبها الميتروبوليت ييروثيوس فلاخوس، على ما له من موقع في العالم، لم تكن على المستوى المعهود منه في الصياغات اللاهوتية.
من جهة أخرى، الكنيسة الأرثوذكسية الجامعة على موعد مع قطع علاقات جديد. إن الفذلكة اللاهوتية التي أوردتها الكنيسة الروسية كسند لقطع شركتها مع القسطنطينية تنطبق على كنيسة اليونان، إن لم يكن اليوم ففي التاسع عشر حيث يُتوقّع أن يشترك رئيس أساقفة اليونان ييرونيموس مع أبيفانيوس أوكرانيا في القداس في تسالونيكي. عندها ما انطبق على القسطنطينية ينطبق على كنيسة اليونان، وسوف تكون كنيسة موسكو ملزمة بقطع شركتها مع كنيسة اليونان. هذا الأمر أشار إليه بوضوح المطران إيلاريون مسؤول العلاقات الخارجية في الكنيسة الروسية في مقابلة معه في التاسع من تشرين الأول أي قبل إعلان قرار كنيسة اليونان بيومين. هذا القطع سوف يكون مؤلماً بشكل أكبر ويسبب شللاً أكثر أثراً في جسد الكنيسة الأرثوذكسية الجامعة. فعلى سبيل المثال، ما سوف يكون موقف رافضي التعامل مع إكليروس “كنيسة أوكرانيا الأرثوذكسية”، ككنيستي أورشليم وصربيا، من إكليروس اليونان حين يكونون قد شاركوا مع الأوكرانيين في الخدم؟ هل سوف يستطيع بطريرك جورجيا والذين معه في كنيسته من الصمود أكثر أمام حملات الأميركيين المركّزة عليهم ليعلنوا قبولهم “كنيسة أوكرانيا الأرثوذكسية”؟ هل يستطيع أحد التنبوء بعدد اليونانيين، من إكليروس وعلمانيين، الذين سوف ينتقلون إلى كنيسة المسيحيين الأرثوذكس الحقيقيين في اليونان (التقويم القديم)؟ ألن يكون قبول اليونان هذا عاملاً تشجيعياً لدعاة كنيسة مكدونيا المستقلة وكنيسة الجبل الأسود المستقلة على الإصرار على انفصاليتهم؟
إن الأسئلة كثيرة، على المستويين اللاهوتي والإداري، إذا صحّ الفصل بين المستويين. من هنا أن المسؤولية الملقاة على أكتاف رؤساء الكنائس، وبشكل خاص الإسكندرية وأنطاكيا، مسؤولية جسيمة، حيث أنهم مطالبون بالتحرك والفعل بدل الاكتفاء بردة الفعل. إن عدم انعقاد لقاء رؤساء الكنائس، بغض النظر عن موقف القسطنطينية، سوف يفتح الباب للقسطنطينية لخلق المزيد من المشكلات. إن هذا اللقاء ضروري جداً إذ إن تزايد عدد الكنائس القابلة للكيان الأوكراني المستحدث، يهدد الكنيسة بأن تتحوّل إلى كنيستين بشكل أو بآخر، وهو صدع عامودي لن يكون سهلاً رأبه.