الأرشمندريت جبرائيل
نقلتها إلى العربية أسرة التراث الأرثوذكسي
نشرت النيويورك تايمز مؤخراً مقالاً عن كيف تخبر إن كنت لواطياً أو مزدوج الجنس أو متحوّل أو غيره. تضمّن المقال المزيج المعتاد من النقاط المتضاربة، ابتداءً من التأكيد بأن الأحاسيس المِثلية طبيعية ومن ثمّ التوجّه مباشرة نحو هجوم شامل على فكرة وجود أي شيء يمكن اعتباره “طبيعياً” في عالم الجنس أو الجندر. من الصعب أيجاد حقيقة أكثر اساسية في الحياة من الفرق بين الرجال والنساء. مع هذا، تحت كل البروباغندا المُعاد تدويرها والإنكار الصريح لهذه الحقيقة، يوجد في المقال ذرة من الحقيقة وهي السؤال الكبير: “هل أنا سعيد؟ أأشعر بأني صالح؟ هل أنا مرتاح؟”
إنه بالواقع سؤال كبير أساسي في دراسة تيار المثلية بأكمله. إلى هذا، إنه سؤال أساسي في دراسة الحداثة نفسها. كما يرد في إعلان الاستقلال، لنا جميعاً حق ثابت في “الحياة، الحرية، والسعي إلى السعادة”، و”لتثبيت هذه الحقوق، تؤسس الدول بين البشر”.
يا لها من نظرة بائسة إلى الحياة! وكما عبّر أحد الأشخاص، العقد الاجتماعي هو “استبدال للوطنية النبيلة بحسابات جشعة للمصالح.”
مهما يكن من أمر، تبقى الحقيقة أن إضفاء القدسية على السعي إلى السعادة على أنها الهدف الرئيسي للحياة هو فعلاً فكرة شديدة السوء، حتى أن عالِمَ نفس دهري مثل جوردان بيترسون قادر على أن يفهم ويصوغ هذا المر ويعبّر عنه: نظرًا لأن العالم الحديث مقتنع من دون شك بأن السعادة هي بالفعل الهدف الأساسي للحياة، يبدو من غير المعقول لهم أن تحرم المسيحيةُ أشخاصًا معينين (على سبيل المثال، المثليين جنسياً) من إمكانية السعادة الجنسية، مع السماح بنفس إمكانية السعادة الجنسية لأشخاص آخرين (من جنسين مختلفين). يبدو لهم الأمر غير عادل تماماًوأنه بوضوح حالة تامّة من التمييز التعسفي. حتى أحد الرؤساء الأرثوذكس البارزين قد أورد الموضوع على هذا النحو مؤخرًا: يتمتع الأشخاص المتبايني الجنس بخيار الزواج، وهكذا يمكنهم بطريقة إيجابية تحقيق شهوتهم بمباركة الكنيسة من خلال سرّ الزواج المقدّس المُعطى من الله. لكن ليس للمثليين خيار من هذا القبيل … هل نحن محقون في فرض هذا العبء الثقيل على المثليين؟
إنه لأمر مأساوي أن نرى رؤساء رعاة قطيع المسيح ينسون كلمات الكتاب المقدس: “وصاياه ليست ثقيلة”. لكن الأمر الأكثر مأساوية هو أن نرى رؤساء الكهنة يقبلون ضمناً القناعة الحديثة بأن غاية البشر في الأساس هي أن يكونوا سعداء في هذا العالم الساقط، بدلاً من التعليم أن حياتنا في هذا العالم تهدف في الواقع إلى إعدادنا لحياة العالم الآتي، عالم أفضل بكثير وأكثر جمالا مما يمكن أن تبلغه هذه الحياة الباطلة العابرة.
الحقيقة هي أن المسيحية الأصيلة ليست معنية على الإطلاق بإسعاد المسيحيين في هذا العالم. كان السيد المسيح واضحًا تمامًا بشأن خدمته: “مَن أراد أن يتبعني، فلينكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعني”. أن يكون مسيحياً يعني أنه بالفعل قد تخلى عن كل المتعة الدنيوية أو السعادة – سواء كانت شرعية أو لا- ولا يتوقع أي شيء آخر سوى الاضطهاد والتعذيب والموت من أجل محبة المسيح. نموت يوميًا لكي نعيش، بدءًا من هنا والآن، حياة العالم الآتي. وفي ذاك العالم، العالم الوحيد الذي يهم حقًا، “لن نزوّج ولا نتزوج”.
كما كتب الأب سيرافيم روز ذات مرة: “المسيحية في كمالها ليست أفضل ، لكن”أكثر سؤاً”(من وجهة نظر الناس الدنيويين) أكثر مما يظنون: إنها فضيحة وإهانة لـ”حكمة “وغرائز هذا العالم، أقل مساومة وأكثر تمسّكاً… حين يتعلّق الأمر بالحقيقة الحية”.
وفي ما يتعلق باتهام التعسف في تقييد الاتصال الجنسي المشروع بين الجنسين، فإن مثل هذا الاتهام يعتمد على الافتراض المسبق بأن الغرض من الجماع الجنسي هو إنتاج المتعة. لكن التعاليم المسيحية الحقيقية (وبالفعل تعليم نظام الطبيعة بأكمله) هو أن الغرض من الجماع الجنسي هو إنتاج الأطفال.
وعلى الرغم من أن تربية الأطفال هي في الواقع دعوة سامية، إلا أن بيننا (بما في ذلك نحن الرهبان!) مَن طريقهم مغلَق ولا يرون أنفسهم محرومين. بدلاً من ذلك، لقد أعطي لنا فرصة لشيء أعظم: حياة مكرسة بالكامل للرب. كما كتب القديس بولس: “فَأُرِيدُ أَنْ تَكُونُوا بِلاَ هَمٍّ. غَيْرُ الْمُتَزَوِّجِ يَهْتَمُّ فِي مَا لِلرَّبِّ كَيْفَ يُرْضِي الرَّبَّ، وَأَمَّا الْمُتَزَوِّجُ فَيَهْتَمُّ فِي مَا لِلْعَالَمِ كَيْفَ يُرْضِي امْرَأَتَهُ.”
الحقيقة غير السارة هي أن السعادة الدنيوية المحضة تتحوّل في كثير من الأحيان لتشكل عقبة في طريقنا إلى الخلاص. بأي سهولة نصير راضين عن التفاهات ونتخلّى عن نبل دعوتنا السامية في المسيح! وبأي سرعة ننسى كلمات مخلصنا: “طوبى لكم أيّها الباكون الآن …وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الضَّاحِكُونَ الآنَ.” كما كتب القديس إسحق السوري: “هذه الحياة قد أعطيت لك للتوبة. لا تضيعها في مساعٍ عبثية”.
لأن الهدف الحقيقي للمسيحي في الحياة ليس شيئًا رخيصًا أو ضحلًا كالسعادة. الهدف الحقيقي للمسيحي ليس أقل من أن يصبح إلهًا بالنعمة، وأن يمتلئ حتى الفيض من المحبة الإلهية والحياة الإلهية. الهدف الحقيقي للمسيحي ليس المعاناة أقل، بل المعاناة أكثر: المعاناة كما عانى المسيح، والمعاناة من محبة الله وبدافع من المحبة لكل شخص في هذا العالم الساقط. كما قال اﻷارشمندريت باسيليوس الإيفيروني ذات مرة: “المحبة ليست إفراطاً عاطفياً بل تضحية”.
ما من طريقة ممكنة لكي يصير الإنسان مسيحياً إلا بالصعود على الصليب. لن نكتشف معنى أن نكون محبّين ومحبوبين إلا عند تعليقنا على الصليب. وهذا هو الهدف الوحيد في الحياة الذي يستحق حقاً أي شيء.
أرواح كثيرة موجودة في الخارج في العالم، والوثائق التي يعرضونها هي مواهب رائعة للعقل والعلم والموهبة. أيها المسيحي انظر بعنايةواطلب بصمات الأصابع (القديس يوستينوس الشهيد).
Source: Remembering Sion. 05 August 2019