الأب أنطوان ملكي
” فَكُلُّ مَنْ يَعْتَرِفُ بِي قُدَّامَ النَّاسِ أَعْتَرِفُ أَنَا أَيْضًا بِهِ قُدَّامَ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ، وَمَنْ يُنْكِرُني قُدَّامَ النَّاسِ أُنْكِرُهُ أَنَا أَيْضًا قُدَّامَ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ.” هذا الكلام قاله الرب لتلاميذه جميعاً، من دون استتثناء، في كل الأزمنة والأماكن. هذا يعني أنه قاله لنا أيضاً نحن الذين نقف في هياكله اليوم والذين نحسب ذواتنا من تلاميذه بالمعمودية. كمثل البرق الذي يخترق السماء من دون أن يخسر شيئاً من لمعانه كذلك كلمات السيد وصلت إلينا في الإنجيل بكل قوة ووضوح.
إن تلاميذ الرب ليسوا أولئك الذين يسمّون أنفسهم كذلك بل الذين يعترفون به فعلياً سيداً لهم وملكاً أبدياً متّبعين تعاليمه ومحققين وصاياه. إن اعترافهم يجب أن يكون بالفكر والقلب والقول والفعل وبكل حياتهم. لا مكان للارتباك والخجل والتذبذب في هذا الاعتراف. هذا الاعتراف يتطلب إنكاراً للذات وشعوراً بالنصر كما أمام كل الناس والملائكة.
علينا أن نشابه في اعترافنا التلاميذ الذين لم يخجلوا أو يخافوا من أن يعترفوا بالإله-الإنسان محتملين الاضطهاد، معلنين اعترافهم أمام سلطات الدين والدنيا، أمام حكماء الأرض وسلاطينها، ونتمثّل بالشهداء الذين حملوا ألمهم ودمهم، بالذين أرضوا الرب بجهادهم على الأرض مهملين كل الأرضيات، الذين كانوا في العالم وليسوا من العالم. إن الاعتراف بالرب مصحوباً بإنكار الذات هو سمة القديسين.
إن الاعتراف الضعيف والمبهَم ليس مقبولاً، ولا حاجة له، ولا يستقيم أمام عيني الرب. لا يكفي أن يعترف الإنسان بالله في ذاته سرياً، بل الاعتراف يكون بالشفاه والكلمات، وأهم منها بالأعمال والحياة. لا يكفي الاعتراف بألوهة الرب وسلطانه، بل ينبغي الاعتراف بتعليمه ووصاياه في عيشها، حتّى ولو على عكس ما هو مقبول في المجتمع البشري. هذا المجتمع خاطئ وميال إلى الزنا لأنه استبدل محبة الله بمحبة الخطيئة. إن العادات السائدة في هذا العالم والتي صارت توازي ناموساً يعلو على القانون هي ضد الحياة المرضِيَة لله حتى العداوة. إن هذا العالم الذي يسوده الغرور يكره ويهزأ من الحياة المرضِيَة لله، لذا القلب الضعيف وغير الثابت في الإيمان يميل نحو إرضاء البشر مبتعداً عن تعليم الرب ومقصياً ذاته من صف المختارين.
إنه لأسهل على الإنسان أن يرفض متطلبات المجتمع من أن يرفض متطلبات العائلة التي تكون بالعادة أقرب إلى الناموس الطبيعي وليست بالضرورة قريبة من وصايا الله. الوضع المثالي هو أن تكون متطلبات العائلة من متطلبات الله. لهذا قال الرب مَنْ أَحَبَّ أَبًا أَوْ أُمًّا أَكْثَرَ مِنِّي فَلاَ يَسْتَحِقُّنِي، وَمَنْ أَحَبَّ ابْنًا أَوِ ابْنَةً أَكْثَرَ مِنِّي فَلاَ يَسْتَحِقُّنِي. غالباً ما يجد محب المسيح نفسَه مرتبكاً بتضارب المتطلبات، ويستصعب تمييز إرادة الله فيها. لهذا يريد الرب أن يقول بهذه الآية أن مَن يختار إرادة غيري يكون قد تخلّى عني.
إن الصعوبات التي تعيق الاعتراف بالرب وتأتي من الخارج لا تُقارَن بصعوبة تلك التي تأتي من الداخل. إن الخطيئة التي تعيش في الفكر والقلب والجسد تقوم كمضاد مباشر للاعتراف بالمسيح وتحقيق وصاياه. إن الخلطة التي تتواجد في ذواتنا بين صلاحنا الطبيعي والأذى المتأتي من الخطيئة هي العائق الأكبر أمام اعترافنا الكامل بالرب. قد يكون من السهل الابتعاد عن المجتمع والأقرباء، لكن أين نذهب من ذواتنا ومن طبيعتنا. لهذا يأمرنا الرب بأن نصلب الطبيعة بحملنا الصليب والسير وراءه عن طريق تخلينا عن الفكر الجسدي الذي يشتهي ويتأثر بالأهوية. من هنا أن كل الآيات التي ترد على لسان الأنبياء والرسل ويفسرها البعض في الكنيسة على أنها تعذيب للذات أو ما شابه فإنما هي صرخات من عمق النفس التي وعت ضعفها وتسعى لتخطي طبيعتها حتى تصل إلى ما هو أسمى.
إن الكنيسة لكي تشرح لنا مصير مختاري الله، بعد أن أظهرت لنا في القراءة الإنجيلية المصير المتوقف على اتباعنا الرب، تسمِعُنا السؤال على لسان الرسول بطرس: «هَا نَحْنُ قَدْ تَرَكْنَا كُلَّ شَيْءٍ وَتَبِعْنَاكَ. فَمَاذَا يَكُونُ لَنَا؟» وإذا بوعد الرب واضح بأنّه سوف يعوّض كل خسارة بما هو أغلى منها بكثير. إن الاضطهاد الفعلي هو الحياة على الأرض لأننا طُرِدنا إليها وحُكِم علينا برحلة عذاب نعيشها على الأرض قبل أن نعود إلى السماء، إذا عملنا لذلك. إن الحياة الحالية هي العذاب لأن أمير هذا العالم يحكمه والخطيئة تسيطر عليه ولا تكفّ تضطهد محبي المسيح. إن الخطيئة تهاجم محبي المسيح من الخارج والداخل وبهذا تعذبهم.
لكن الرب لا يترك محبيه، بل يترك لهم نعمته. نعمته تحوّل عذاباتهم وتجاربهم وتوبتهم إلى قداسة، والقداسة تمنحهم التعزية وتفتح لهم أبواب المجد والغنى السماوي. كل ما يمتّع الإنسان يبقى هنا أما المجد الذي من المسيح فهو يبدأ هنا ويستمر إلى الأخير. النعمة التي نكتسبها هنا هي الثروة الوحيدة التي تعبر القبر معنا. هكذا عبر القديسون الذين نعيّد لهم اليوم، وهذا ما هو مرسوم لنا ونحن مدعوون إليه.
* عن نشرة الكرمة