من كتاب ثمار الروح – الفصل الثاني
كالينيكوس مطران بيريا
نقلته عن اليونانية: ماريّــا قبارة
المحبّة، أولى ثمار الروح (2)
محبّة القريب
للمحبّة فرعان، الفرع الأول هو محبّة الله والثاني محبّة القريب. فذاك الذي يحبّ الله يحبّ أبناء الله أيضاً. فلا نستطيع أن نحبّ الله ولا نبالي لمخلوقات الله العاقلة.
الفرع الأول للمحبّة مرتبط بالآخر ارتباطاً جذرياً، ولا يكون الأول دون الآخر، فمحبّة الله جذر محبّة القريب ونبعه واندفاعه “لأنّ المحبّة هي من الله” (1يو7:4) كما يقول تلميذ المحبّة. وإذا كنّا نتحدث ونقول أنّنا نحبّ الله بينما نكره أخانا فنحن نقول الأكاذيب، لأنّه كيف يمكننا ألاّ نحبّ أخانا من هو على صورة الله، وابنه، والذي نراه كلّ يوم، بينما نحبّ الله من لا نراه بأعيننا الجسديّة “إن قال أحدٌ إنّي أحبّ الله وأبغض أخاه فهو كاذب، لأنّ من لا يحبّ أخاه الذي أبصره كيف يقدر أن يحبّ الله الذي لم يبصره” (1يو20:4). إن أحببنا بعضنا بعضاً وطبّقنا محبة الله فعلياً نثبت أننا أبناء الله، أمّا من لا يحبّ أخاه فهو ليس ابناً لله بل غريباً عنه “بهذا أولاد الله ظاهرون وأولاد إبليس كل من لا يفعل البرّ فليس من الله وكذا من لا يحبّ أخاه” (1يو10:3).
هذا الذي لا يحبّ أخاه ليس ابناً لله، لأّنه ينقض وصية الله التي فُرضت علينا أن يحبّ الواحد الآخر ” لأنّ هذا الخبر الذي سمعتموه من البدء أن يحبّ بعضنا بعضاً” (1يو11:3). وما هو معروف أن وصيّة العهد القديم الأساسية ومن بعد محبّة الله هي محبّة القريب “تحبّ قريبك كنفسك” (مت39:22)، وصارت “الوصيّة العامة” التي لم يعرفها العالم المسيحي قبل المسيح، فقد سادَ الكره قبل المسيح وانتشر الانتقام والخصام والوحشيّة. فقد كانت المحبّة مخصصة للأقارب والأصدقاء فقط ضمن العائلة الواحدة، فلم تحتضن المحبّة البشر عامّة كأبناء لله. ولكن عندما جاء المخلّص إلى الأرض وجسّد المحبّة نشر عطر شذاها الذكي، وكان أول من أعطى مثالاً عظيماً للمحبّة بتبيانه لنا محبته لأعدائه “لكن الله بيّن محبّته لنا لأنّه ونحن بعد خطأة مات المسيح لأجلنا” (رو8:5)، ولن يوجد أسمى وأعلى من هكذا محبّة “ليس لأحدٍ حبٌّ أعظم من هذا” (يو13:15)، وطبّق الرب وصية المحبة وضمَّ الأرض كلّها إليه بتسمير يديه على الصليب، وقبل آلامه الخلاصية بقليل قال لتلاميذه هذا: “وصيّة جديدة أن أعطيكم أن تحبّوا بعضكم بعضاً كما أحببتكم أنا تحبّون أنتم أيضاً بعضكم بعضاً” (يو34:13)، ويدرك الآخرون أنّكم خاصيتي إن كانت المحبّة بينكم “وبهذا يعرف الجميع أنّكم تلاميذي إن كان لكم حبٌ بعض لبعض” (يو35:13)، “وبهذا أوصيكم حتى تحبّوا بعضكم بعضاً” (يو17:15).
فهل من الممكن أن نحبّ الله عندما ننقض وصيته الأساسية؟ كلا بالتأكيد، فلدينا إجبار بـ”اسلكوا في المحبّة كما أحبّنا المسيح وأسلم نفسه لأجلنا قرباناً وذبيحة لله رائحة طيبة” (أف2:5). وإن طبقنا وصيّة المحبّة نظهر مرضيين أمام المسيح مخلصنا، متشبهين به وحافظين وصيته الأساسية التي تستند عليها كلّ الوصايا الأخرى “المحبّة هي تكميل الناموس” (رو10:13). تبدو محبّـتنا لله في محبتنا للقريب وبحسب رسول المحبّة: “لنا هذه الوصية منه أن من يحبّ الله يحبّ أخاه أيضاً” (1يو21:4). فالمحبّة التي نقدّمها للآخرين كأنّنا نقدّمها لله وهي لائقة ومرضية لديه. “بما أنّكم فعلتموه بأحد إخوتي هؤلاء الأصاغر فبي فعلتم” (مت40:25). نجد محبة الله حركة مستمرة داخلية نبيلة في محبّة القريب، وهذه المحبة المسيحية تجاه القريب تبرهن مركزية الله، وتظهر محبّة نقيّة صادقة ولا تعرف تمايزاً بين البشر ومراكزهم وعلاقاتهم الاجتماعية.
تنمو المحبّة المسيحيّة في النفوس المتحدّة بالله؛ والمتجددة من محبّة الله، فهي زهرة المسك الطيبة التي تزرع وتسقي داخلنا نعمة الروح القدس لهذا تراها هادئة جوّادة سخيّة لا تنضب مطلقاً، وترى الإنسانيّة فقيرة أمامها ومستسلمة.
الآخرون ليسوا غرباء
تنظر المحبّة المسيحيّة للجميع بعطف وحنان وأيضاً للغرباء، ولا تعتبر أحداً غريباً عنها بل تعرف أنّ الجميع بشرٌ وأنّهم أولاد الآب السماوي الواحد، وهم أيضاً إخوتنا، فالله أبونا المشترك “هذه أبّوة الله المشتركة تخلق بيننا وبين الآخرين قرابة حميمية ورباط دائم”.وفوق هذا الآخر ليس غريباً عنّا بل أخونا ولذا محبتنا له يجب أن تكون طبيعية، فنشعر بمحبته كمحبتنا وفرحه فرحنا وحزنه حزننا، وأن نملّكه قلوبنا ونحبّه محبّة فائقة.
والآخرون الذين يؤمنون بالمسيح هم أعضاء في جسد المسيح، ويكوّنون جسداً واحداً في المسيح، وكلّ واحد عضو في الآخر “نحن في كثرتنا جسدٌ واحد في المسيح لأنّنا أعضاء بعضنا لبعض” (رو5:12) هذا ما يعلّمه القديس بولس الرسول؛ فهل من المنطق أنّ عضواً واحداً من هذا الجسد أن يكون مختلفاً عن الآخر؟ “فإذا تألّم عضو تألمت معه سائر الأعضاء” (1كور26:12). عضو الجسد الواحد الذي لا يشترك بألم الجسد الواحد فاسدٌ ميت نتن، لهذا فعلى المسيحي أن يشعر بألم الآخر كألمه الشخصي، والمسيحي من لا ينجح بإعطاء محبّة وميلاً للقريب ميت روحي، وليس من الممكن أن يكون عضواً حياً في جسد المسيح بل ميتاً ومندثراً وغير نافع.
الآخرون قطعة منّا
الآخرون إخوتنا وأعضاء في الجسد الواحد-هم ونحن- بل هم جزءٌ من نفوسنا، ليسوا “آخرين” بل هم “نحن”. هذه الفكرة تسّهل علينا أن نفهم بشكل أفضل كُنْه المحبّة واتساعها، وهي تشرح جملة ربّنا يسوع “كنفسك”، “أحبب قريبك كنفسك”، وتعني أن أشعر بالآخر وأن أحسّ به كأنّه جزءٌ منّي، ومن نفسي؛ فالمحبّة لا تعني أن أُعطي الآخر إحساناً لكي أُنزل عن عاتقي مسؤولية أو أن يرتاح ضميري بأنّي عملت واجبي. بل تعني أن أتألم مع الآخر وألاّ أتمكّن أن آكل إن علمت أنّ الآخر جائع، وألاّ أستطيع أن أتذوّق وأتحسس دفئاً عندما أعلم أنّ الآخر لا مأوى له، وألاّ أنال هدوء البال إن كان الآخر يعوي من الألم.
المحبّة تعني الاهتمام بالآخر والقلق عليه، كما أهتم بنفسي وأقلق عليها. لهذا لا تسكن المحبّة في قلوب أنانية محبّة لذواتها؛ فالمحبّة تعني إخلاء ذواتنا، تعني حناناً وعطفاً على الآخر. فمن هو بجوارنا أحياناً كثيرة لا يكون بحاجة إلى مساعدتنا الماديّة بل يريد محبتنا، يريد اهتمامنا به، وأن يشعر بدفء قلوبنا نحوه عندما ننتبه عليه ونفكّر به. مرات كثيرة لا يهمّنا الآخرون بل نريد نحن أن نحبّ فقط وهذا يكفينا ويريحنا، فالتفكير بأنّ الآخر يحبّنا بصدقٍ يريح نفوسنا ويملؤنا شعوراً بالراحة ويخلق في نفوسنا بهجةً وفرحاً. هذه المشاعر علينا أن نقدّمها أيضاً للآخرين كما نحن نأخذها إن أردنا أن نكون أناس المحبّة، فقط أن نحبّهم بصدقٍ وأن نملكهم قلوبنا عندئذٍ نقدّم لهم عطية كبيرة وهدية من أجمل ما يكون، ونهب لهم المساعدة المرجّوة فيتعزّوا في الحياة ولا يشعروا بأنّهم لوحدهم فيها.
يقاسي الإنسان العصري من نقص العطف والحنان، فقد انتشرت اليوم أعمال الرحمة بكثرة بالإضافة إلى المؤسسات الإنسانيّة. فالإصلاح الاجتماعي اليوم معلّم من الدرجة الأولى ولكن ينقصه ويغيب عنه العطف والحنان، وهذا ما يطلبه عصرنا المنهك. فالمتألم والأرملة واليتيم المحروم من إرث الحياة، كلّ منهم يريد عطفاً وحناناً. الكثير يستطيع أن يقدّم لهم خبزاً للحياة ولكنّ قلّة من يعطي محبّة حقيقية الشيء الثمين الذي يطلبوه
لا يشبع الطعام الفاخر ولا تدفئ الملابس الباهظة الفقير أخونا إن لم يرافقها شفقة ومحبّة؛ فمن السهل على جيوبنا أن تعطي الفقير مالاً على أن تعطيه محبة وعطفاً؛ فالحنان والعطف يكلّفان كثيراً، عملتهما غالية وتقديمهما صعبٌ جداً. كم شدّد الرسول بولس في رسالته إلى رومية على المحبّة التي تتطلّب حناناً من الواحد للآخر! “ليوّد بعضكم بعضاً بمحبّة أخويّة” (رو10:12)
الأخ الجيّد يقدّم لأخيه محبّة أخوي’ة صادقة صافية نقيّة؛ فالحنان النقي الذي تقدّمه الأم لابنها، والعطف الذي يخرج من النفس الصالحة ومن القلب النبيل والضمير المستنير ومن الإنسان الروحي ليست مشاعر سقيمة مريضة بل مشاعر سامية مرضيّة لله.
المحبّة تتطلب تعباً
المحبّة المسيحية ليست بالأمر السهل بل تتطلّب تعباً وتضحية، تتطلّب جهاداً من أجل الآخر واهتماماً ورعاية. فإن أردت أن تكون إنسان المحبّة ستضحي من راحتك ساعات كثيرة، ولا تعمل الذي يروق لك ويريحك بل ما يريح الآخرين ويسعدهم. فلتقف إلى جانب أحدٍ ما من بحاجة لاهتمامك تحتاج تعباً وتضحية، ولكي ترشد شخصاً شارداً عن طريق الله تحتاج تعباً أكثر وتضحية روحية كافية، ولكي تتحمّل شريكاً شرساً أوزوجاً حادّ الطِباع أو جاراً وقحاًوتظهر محبّة إنسانيّة عليك بتقدّيم قدرٍ من التعب والتضحية. ولكي تخدم شخصاً عليك أن تصعد معه سلالم كثيرة لتجد له عملاً، ولكي تقدّم بكرم من مالك وأملاكك لتوقف وجع الآخر يحتاج كلّ هذا لتعبٍ وتضحية.
المحبّة تقدمة مستمرة، فعل تضحية. أمّا نحن فننتظر تقدمات من الآخرين لنتمتّع بانشراح نفسي وسعادة ولا نحاول تقديم محبتنا لأي شخص كان بحاجة إليها، يقول “راؤول فوليرو”: “التعاسة الكبيرة ألاّ نكون نافعين لأحدٍ”.
المحبّة طيبة لا متناهية
المحبّة طيبة لا متناهية، صلاح دون حدود. فمن يحبّ يراه الجميع بعين حسنة ” المحبّة لا تظن السوء” (1كور5:13)، ولا يفكرّ بالسوء تجاه أخيه ولا يشكّ فيه ولا ينظر إليه بدونية ولا يفرح مطلقاً عندما يمرّ الآخر بضيقة ما أو خسارة أو أنّه يتعثر في مكان ويسقط “المحبّة لا تفرح بالإثم”، ولا أن يغار منه ويحسد نجاحه “المحبّة لا تحسد” (1كور6:13، 4).
إنسان المحبّة يحبّ كلّ الناس ولا يفرّق بينهم ولا يقيس نفسه بهم ويعلو عليهم، بل يراهم بنظرة واحدة ويعطي الكلّ طيبة لا متناهية ويكون للكلّ كريماً ومحترماً ولديه حسن استعداد لخدمتهم وأن يكون متسامحاً ونافعاً لهم ولا يتعامل مع أحدٍ بقساوة وفظاظة “المحبّة لا تقبّح”
تشبه المحبّة نهراً لا حدود له يسقي ويندّي في طرقه كلّ الأماكن التي يمرّ فيها دون تمييز. وهكذا المحبّة تعمل ولا تعرف ما هي الكراهية والحسد والانتقام، بل تنسى الشرّ وتسامح الذي فعله الآخرون بسهولة، تعرف الصبر والاحتمال على سوء طباع الآخرين وتظفر بكلّ شيء، لا تجرح ولا تمسّ ولا تهين أحداً، لا تحتقر أو تستهين بالأخ الآخر أو تؤذيه، وإن وقعت المحبّة في مكانة رئاسة ما لا تضغط أو تضيّق على مرؤوسيها.
المحبّة لا تقطر سمّاً ولا تضرّ أو تؤذي بل تنثر بسمتها وطيبتها في كلّ مكان.