الكتاب المقدس: أيقونة كلامية
الأب جون بريك
نقلها إلى العربية الأب أنطوان ملكي
سَبَق أن عالجنا موضوع العلاقة بين الحدث (fact) والحقيقة (truth) في القصص الكتابية عن يسوع. وقد حاولت أن أظهر أن السؤال “هل حدث الأمر بهذه الطريقة فعلاً؟” ينشأ من سوء فهم يخلط بين الحدث والحقيقة، فيما يغفل عن أنّ كلّ ما يُذكَر كحدث قد تمّت تصفيته عبر خبرة الراوي وفهمه. لهذا السبب، ما نتسلّمه كحدث يتلوّن دائماً ويتكيّف بالتفسير: بتفسيرنا نحن، عندما يتعلّق الأمر بخبرتنا الشخصية، أو بخبرة الشخص الذي ينقل المعلومة إلينا.
في ما يختصّ بروايات الحَبَل بيسوع وميلاده، علينا أن نعرف أنّها تمثّل تركيباً من الحقيقة التاريخية – أي ما نسميه حدثاً – والمعنى الفائق الذي تعجز الكلمات البشرية عن التعبير عنه إلاّ من خلال الصور والتشابيه. تقدّم أمثال يسوع مثالاً ممتازاً. إنّها قصص مبنية على خبرة مشتركة يعرفها السامع على أنّها حدث: سلطة الملك أو رب المنزل، اهتمام الراعي بقطيعه، وغيرها. يأخذ يسوع هذه الحقائق المعروفة ويستعملها كصور، أي كأيقونات كلامية، للتعبير عن معنى يخاطب خبرة مستمعيه المباشرة. إذ يتكهّن المستمعون، ولاحقاً قرّاء الكتاب المقدس، على أساس خبراتهم الشخصية، يرون بسهولة صورة الله كسيّد وقاضٍ في الملك أو الحاكم، كما يرون في الدورة الزراعية إشارة إلى حضور الله وعمله في الخليقة، وفي حكّام الشعوب إنذاراً عن الدينونة ودعوة إلى الشفقة، وفي الراعي شهادة لاهتمام المسيح بأن “يطلب الضائع ويخلّصه”.
لم يقصد يسوع أبداً أن تؤخَذ الأمثال كأحداث بمعنى أنّها تسرد أحداثاً جرت بالفعل. إنّها رسوم، صور كلامية، تتخطى ذاتها مشيرة إلى حقيقة أكثر عمقاً. لهذا السبب، إنها “أكثر من حدث”. مع أن أساسها هو حقائق يومية مألوفة، فإنها ترفع المستمع إلى مستوى أعلى، إلى منزلة من الحقيقة المطلقة تتعلّق بعلاقتنا مع الله الأبدي. بهذا المعنى، قصة الخلق، فعلياً الإصحاحات الأحد عشر الأولى من كتاب التكوين، يمكن أن نعتبرها من الأمثال. إذا سألنا “هل حدثت بهذه الطريقة؟” الجواب هو نعم ولا. نعم، بقدر ما تؤكّد رواية الخلق أنّ الله هو الكاتب الوحيد لكل ما هو موجود، وأن كل شيء أتى “من العدم إلى الوجود” بإرادته وبقدرته، وبأنّ ما خلقه ويستمر في خلقه هو بالجوهر “حسن”. لكن لا، بقدر ما هو معروف اليوم، ومبرهَن علمياً إذا شئتم، بأن الكون ليس مؤلفاً من طبقات ثلاث حيث “الماء فوق قبة السماء”، وأن أيام الخليقة لا يمكن فهمها حرفياً على أنها فترات من أربع وعشرين ساعة.
لكي نعبّر بعبارات أكثر تقنية، هناك وجه “خرافي mythological” لكل قصة إنجيلية، بما فيها رواية الميلاد. لكن لقول ذلك، نحتاج لأن نكون واضحين جداً حول معنى الخرافة. الخرافة ليست أسطورة ولا هي قصة مختَرَعة. ولا ينبغي أن ندمج بين الخرافة والحكاية الرمزية ذات المعنى الأخلاقي. بالمعنى الدقيق للكلمة، الخرافة هي رواية تخدم التعبير، بلغة وصور بشرية، عن حقائق تتخطى ما نعتبره تاريخياً صرفاً. بعض الحقائق، كالعواطف والطموحات، أفضل اللغات للتعبير عنها هي اللغة الشعرية. الوقائع المتعالية، أي الحقائق عن الحياة الداخلية والعمل الظاهر لله مثلاً، أفضل تعبير عنها يكون بلغة الخرافة.
إذا بدا هذا الكلام ملتبساً، فالأرجح أنه بسبب ميلنا إلى إساءة إدراك مفهوم “التاريخ” أو “الحقيقة التاريخية”. مضلِّلين بثنائية فكرية، نخلق ازدواجية غير ملائمة بين الوقتي والأبدي، على غرار ما نفعل دائماً بين الحقيقة والحدث. نحن نعتبر أنّهما يتضمنان مجالات مختلفة من الحقيقة، بينما هما يندمجان ببعضهما دائماً. لقد وُجِد الكون كنتيجة للبيغ بانغ، لكن سبب العجز عن الإجابة على السؤال “ما الذي حدث قبل ذلك؟” هو أن الزمن نفسه لم يوجَد، بينما الخالق كان موجوداً، وفي لحظة زمنية محددة حرّك ما نعرفه بالحقيقة المادية والتاريخية. إذاً، لا يمكننا أن نفهم الوجه التاريخي أو “الواقعي” للخلق، من دون الإشارة إلى الخالق المتعالي (مع أن كثيرين حاولوا…).
بشكل مماثل، حضور يسوع في حياة الناس وخبرتهم تمّ في الماضي كنتيجة لبعض الوقائع المحددة تاريخياً، أي أنه وُلِد وصُلِب ودُفِن في أماكن وأوقات محددة. لكن في الوقت نفسه، هذه الولادة وهذا الموت منقولان بأهمية أكبر، لأنّهما مركَبَتان للتدخل الإلهي في الحقيقة التاريخية. إن الذي وُلِد من العذراء مريم هو كائن بشري لكنّه الابن الأزلي للآب، وهو الذي موته ومن ثم قيامته يحدد العبور الحاسم إلى الحياة الأبدية. هنا نجد ذروة الاندماج بين الزمان والأبدية، بين الحَدَث التاريخي والحقيقة المتعالية.
كون الله حاضراً وفاعلاً في كل حدث من أحداث التاريخ البشري كما هو في كل خبراتنا الشخصية والحميمة، من الواجب أن نصحح كل ازدواجية خاطئة بين الزمان والأبدية، بين الحَدَث والحقيقة. كل الزمان تتخلله الأبدية، تماماً كما أن لكل حَدَثٍ القدرة على أن يُبلِغ بعض أوجه الحقيقة المطلقة. مع هذا، فإن الأبدية تتخطى الزمان بقدر ما تتخطى الحقيقة الحَدَث البسيط. تحاول اللغة أن تعبّر عن هذه العلاقة الداخلية، وهي تكون أكثر فاعلية باتخاذها شكل الخرافة: رواية بكلمات بشرية تعبّر بطريقتها الخاصة عن السر الذي لا يُعَبَّر عنه جوهرياً، سرّ التفاعل الإلهي البشري.
لهذا السبب نحن نؤكّد أنّ رواية الخلق في سفر التكوين هي رواية حقيقية، مع أن كل عناصر القصة ليست “واقعية”. وهذا يشرح سبب أنّ كل روايات ميلاد المسيح وموته وقيامته وتمجيده صحيحة، مع أنّه يستحيل تأكيد صحّة كل التفاصيل بما يقنع المشككين الذين قد يتواجدون. حقيقة هذه الروايات، في أي حال، لا تخلو من الموضوعية، إذ يمكن إدراكها فقط بعيني الإيمان. توما رأى وآمن، على غرار ما فعل الرسل الباقون مع كثيرين غيرهم (1كورنثوس 3:15-8). ما رأوه كان حقيقة: حقيقة تاريخية بقدر ما شاهدوا السيد في الجسد، وحقيقة متعالية بقدر ما تجلّى ذلك الجسد إلى جسد القيامة.
الأمر الذي غالباً ما نغفل عنه هو أنّ مّا نسمّيه حدثاً أو زمناً أو حقيقة تاريخية يكون دوماً ممتلئاً بالحضور والمعنى الأبديين. إن عبارة “الأخروية المحققة” ليست مجرّد اصطلاح لاهوتي. إنّها أيضاً أيقونة كلامية تسعى إلى التعبير عن حقيقة لا توصَف. إنها تعني أن العالم ذاته، بحسب كلمات جيرار مانلي هوبكينز المشهورة “مشبَع بعظمة الله”. الروايات الكتابية، سواء صنفنّاها كواقعية أو تاريخية أو تعليمية أو خرافية، هي أيقونات كلامية تهدف إلى القبض على هذه العظمة وجعلها مفهومة بشكل اللغة البشرية وتقديمها لنا كشهادة محيية لما هو صحيح بالمطلق وبكل تأكيد.
المقال االسابق
المقال التالي