في البساطة
الأب فاسيلي تودورا
نقلتها إلى العربية الخورية جولي عطية عيسى
منذُ بِضعة أيّام، كنتُ أتحدّثُ مع صديقٍ لي، وهو مرتِّلٌ بارعٌ، حول تفسير قطعٍ ليتورجيّةٍ موسيقيّةٍ متنوِّعة. وخلال محادثتنا، قال تعليقًا رسخَ في ذهني: من الأسهل لكَ أن تؤدّي ترتيلةً بأداءٍ فنّيٍّ ماهرٍ مِن أن ترتَّلها عينها بأسلوبٍ بسيطٍ وعميقٍ في آن. والسببُ يعودُ إلى أنّ المرتِّلَ يكونُ متحمِّسًا لتعلّمِ العناصرِ المُعقَّدة كلِّها، واكتشافِ كافّة وجوه الموسيقى، ولكنَّهُ ما إن يفهم لاحقًا أنّ هذه الموسيقى ليسَت موسيقى عاديَّةً بل موسيقى ليتورجيّة، وما إن يتمكَّن أخيرًا مِن دمجِ معنى التَّرتيلةِ بلحنِها، فحينَها فقط، تظهرُ البَساطةُ مِن تلقاء نفسها. فالبَساطة ليست نقصًا في الموهبةِ بل تأتي من فهمٍ أعمق، من اتّضاعِ المُرتِّل الذي يُمسي آلةً متواضعةً تنقلُ للآخرين الحقيقةَ التي عبَّرَ عنها الآباءُ القدِّيسون في النَّظْم الَّذي يرتِّله.
عاشَ في صحراء مِصرَ في زمن القدِّيس أنطونيوس الكبير شيخٌ اسمه بولس. كان بولس مزارعًا في حياته السَّابقة، وبعد استئذانه زوجتَه غير المُخلِصة له، التمسَ الرَّهبنةَ مع القدِّيس أنطونيوس الكبير. في البدء، لم يقبله القدِّيس أنطونيوس لكي يمتحنه، ولكن بعد أن رأى إرادتَهُ الثَّابتةَ (انتظرَ الجوابَ ثلاثة أيَّامٍ خارج قلاّية القدِّيس أنطونيوس)، قَبِلَهُ زميلاً عاملاً في حَقلِ الرَّبّ. عاشَ بولسُ المنحدرُ من أصولٍ مُتواضعةٍ حياةً متواضعةً جدًّا وتقيّةً، ومِن هُنا دُعي بالبَسيط. إلاّ أنَّ كَونهُ بَسيطًا لَم يَعنِ أنَّهُ كان يفتقدُ إلى المَعرفةِ الرُّوحيَّة، بَل بالعكس، اقتبلَ هباتٍ روحيّةً عظيمةً، من ضِمنها القدرة على طردِ الشَّياطين. يُقالُ إنّ القدِّيسَ أنطونيوس رفضَ مرّةً أن يشفي شابًّا ممسوسًا وقال: “لا يمكنني مساعدة الصبيِّ لأنّني لم أتلقَّ السُّلطة على أمير الشَّياطين. إلاّ أنّ بولسَ البسيط لديه هذه المَوهبة“، وقد ساعدَ هذا الأخيرُ الصبيَّ مُصلِّيًّا ببساطةٍ حقيقيَّةٍ: “ربّي يسوع المسيح، بصلواتِ أبي أنطونيوس، أطردِ الشَّياطين“.
تنبعُ البساطةُ الأصيلةُ من إيمانٍ عميقٍ وإدراكٍ بليغٍ لعلاقتنا بالله. اللاهوتُ الأكاديميُّ يجذِبُ مَن يستقصي غنى الأرثوذكسيَّة، لكنّ التمكُّنَ من الاستشهادِ بالقدّيس مكسيموس المُعترف باليونانيَّة القديمة أو التمكُّنَ من التَّعليق على التَّرجمةِ الصَّحيحةِ لكلمةٍ غامضةٍ في النُّسخة الآراميَّة من إنجيل متَّى، لا يعنيان أنَّ حياةَ الإنسانِ قائمةٌ على الأسسِ الَّتي قد يخطبُ بها مِن على المنبر. اللاهوتيُّ الحقيقيُّ، كما يشيرُ جيّدًا أسقُفنا المعاصر، هو الإنسان المُصَلِّي. الأمرُ بهذه البساطة. والباقي هو إعادة الكلام على خبرةِ الصَّلاة لدى آخرين، ومجرَّد عرضٍ لأمورٍ قيِّمةٍ لم نشاركْ فيها.
إنّ جوهرَ إيماننا هوَ بالحقيقة بسيطٌ للغاية، وهو أنَّ ثمَّةَ إلهٌ خلقنا وصار مثلنا لنستطيع أن نصير مثله. ومِن أجل أن يفعل ذلكَ، ماتَ وقامَ من بين الأموات وصعدَ إلى السَّموات، مُصعِدًا الطَّبيعة البشريَّة نَحوَ العرش السَّماويّ. كلّ ما علينا فعله هو أن نتبعه، وأن نحمل صُلباننا وننطلق.
لماذا لا نرى هذه الحقيقةَ البسيطة؟ لأنّنا مأخوذون بالتَّفسير، والنَّظرياتِ الموسيقيَّةِ الجميلة، والعقائد، واللِّيتورجيا، والمواعظ… نحبُّ أن نظنَّ أنفسَنا أذكياء نفهمُ هذه الأمورَ كلَّها، وفي اندفاعِنا للحصولِ على التَّفاصيلِ المعقَّدةِ كلِّها، ننسى الحقيقةَ البسيطةَ التي تستكينُ أمامنا: أنَّ الحياةَ في المسيح ليست للتأمُّلِ بَل للعَيش.
ها إنَّ عيدَ الميلاد يقترب. هو عيدٌ يحتفلُ قبلَ كلَّ شيءٍ بالبساطةِ البليغةِ لإلهنا الذي تركَ كلَّ مَجدِ مسكنِهِ السماويِّ واختارَ أن يُولدَ مَجهولاً في مِذودٍ مُتواضعٍ في مدينةِ بيتَ لحمَ الصَّغيرة.
لم تُلقَ المواعظُ في ميلادِ رئيسِ كهنةِ العالم، لَم تُعلنِ الأناشيدُ عن مَجيء مَن هوَ من نسلِ داود الشَّاعر والملك، لم يَحتشدْ جمعٌ في القصر من أجل دخول ملك المَجد. فقط حمارٌ وثورُ اقتربا من المَهدِ العفوي لكي يُتمَّا نبوءةَ أشعياء: “الثَّور يعرفُ قانيَهُ والحمارُ مِعلَفَ صاحِبِه، أمَّا إسرائيلُ فلا يعرفُ. شعبي لا يَفهم” (أشعياء 1: 3).
الإنجيل، الخبر السارُّ الذي جلبَهُ المسيح بتجسِّده، هو في الواقع ملخَّصٌ في اقتراحٍ بسيط، بسيطٍ جدًّا: اتبعوني! اتبعوني في بَساطة حياتي، اتبعوني في مساعدَتِكُم قريبَكم، اتبعوني في تبشيرِكُم بالحقيقةِ في حياتكُم، اتبعوني في حملِكُم صليبَكُم، اتبعوني في موتِكُم عَن أهوائِكُم، اتبعوني في قيامةِ الحقّ، اتبعوني في المَلكوت!
لقد قادَنا إلى السَّبيلِ بسيرِه فيها أوَّلاً، بفتحهِ الطَّريقَ إلى الملكوت للصٍّ وخاطئٍ مثلنا. هو ليسَ سوى محبَّة، محبَّة متجسِّدة تفيضُ من كأسِ المناولة المقدَّسة، ليستطيعَ الدُّخولَ فينا كلِّنا وجعلنا مثلَه، محبَّة.
رحِّبوا بالمسيح في بيوتِكُم في هذا الميلاد. قلبكُم هو المَهدُ الوحيدُ الَّذي يحتاجُ إليه، صلاتُكُم هي النَّشيدُ الوحيدُ للمجدِ الَّذي يرغبُ بسماعِه، صداقتُكم هيَ الصُّحبةُ الوحيدةُ الَّتي يبتغيها. هو واحدٌ منَّا ويريدُ أن يجعلَنا خاصَّته.
اقتربوا من المِذوَدِ وأَصْغوا بانتباهٍ إلى الدَّعوةِ البسيطةِ الصَّادرةِ مِن فمِ مرنّمٍ مُسنٍّ ومُتواضِع: وُلدَ المسيحُ، فَمَجِّدوه!