الكتاب المقدّس والليتورجيا
الأب جون بريك
نقلها إلى العربية الأب أنطوان ملكي
تُحدَّد الأرثوذكسيةُ بصفة حفظ العلاقة الجوهرية والمتلازمة بين الكتاب المقدس والليتورجيا، بين الوحي الإلهي كونه المصدر القانوني والمعياري لإيماننا، والاحتفال بهذا الإيمان في عبادة الكنيسة. الإيمان، مؤسَّساً في الكتاب المقدس، يحدّد محتوى عبادتنا، والعبادة تقدّم التعبير عن إيماننا.
هذا المبدأ، مرة أخرى، يُعبَّر عنه في الجملة اللاتينية “lex orandi lex est credendi” التي معناها أن قانون العبادة عندنا لا يختلف عن قانون إيماننا. تتشكّل صلاتنا بلاهوتنا وتعبّر عنه، تماماً كما أنّ لاهوتنا يستنير ويتعمّق بصلاتنا.
في خدمنا الليتورجية، نمدح ونبارك ونوقّر الإله الذي منه نتسلّم النعمة الخلاصية وعطية الحياة الأبدية. وفقاً لذلك، نختم ليتورجيتنا الإفخارستية بصلاة وراء المنبر في وسط الشعب، التي تبدأ هكذا: “يا ربّ يا من تبارك الذين يباركونك وتقدّس المتّكلين عليك، خلّص شعبك وبارك ميراثك، واحفظ كمال كنيستك…”
المعنى الأكثر عمقاً للإيمان هو الأمانة، أي الثقة الكاملة الثابتة بحرص الله الكامل علينا. تجاوباً مع أمانتنا، التي نعبّر عنها من خلال العبادة التي بها “نباركه”، يمنحنا الله بركات إضافية. تتضمّن علاقتنا به حركة تبادلية. من خلال العبادة نقدّم أنفسنا إليه، وأيضاً من خلال هذه العبادة نفسها يقدّم نفسه لنا. نحن “نباركه” بشكرنا وتوقيرنا وتسبيحنا، ونتبارك به بتدفق نعمته الإلهية المستمر.
تبلغ هذه الإيماءة المتبادلة من عطاء الذات ذروتها في القداس الإلهي، عندما نقدّم لله ثمرة الأرض التي سبق له أن منحها لنا: “لتي لك مما لك…”. بالمقابل نتسلّم التغذية من يده بشكل المناولة التي تؤهّلنا فعلياً للاشتراك في حياته عبر المشاركة في جسد ابنه القائم الممجَد، ودمه. في الخدمة الإفخارستية، نختبر حقيقة الإنجيل وملئه. وفوق كل شيء، نصير واعين للرباط الحيوي، أي للوحدة الفعلية، القائم بين الإنجيل والليتورجيا، بين ما هو مكتوب، أي المصدر القانوني للإيمان، وتحقيق هذا الإيمان في صلاة الكنيسة.
هذه العلاقة الأساسية بين الكتاب المقدس والليتورجيا جليّة في الكتاب المقدس. الكتاب العبري، عهدنا القديم، مليء بالتسابيح الليتورجية، ومن بينها كتاب المزامير المألوف جداً. نشأ في الفترة بين العهدين وفرة من التسابيح التي دُمجت مع الكتابات القانونية وغير القانونية، بما فيها نشيد عزرا والفتية الثلاثة (أي دانيال في السبعينية)، صلاة منسّى، الهودايوت أو كتاب الأناشيد وترانيم السبت من قمران، ومزامير سليمان من القرن الأول.
نجد في العهد الجديد أقسام أو أجزاء من النصوص التي تمّ تبنّيها في أناشيد المسيحية في القرون الأولى، كتسابيح مريم، زخريا وسمعان في روايات الرسول لوقا عن ميلاد المسيح وطفولته (لوقا 1و2). يشير الرسول بولس إلى “المزامير، التسابيح والترانيم الروحية”، التي يصعب تحديدها بل تدلّ بوضوح على العناصر الليتورجية المألوفة عند مسيحيي الفترة الأولى. تبدو أجزاء التسابيح حاضرة في مقاطع مثل كورنثوس الأولى 54:15-55، أفسس 14:5، عبرانيين 1:1-4، تيموثاوس الأولى 16:3، بطرس الأولى 22:2-24، وفي كل كتاب الرؤيا.
تظهر التسابيح الاعترافية أو الإيمانية في المقاطع المعروفة جيداً من فيليبي 5:2-11 وكولوسي 15ك2-19. ويرى بعض دارسي الكتاب المحترمين أنّ مقدمة إنجيل يوحنا (1:1-18) قد تمّ تبنّيها من نشيد مسيحي (غنوصي إلى حد ما) من فترة مبكرة. في أي حال، بما أنّ بنية هذه المقاطع هي بحسب النموذج الأدبي المعروف بالمتقاطع “chiasmus”، من الصعب القول ما إذا كان إيقاعها بالحقيقة تسبيحي، ما يعني أن شكلها الأصلي كان ينشَد في الخدم الليتورجية (يؤمن الكثير من الباحثين أن فيليبي 2، على سبيل المثال، كانت تُنشَد تجاوبياً في بعض الجماعات البولسية)، أو أنّ هذا الإيقاع ينشأ من التوازن الشعري الناتج عن التوازي المتراكز. في كلي الحالتين، يكمن وراء هذه المقاطع الكتابية عناصر مرجَّحة من عبادة الجماعة في كنيسة الفترة الأولى، حيث يُرتَّل بعضها ويقرأ بعضها الآخر، مثل دستور الإيمان.
أساسي لنا أن ندرك ونحفظ هذه العلاقة القوية القائمة بين قانون الكنيسة وتقليدها الليتورجي. ما نعترف به بشفاهنا على شكل تصاريح إيمانية، ما ننشد على شكل أنتيفونات أو بروكيمنا (مأخوذة من المزامير)، الاستيخونات (أي مقاطع المعزي وأبوستيخن الغروب) وما شابهها من العناصر الليتورجية المماثلة، كلّها تعبّر عن القناعات الراسخة في القلب. وهذه القناعات الراسخة تأتي مباشرة من إعلان الله عن نفسه في الكتاب المقدّس.
إذا كانت الطوائف المسيحية الأخرى تجد نفسها غالباً في حالة من الأزمة، فهذا مردّه بشكل واسع إلى أنّ هذا الرباط الحيوي بين الكتاب المقدّس والليتورجيا قد انقطع في تقاليدها عبر التاريخ. عندما يحدث هذا الأمر، النتيجة التي لا يمكن تلافيها هي إنتاج دراسات كتابية هي أكثر من تمارين بقليل في النقد الكتابي أو التحليل الأدبي، كما ينتج خدمة عبادية خالية عملياً من المحتوى الروحي الأصيل. النتيجة المنطقية لهذا الانقطاع بين كتاب الكنيسة وعبادتها هو ظواهر مثل مؤتمر يسوع (Jesus Seminar) من جهة، وقداس الجّاز (jazz) من جهة أخرى. إن أي تفسير كتابي غير مبني على العبادة سوف يحدّ اهتمامه، بشكل محتّم، في “المعنى الأدبى” للمقطع الكتابي؛ تماماً كما أن العبادة التي لا تعلن الإنجيل سوف تنحطّ حتمياً إلى ضجّة تُقَوية، فراغ من كل محتوى رزين، أو ببساطة سوف يتحوّل هدفها إلى تأمين “ارتقاء” نفسي، مجرَّد من العمق الروحي والغاية المتعالية على حدّ سواء.
قد يكون من السهل تخطيء البروتستانت والكاثوليك لسماحهم بتطوّر هذا الافتراق في تقليديهم عبر السنين. من ناحية ثانية، ينبغي عدم إهمال حقيقة أن هذه العلاقة الحميمة المتبادلة بين الكتاب والليتورجيا قد انحفظت في الأرثوذكسية، لا بفعلنا الشخصي بل بعمل النعمة الكامل، الذي من دونه لكانت الأرثوذكسية اختفت منذ زمن طويل تحت ضغوط الاضطهاد والاستشهاد. إذا كانت الأرثوذكسية هي “الإيمان القويم” أو “العبادة الصحيحة” فهذا لأنّ الروح القدس كان يؤازرها على هذا المنوال من جيل إلى جيل.
إن واجبنا كأرثوذكس، ليس في أن ننتقد وندين أولئك الذين فقدوا إدراك هذه الوحدة الحيوية التي ينبغي وجودها بين الإنجيل العبادة. بل واجبنا بالأحرى هو أن نحتفل بفرح وامتنان متواضع بعطية الله الذي يبارك ويقدّس الذين يضعون اتكالهم عليه. إنّه في الاعتراف بكلمات الرسول يعقوب، التي نرددها في صلاة وراء المنبر، أنّ “كلّ عطية صالحة وكلّ موهبة كاملة هي من العلا، من لدن أبي الأنوار”، بما فيها الإيمان المولود في الإنجيل. إن واجبنا هو إذاً في التعبير عن هذا الإيمان الكتابي من خلال ليتورجيا الكنيسة، وبالتالي رفع “المجد والشكر والتسبيح للآب والابن والروح القدس الآن وكل أوان إلى الأبد”.