المرأة في العهد الجديد
ماريا قبارة
يُعتبر العهد الجديد، عهدًا متمّمًا وفاصلاً للعهد القديم، ليس فقط على مستوى العقيدة والشرائع المسيحيّة، بل، أيضًا، على مستوى الرؤية الأنثروبولوجيّة للإنسان، لا سيّما في ما يتعلّق برؤية يسوع للمرأة. فعديدة هي الآيات الإنجيليّة التي تناولت المرأة في كيانها الإنسانيّ والمجتمعيّ والحقوقيّ. ولعلَّها تُفصح لنا عن موقف يسوع النموذجيّ منها. إذ إنَّه، نظر إلى النساء نظرة احترام وتعاطف واحتضان، متخذًا حيالهنَّ موقفًا يدعو إلى الدهشة؛ موقفًا جعلَ التقاليد السائدة تنعكس وتنقلب ملغية الحظر عن النواهي إلى درجة صدم فيها بيئته وخصوصًا تلاميذه أنفسهم.
إنَّ المتمعّن في قراءة العهد الجديد، لا بدَّ له من أن يستنتج أنَّ يسوع يظهر كمصلحٍ للعهد القديم. غير أنَّ إصلاحه هذا يحافظ، في كثير من الأحيان، على بعض تعليم العهد القديم. ففي إنجيل لوقا، يقوم الرسول، على سبيل المثال، بمقارنة شخص العذراء مريم، أيّ حواء الثانية، بشخص حواء الأولى، لا سيّما في حديثه عن البشارة. نقرأ في هذا الإنجيل أنَّه عندما أتى الملاك جبرائيل مبشّرًا العذراء مريم بالحبل بعمانوئيل، أطاعت مريم مشيئة الله قائلة: “ها أنذا أمة للربّ، ليكن لي حسب قولك” (لوقا 38:1).
يعيد جوابُها هذا دَين المعصية عند حواء الأولى. فإذا كانت المرأة قد جاءت من الرجل في سفر التكوين فها هو آدم الجديد، أي يسوع في العهد الجديد، يأتي من المرأة [1].
من وجهة نظر اجتماعيّة، كان يسوع جريئًا في التعامل مع المرأة. ولعلَّه كان ثوريًّا فيما يتعلّق بقضيّتها في عصره. فمن الأمثلة الواضحة على هذا الطرح حواره مع المرأة السامريّة، الذي أثار دهشة تلاميذه لكونه يتحدَّث ليس فقط إلى سامريّة بل، أيضًا، إلى امرأة (يوحنّا 1:4-38).
وبمتابعتنا قصّة يسوع والمرأة السامريّة نجد أنَّ في الكتاب المقدَّس ليست هذه المرّة الأولى التي يتمّ فيها لقاء مهمّ بين رجل وامرأة قرب بئر الماء. فهناك لقاء رفقة بالخادم الذي أرسله إبراهيم (تكوين 10:24-26)، ولقاء يعقوب براحيل (تكوين 10:29-12)، ولقاء موسى بابنة كاهن مديان (خروج 15:2-17). لكنَّ لقاء يسوع بالسامريّة هنا اختلفَ عن كلِّ ما سبق في العهد القديم. لذلك استغربت السامريّة طلب يسوع قائلة: “أنت يهوديّ وأنا سامريّة، فكيف تطلب منِّي أن أسقيك؟” (يوحنّا 9:4). ونحن نعرف من الكتاب المقدَّس أنَّ اليهود لا يخالطون السامريّين. فهناك عداوة متأصّلة منذ أربعة قرون تقريبًا. فعندما شيَّد السامريّون هيكل جرِزيِّم قبالة هيكل أورشليم حوالي عام 332 ق.م. كان اليهود يعتبرون السامرييّن أكثر شرًّا من الغرباء وعبدة الأوثان. وهم يمثّلون شيعة مكروهة جدًّا لأنَّها شوّهت وأفسدت أثمن ما في الديانة بسبب الانحراف إلى عبادة آلهة كثيرة. وأيضًا، كان السامريّون يعامِلون اليهود بالمثل، يظهرون لهم الكراهية والضغينة ويرفضون ضيافتهم عند مرورهم في بلادهم زمن الفصح (لوقا 52:9-53).
بحسب المفهوم اليهوديّ، إذًا، تتجمّع في شخص السامريّة ثلاثة أسباب توجب يسوع أن يبتعد عنها في الحوار معها:
أ. إنَّها امرأة، والقاعدة العامّة في الشرق ألاَّ يوجّه الكلام إلى امرأة على انفراد في مكان عامّ.
ب. إنَّها خاطئة، كان لها خمسة أزواج وتعيش مع سادس ليس زوجها.
ت. العداوة بين اليهود والسامرييّن، كما سبق وأشرنا.
أمَّا يسوع، فقد ضربَ عرض الحائط بالتقاليد والعادات والمفاهيم اليهوديّة والسامريّة بحسب مفهومه النابع من حريّة شخصيّة مميّزة. نظرَ وتعاملَ معها كشخص بشريّ، امرأة بكلِّ أوضاعها الخاصّة ومشاكلها الإنسانيّة.
لقد قبلَ يسوع، أيضًا، بين أتباعه نساء عديدات، كان المجتمع ينبذهنَّ آنذاك، كالمرأة التي ضُبطت في الزنى (يوحنّا 1:8-11). لقد تحدَّى يسوع فيها قساوة الشريعة التي كان يبديها مجتمعه اليهوديّ حيال المرأة. يخبرنا الكتاب المقدَّس أنَّ الكتبة والفريسيّين أتوا بامرأة فيما كان يعلّم يسوع في الهيكل والشعب مجتمع حوله، وأقاموها وسط حلقة وقالوا ليسوع: “يا معلّم، إنَّ هذه المرأة أُخذت في الزنى المشهود، وقد أوصانا موسى في الشريعة برجم أمثالها، فأنت ماذا تقول؟” (يوحنّا 4:8-5). لقد أرادوا من وراء ذلك أن يحرجوه، فإمَّا يناقض خطَّ الرحمة الذي اعتمده خطًّا له، أو يخالف شريعة موسى أمام المتشدّدين في تطبيقها من كتبة وفريسيّين فيمنحهم بذلك ذريعة ليعتبروه كافرًا ومشجّعًا للزنى، وتاليًا مستحقًّا هو نفسه الموت “لأنّ الله أغلق على الجميع معًا في العصيان، لكي يرحم الجميع” (رومية32:11).
لقد أمسكت المرأة في زنى، أمّا هم فيفعلون الأمر نفسه في الخفاء. إنّهم يحافظون على الظواهر، وعلى أهداب الثياب العريضة، كما يبيّن ذلك الانجيلي متّى تفصيلاً: “الويل لكم أيها الفريسيون المراؤون…” (متى 1:23-33). ولذا كان يسوع عنيفًا جدًا نحوهم. إنهم يكذبون على الله ولكن الله يرى في الخفاء. لقد تذرّع الفريسيون بناموس موسى ليمسكوا المرأة ولكن يسوع انحنى يكتب على الأرض دلالة على أنه لا يأبه لمؤامرتهم، ولمّا بكّتهم ضميرهم، إذ جابههم يسوع بالحكم الحقاني الذي يتخطى حكم الناس[2].
إنَّ التحامل على المرأة واعتبارها أصل الشرور كان باديًا، بشكل واضح وجليّ، في هذه الحادثة. فشريعة موسى، التي يستند إليها الكتبة والفريسيّون، كانت تنصّ على: “في حال رجل فعل الزنى مع امرأة متزوجة، أن يرجم الفاعلان” (لاويّين10:20؛ تثنية الاشتراع 12: 22)، وليس المرأة وحدها. والمرأة هذه أُخذت في الزنى المشهود كما ورد أعلاه. فأين صاحبها؟ لقد تخلّى عنها، تركها تواجه العقاب وحدها، وكذلك تواطأ معه الرجال الذين قاموا بالمداهمة فتركوه يمضي واحتفظوا بالمرأة، وكأنَّ الوِزر يقع عليها وحدها. أليست هذه العقليّة سائدة حتّى الآن؟ ألا يقولون: “فتّش عن المرأة“؟ ألا يعتبر زنى الرجل المتزوّج ذنبًا يمكن التغاضي عنه، في حين أنَّ زنى الزوجة جريمة لا تغتفر؟ ألا تُلقى المسؤوليّة كلّها أو جلّها على الفتاة وحدها في حال حملت خارج الزواج أو حتّى في حال تعرّضها للاغتصاب؟ وفي حال إقدام امرأة على الخيانة الزوجيّة، هل يسأل أحد عن طبيعة معاملة الزوج لها والتي دفعت بها دفعًا إلى الخيانة؟
كلّ هذا واجهه يسوع عندما رُفعت تلك المرأة إليه من قبل القائمين على الشريعة. اتّخذوا من خطيئة المرأة ذريعة ليتحوّلوا عن مواجهة خطيئتهم الشخصيّة، ويمنحوا أنفسهم شهادة تبرير يستمدّونها من تمسّكهم بحرف الناموس، وحرصهم على تنفيذ أحكامه بحذافيرها بحقّ من اتّخذوها كبشًا للفداء. هذا ما أراده يسوع أن يلفتهم إليه عندما قال لهم: “من منكم بلا خطيئة فليتقدّم ويرجمها بحجر” (يوحنّا 7:8)، وأكبَّ يكتب على الأرض ليدع لهم مجال العودة إلى نفوسهم ومحاسبتها. وهكذا انسحبَ المتّهِمون الواحد تلو الآخر بعد أن انكشفت لهم حقيقتهم وتركوا المرأة وحدها في مواجهة يسوع الذي وقفَ إلى جانبها في وجه تسلّط الرجال وظلمهم “فالأكثر إحساسًا بخطاياه يغادر أولاً“[3]. وقف معها رغم خطيئتها، فهو لم يكن مع خطيئتها لأنَّ الخطيئة هي عدوّة لها تؤذي إنسانيّتها. “أنا لا أحكم عليك (…) اذهبي ولا تعودي إلى الخطيئة” (يوحنّا 11:8). لقد ألقى يسوع الضوء في حالة هذه المرأة الزانية على مسؤوليّة الرجل وأدان الفعل وليس الإنسان.
أمَّا قصّته مع المرأة النازفة الدم، ومغفرة خطيئة المرأة التي دهنته بالطيب في بيت سمعان الفريسيّ، فما هما إلاَّ تعبيران صريحَان على طرحنا بأنَّ يسوع عمل انقلابًا جذريًّا في التعامل مع المرأة. لم يتردّد يسوع في إبداء إعجابه علنًا بإيمان المرأة الكنعانيّة، في حين أنَّ المجتمع اليهوديّ آنذاك كان يهمّش المرأة حتّى دينيًّا، كما رأينا سابقًا. فقد قال علنًا للمرأة الكنعانيّة الوثنيّة: “ما أعظم إيمانك أيّتها المرأة” (متّى 28:25).
نورد، أيضًا، نماذج عدَّة لنساء تبعن يسوع في الخدمة كما يخبرنا الانجيليّ لوقا (1:8-3). فيسوع قبِل بنساء قدّيسات (لوقا 1:8-3؛ متّى 1:25-13)، واعتمد، أيضًا، على كثيرات منهنَّ في خدمته (يوحنّا 26:19، 17:20)، إذ لم تقتصر هذه الخدمة على تقديم شيء من أموالهنَّ فقط، بل كنَّ أساسيات في عمل الجماعة المسيحيّة الأولى[4].
تجدر الإشارة في هذا السياق إلى أنَّ يسوع اتّخذ المرأة نموذجًا في الكثير من الأمثال، كمثل الدرهم الضائع (لوقا 8:15-10)، ومثل العذارى العاقلات (متى 1:25-13)، وفلس الأرملة (لوقا 2:18-8)[5]. وسمَّى يسوع، أيضًا، لنفسه “إخوة وأخوات” (متّى 22:9؛ مرقس 34:6)، وتعامل في تعليمه وعجائبه مع المرأة مثلما تعامل مع الرجل. هنالك أمثلة عديدة تشهد على صحة هذا القول، ولعلَّ أهمّها، أيضًا، دور النسوة في اللحظات الحرجة من حياة يسوع، لا سيّما عند صلبه. ففي حين تركه الجميع بمن فيهم تلاميذه عند الصليب، يتحدَّث الإنجيليّون عن بعض النسوة اللواتي رافقن السيّد وقد تراءى لهنَّ، أوّلاً، بعد قيامته (مرقس 1:16-8). توضح هذه الأمثلة كلّها الأدوار الفريدة والاستثنائيّة التي قامت بها النساء في عمل المسيح.
احتلّت المرأة، أيضًا، موقعًا مهمًّا في حياة الكنيسة الأولى. إذ كان الاجتماع يتمّ في بيت مريم، والدة مرقس (أعمال 12:12)، حيث كانت الجماعة المسيحيّة “تواظب على الصلاة بنفس واحدة والطلبات مع النساء ومريم أم يسوع ومع إخوته” (أعمال 14:1)، وقد عرفت الجماعة المسيحيّة دورًا حيويًّا للمرأة بعد العنصرة.
فتحرير المرأة، الذي سعى إليه يسوع، هو تحرير جذريّ يتخطّى استعادة حقوق مهدورة أو كرامات مجروحة، لا بل إنَّه تحرير للكائن البشريّ في عمقه؛ تحريرٌ شبيه بإعادة الخلق. فكأنّي بيسوع محرّر المرأة يعيد خلقها من جديد، صائرًا بذلك مصدر وجودها وأساسه.
[1] Ειρηναίου, Κατά αιρέσεων, PG. 7, σ. 958
[2] رهبنة دير مارجرجس الحرف، “دراسات كتابية 3، انجيل يوحنا“، لبنان، منشورات النور، 1986، ص 134-135.
[3] الأب ميشال نجم، “التفسير المسيحي القديم للكتاب المقدس، العهد الجديد 4-أ“، لبنان، منشورات جامعة البلمند، 2013.
[4] Θρησκευτική και Ηθική Εγκυκλοπαίδεια, τόµ. ∆’, Εκδότης Αθ. Μαρτίνος, Αθήναι : 1962-1968, σ. 855.
[5] أنظر، أيضًا، الأمثال: “مثل الخميرة” (متّى 33:13)؛ “مثل الفرح بعد الحزن” (يوحنّا 20:16-22)؛ “الأرملة الفقيرة” (مرقس 41:12-44؛ لوقا 1:21-4)؛ “أرملة نايين” (لوقا 13:7).