ازدراع الصراع الغربي مع العلم في الشرق الأرثوذكسي
الأب جورج ميتيلينوس
يتكوّن التنوير الأوروبي من صراع بين التجريبية الطبيعية وماورائيات أرسطو. التنويريون هم الفلاسفة والعقلانيون معاً. كان التنويريون اليونانيون، وعلى رأسهم آدمانتيوس كوراييس، ماورائيين في لاهوتهم، وهم مَن نقل الصراع بين التجريبيين والماورائيين إلى اليونان. ومع ذلك، ظل الرهبان الأرثوذكس في جبل آثوس، الآباء الهدوئيون الكوليفاذيون، تجريبيين في طريقتهم اللاهوتية. إن إدخال الماورائيات في اللاهوت الشعبي والأكاديمي يعود بشكل أساسي إلى كوراييس. لهذا السبب، أصبح كوراييس المصادِق لعلماء اللاهوت الأكاديميين كما للحركات الأخلاقية الشعبية. وهذا يعني أن طهارة القلب لم تعد تُعتبر شرطاً مسبقاً للاهوت، وقد حلّ مكانها التربية السكولاستيكية. ظهرت نفس المشكلة في روسيا في زمن بطرس الأكبر (من القرن السابع عشر إلى القرن الثامن عشر). وهكذا اعتُبر الآباء فلاسفة (بشكل أساسي أفلاطونيين جدد كالقديس أوغسطين) وناشطين اجتماعيين. هذا أصبح النموذج الأولي للتُقَويين في اليونان. وعلاوة على ذلك، تمّ رفض الهدوئية على أنها ظلامية. إن أفكار كوراييس التي سُمّيت “تقدمية” تظهِر حقيقة أنه كان مؤيدًا للاستعمال الكالفيني للماورائيات وليس للاستعمال الكاثوليكي، وأن أعماله اللاهوتية هي مغالاة في التقوية الكالفينية (الأخلاقية).
ومع ذلك، الأرثوذكسية في الآباء ضد الماورائيات، لأنها تطلب باستمرار “اليقين” التجريبي عِبر الطريقة الهدوئية. لهذا السبب، فإن هدوئية الكوليفاذيين تجريبية وعلمية. المنطق، بحسب القديس نيقوديموس الأثوسي، تجريبي. هذا يصوره هدوئيو القرن الثامن عشر بالطريقة التي يقبلون بها تقدم الغرب العلمي. يقبل الكوليفاذيون وجهات النظر العلمية بنفس الطريقة التي قبل بها القديس نيقوديموس الأثوسي في عمله أحدثَ نظريات يومه حول عمل القلب. لا يحارب القديس أثناسيوس باريوس العلم بحد ذاته بل استخدام تنويريي اليونان المتغرّبين للعلم. لقد اعتبروا العلم عمل الله وهِبَةً لتحسين حياة الإنسان. لكن استخدام العلم في جهاد ماورائي ضد الإيمان، كما حدث في الغرب ونُقل إلى الشرق، هو ما حاربه اللاهوتيون التقليديون في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. يكمن الخطأ في جهة التنويريي اليونان الذين، دون وجود أي علاقة مع وجهة النظر الآبائية للمعرفة (على الرغم من أنهم هم أنفسهم كهنة ورهبان)، نقلوا الصراع الأوروبي بين الماورائين والتجريبيين إلى اليونان، وتحدثوا عن “دين غير معقول“. في حين أن آباء الأرثوذكسية، إذ يميّزون بين نوعي المعرفة، يميّزون في نفس الوقت المعقول عن الفائق العقل.
إن مشكلة الصراع بين الإيمان والعلم، وبصرف النظر عن تشوش المعرفة، قد تسببت في تصنيم وجهَي المعرفة. وهكذا ظهر أدب دفاعي ضعيف ومهين في المسيحية (على سبيل المثال، قبل سنوات عديدة، أنتج أحد أساتذة الدفاعيات اليونانيين “برهان من الرياضيات على وجود الله“). ومع ذلك، ففي الأرثوذكسية هذه الثنائية ليست بديهية. لا شيء يستبعد التعايش بين الإيمان والعلم عندما لا يكون الإيمان ماورائياً خيالياً والعلم لا يشوّه طابعه الإيجابي باستخدام الماورائيات. إن اللغة العلمية الحديثة تساعد على الفهم المتبادل بين العلم والإيمان.
إن مبدأ عدم التحديد (أي غياب السببية) هو نوع من التنزيهية في العلم. لذلك، إن العودة إلى الآباء تساعد على التغلب على الصراع. إن قبول حدود نوعَي المعرفة (المخلوق وغير المخلوق) واستخدام الجهاز أو الأداة المناسبة لكل منهما، هو عنصر الأرثوذكسية والآباء الذي يضع الحكمة “الأرضية” “تحت” المعرفة “الأسمى” أو“الإلهية“.
في المقابل ، فإن التشوش بين نوعَي المعرفة في الفكر الغربي يشجّع على سوء الفهم المتبادل ويستمر في تعزيز نزاعهما. إن “كنيسة” تثبت في اللاهوت الماورائي ستكون دومًا مضطرة إلى التماس عفو الجليلي. وأيضاً، العلم الذي يتجاهل حدوده سوف يتراجع إلى ماورائيات وسوف ينشغل بوجود الله (ما ليس من مسؤوليته) أو يرفض الله تمامًا.