الفتور وحال الأرثوذكسية اليوم
الأب أنطوان ملكي
في رؤيا يوحنا، نقرأ السيد يقول لمَلاَكِ كَنِيسَةِ الّلاَوُدِكِيِّينَ: “أَنَا عَارِفٌ أَعْمَالَكَ، أَنَّكَ لَسْتَ بَارِدًا وَلاَ حَارًّا. لَيْتَكَ كُنْتَ بَارِدًا أَوْ حَارًّا!هكَذَا لأَنَّكَ فَاتِرٌ، وَلَسْتَ بَارِدًا وَلاَ حَارًّا، أَنَا مُزْمِعٌ أَنْ أَتَقَيَّأَكَ مِنْ فَمِي” (رؤيا 15:3-16). يذكر الآباء الذين يتناولون هذا النص أن كنيسة لاودكية تشير إلى كنيسة الأيام الأخيرة التي يسود فيها الفتور. ما هو الفتور وما هي المشكلة فيه؟
الفتور في الحياة الروحية هو حالة عدم الاكتراث التي قد تتكوّن لأسباب مختلفة. يعلّم القديس قوزما الإيتولي أنّ الفتور يأتي من قلّة الإيمان. الضعف البشري والمثالية البشرية قد تؤديان أيضاً إلى الفتور. والاستكبار أيضاً قد يزرع الفتور. ليس الهدف هنا معالجة الفتور من الزاوية النفسية بل من زاوية علاقته بالجهاد الروحي، بالغيرة المقدسة وبالشهادة للحق. في تعليمه، القديس سلوان الأثوسي يدعو إلى الجهاد: “لا تتهرّب من الجهاد، فالرب يحبّ المحارب الشجاع. الرب يحب الروح الباسلة“. الفاتر يتهرّب من المواجهة، من مواجهة أهوائه، ومن مواجهة الأخطار التي تحدق بالمحيطين به، ومن بينهم وربّما على رأسهم الكنيسة. يؤكّد القديس ثالاسيوس في الفيلوكاليا أن الفتور هو من اللامبالاة الناتجة عن الابتلاء بمحبة الذات.
أمّا عن المشكلة في الفتور، فالقديس يوحنا السلّمي يرى أن الفتور يؤدّي إلى موت الإحساس في الإنسان. يقول القديس ذياذوخوس فوتيكي أن الفتور يمنعنا من الشعور بالرغبة القوية بالبركات المُعدّة لنا في الحياة الآتية وينتقص من الحياة الروحية محطّماً هذه الحياة العابرة بشكل مفرط.
تطول لائحة الأقوال الآبائية التي تحذّر المؤمنين من الفتور وتمتد إلى قديسين معاصرين. يقول معاصرنا القديس نيقولا فيليميروفيتش: “في عالم اليوم من اللامبالاة والفتور الروحي ، والتي هي جذور الإلحاد والابتعاد عن الله، يُحَثُّ الإنسان على تجاهل الجذور الروحية وأصول الممارسات الدهرية عندما تبدو أشكالها الخارجية عادية ومسلية وغير ضارة. إن عقيدة الإلحاد تكمن في العديد من هذه الممارسات التي تنكر وجود الله والشيطان معاً”. الأب جورج موريلي الذي ينير على الطب النفسي المعاصر بفكر الآباء يقول أن اللامبالاة التي تعكس الفتور هي أكثر الخطايا ممارسة في هذا الزمن، وأنها أهم انعكاسات الدهرية.
وكما قد يصيب هذا الفتور الأفراد يصيب الجماعة، التي هي مجموعة الأفراد. قد يحاجج البعض أن هذا الكلام لا يصحّ في الكنيسة التي يستحيل أن يصيبها الفتور لأن رأسها المسيح. هذا قول لا غبار عليه، لكن واقع الكنيسة يتطلب منّا أن نتفكّر في ما أوصلَنا إلى حيث نحن. من أهم العوامل التي أضعفت الكنيسة عبر العصور هو الفتور المستشري على كافّة المستويات. فالرؤساء متى أصابهم الفتور يمتنعون عن الوقوف مع الحق ويدفعهم تفضيل الهدوء بحجة السلام والتدبير إلى غضّ النظر عن أخطاء قد تكون سوابق. والشعب يمنعه الفتور من الوقوف مع الرؤساء حين يقطعون كلمة الحق باستقامة، ومن مطالبتهم عندما يحيدون عن الحق، سواء عن كسل أو عن جهل أو عن نسيان.
لو أخذنا اليوم الشركة التي انقطعت بين الكرسيين القسطنطيني والروسي والتي تشغل العالم الأرثوذكسي. هذا يحمّل المسؤولية للقسطنطينية وذاك يحمّلها لموسكو. الحق يقال، أنّه فيما تتحمّل القسطنطينية المسؤولية القانونية عن الأزمة في أوكرانيا، إلا إن كل الأرثوذكس يتحمّلون مسؤولية الوصول إلى هذه الحالة التي أودت إلى انقطاع الشركة. الكل مسؤولون لأنهم فاترون، البطاركة والأساقفة والكهنة والرهبان والشعب. وهذا الفتور ليس وليد الساعة، بل قد تسلل إلى الكنيسة منذ أن تحررت من الاضطهاد، لكنه تكثّف مع مطلع القرن العشرين. هذا الفتور سمح للمنطق المسكوني بأن يتغلغل في عروق الكنيسة، وترك منافذ كثيرة تسللت منها الدهرية إلى حياتها. لامبالاة الأرثوذكس سمحت بأن يتنقّل إنسان كملاتيوس ميتاكساكيس بين أربعة كراسٍ مترئساً، وقبلت بأن يتقدّم إنسان مثل أثيناغوراس، وأن يرفع أناثيما هو يستحقها عن مَن لم يتُب، والأسوأ أن اللامبالاة والفتور جعلا الرؤساء الآخرين يتبعونه بدل أن يدينوا أفكاره ويدينوه. لامبالاة الأرثوذكس، من كل الطغمات وعلى كل المستويات، جعلتهم مكسر عصا يتدخّل في شؤونهم السياسيون ويفرضون مصالحهم، محلياً وعالمياً. لامبالاة الأرثوذكس صمّت آذانهم عن سماع صوت أنطاكية حين تظلّمت لأنها ظُلِمَت في قطر، وصربيا حين تظلّمَت لأنها ظُلِمَت في أرضها وهي اليوم مهَدَّدة في مكدونيا والجبل الأسود، وروسيا حين ظُلِمَت في أوكرانيا وهُدِّدَت في أستونيا وروسيا البيضاء، والقدس حين ظُلِمَت بخلع بطريركها الشرعي وتركيب اللصوصي مكانه.
المؤلم هو أن كل هذا جرى بمشاركة الكلّ. ينطبق علينا اليوم قول إرمياء النبي “يَشْفُونَ كَسْرَ بِنْتِ شَعْبِي عَلَى عَثَمٍ قَائِلِينَ: سَلاَمٌ، سَلاَمٌ. وَلاَ سَلاَمَ” (14:6). السلام الفعلي يأتي مع الحق. شعب الله بحاجة إلى رعاة، إلى قادة، إلى مَن يرفعه ويدلّه على الطريق إلى الله. “الرُّعَاةَ بَلُدُوا وَالرَّبَّ لَمْ يَطْلُبُوا. مِنْ أَجْلِ ذلِكَ لَمْ يَنْجَحُوا، وَكُلُّ رَعِيَّتِهِمْ تَبَدَّدَتْ” (إرمياء 21:10). لم يقل النبي أن الرعاة عملوا ما يبدد الرعية، بل أنها تبددت لأنهم لم يعملوا. تبددت لأنهم غير مبالين.تبددت لأنهم فاترون.
إن عدم العمل هو خطيئة توازي العمل الخاطئ. هكذا يعلّم الرسول يعقوب في رسالته: “ فَمَنْ يَعْرِفُ أَنْ يَعْمَلَ حَسَنًا وَلاَ يَعْمَلُ، فَذلِكَ خَطِيَّةٌ لَهُ” (17:4).
إن إهمال هذا الأمر وذاك، وغض النظر عن هذا وذاك، تارة بحجة السعي إلى السلام وأخرى بحجة التدبير، يحطّم الكنيسة ويشوّه صورتها في عيون أبنائها ويكشف مكامن ضعفها لأعدائها. هذا لاحظه القديس باييسيوس الأثوسي فجاء قوله دقيقاً: “عندما يكون هناك احترام للأشياء الصغيرة، يكون هناك احترام أكبر للأشياء الأكبر. عندما لا يكون هناك احترام للأشياء الصغيرة، فلن يكون هناك احترام للأكبر. هكذا حافظ الآباء على التقليد.”
حتّى من خارج الكنيسة الأرثوذكسية، نقرأ عند سي آس لويس في قصته “رسائل المسمار” أن الشيطان كان يدرّب ابن أخيه وورموود لكي يقوم بخدمة فعالة له في العالم، فقال له “أنا، الشيطان، سوف أحرص دائماً على وجود أشخاص سيئين. أما وظيفتك، يا عزيزي وورموود، فهي أن تزودني بأشخاص غير مبالين“.
إن فتور الأرثوذكسيين يضع الأرثوذكسية في خطر جدي قد يؤدّي إلى تفككها. هذا بدأ بين أنطاكية والقدس، واليوم هو بين القسطنطينية وروسيا، وقد يتطور ليصير داخل الكنائس نفسها. أبشع أوجه هذا الخطر هو أن أحداً لا يتعاطى معه روحياً بل الكل يناقشه “سياسياً“. لم نسمع دعوة من بطريرك أو أسقف أو غيرهما إلى صلاة لحفظ الكنيسة. ما من أحد يحكي عن التوبة إلا الكتاب المقدس: “كُنْ غَيُورًا وَتُبْ. هنَذَا وَاقِفٌ عَلَى الْبَابِ وَأَقْرَعُ. إِنْ سَمِعَ أَحَدٌ صَوْتِي وَفَتَحَ الْبَابَ، أَدْخُلُ إِلَيْهِ وَأَتَعَشَّى مَعَهُ وَهُوَ مَعِي. مَنْ يَغْلِبُ فَسَأُعْطِيهِ أَنْ يَجْلِسَ مَعِي فِي عَرْشِي، كَمَا غَلَبْتُ أَنَا أَيْضًا وَجَلَسْتُ مَعَ أَبِي فِي عَرْشِهِ.” (رؤيا 15:3-19)