الإنسان المخدوع والرحمة
الأب أنطوان ملكي
يبدأ النصّ الإنجيلي بعبارة “يُشبِه ملكوتُ السماوات انساناً مَلِكاً“. كيف يشبه الملكوت إنساناً ومَن هو الإنسان الذي يشبه الملكوت؟ إنه بالطبع يسوع المتجسّد، أي ابن الله متّحدًا بالناسوت، ما جعله إنسانًا ملكًا. العبد المديون بعشرة آلاف وزنة هو البشرية. يرى بعض اﻵباء أن الرقم عشرة يُشير إلى الوصايا العشرة، والرقم ألف يُشير للأبديّة. هذا يعني أن قيمة دين الإنسان أي عشرة آلاف، هي مخالفة كبيرة للناموس، وليست شيئاً يستطيع أي مخلوق أن يفيه في حياته. إذاً هذا المثل يظهِر يسوع ملكاً ديّاناً يقف أمامه الإنسان بعجزه التام عن الإيفاء بالدين. بيع المديون هو بحسب الشريعة، أي أنه أمر قانوني لكنه ذو معنى روحي عميق. فبيع الإنسان يعني أن الإنسان خسر كل شيء. كون معنى الدَين الفعلي في المَثَل هو الخطيئة، فهذا يعني أن الخطيئة تفقِد الإنسان الكثير. فبالخطيئة يخسر الإنسان روحه أي ذاته، كما يفقد زوجته أي جسده المرتبط به والذي يعوله ويربِّيه، لكون الخطيئة تحوّل الجسد الصالح دنسًا مثقّلاً بالشهوات التي تفسد الفكر والحواس. أمّا الأولاد الذين سوف يُباعون مع الإنسان لأنه يفقدهم فَهُم المواهب المتعدّدة التي حباه الله بها، والتي تحوّلها الخطيئة من أدواتٍ لبِرّ لله إلى أدوات إثم تخدم الشيطان؛ أمّا الممتلكات فهي الأمور التي بطبيعتها هي صالحة لكن فساد الإنسان يحوّلها إلى معثرة.
ومجدداً يظهر الإنسان بمظهر المُضلَّل حيث يطلب التأجيل ظانّاً أن بعض الوقت قد يؤهّله للإيفاء. لكن الملك أعطاه أكثر ممّا طلب فأطلقه حرًا وترك له ما عليه. هنا المعنى الروحي هو أن الملك وَهَبَه حرّية النفس والجسد، مقدّسًا مواهبه وممتلكاته، حتى يكون بكلّيته مقدّسًا له.
لكن انغلاق قلب العبد على أخيه عطّل حريته. طبعاً تظهِر مقارنة ما كان له عند أخيه بما كان عليه للملك فرقاً شاسعاً، مئة بمقابل عشرة آلاف. أمامنا إنسان تحرّر من عشرة آلاف وزنة، ولا يتنازل لأخيه عن مائة وزنة. يصف القديس يوحنا الذهبي الفم حالته بقوله: “إذ لم يكن بعد صوت المغفرة يدوّي في أذنيه نسي محبّة سيّده المترفّقة… إن تذكار معاصينا أمر مفيد للغاية وضروري جدًا. ليس شيء يجعل النفس حكيمة بحقٍ ووديعة ومترفّقة مثل تذكار خطايانا على الدوام“.
واقع هذا العبد أحزن العبيد رفقاءه فشكوه إلى الملك. هذا تعليم عن أهمية صوت الجماعة. إن الله يسمع تنهّدات البشريّة بسبب قسوة الناس على بعضهم البعض. هذا هو حال البشريّة. إنها تئن من عدم تنازل الناس لبعضهم البعض وعدم غفرانهم لأخطائهم التي يرتكبونها بحق بعضهم البعض. لكن السيد ومعه الجماعة، أي الكنيسة، يحزنان جدًا لرؤية مَن لا يصفح يخسر ما تمتّع به من عطايا ونِعم إلهيّة.
يختم السيد المقطع الإنجيلي بقوله: “هكذا أبي السماويُّ يصنعُ بكم إنْ لم تَتْركوا من قلوبِكم كلُّ واحدٍ لأخيهِ زلاَّتِهِ“. يلاحظ القديس يوحنا الذهبي الفم أن السيّد في هذه العبارة الإلهيّة لم يقل “أباكم” بل “أبي“. فهو من جهة يساوي نفسه بنا ومن جهة أخرى ينحو بالله عن أن يكون أبًا لشرّيرين وحقودِين.
الغاية الأخيرة لهذه القراءة الإنجيلية هي أن نفهم أننا مرحومين لأن الرب كريم، وأننا نبقى مرحومين طالما نرحم. إن مقياس تلقينا للرحمة هو مقدار نقلنا إياها إلى إخوتنا البشر الآخرين.
* عن نشرة الكرمة، حول إنجيل الأحد الحادي عشر من متى