مرارة الجحيم
الخورية سميرة عوض ملكي
الجحيم كلمة ترافق الإنسان منذ طفولته. وللأسف، قلّما نلتقي بالتفسير الحقيقي لهذه الكلمة والمستنِد إلى فهم روحي. فأغلب الأحيان، ترعِب هذه الكلمة الصغار والكبار معاً بسبب التصوّرات والأفكار الخاطئة والأوهام المزروعة في الأذهان والنفوس. فمفردات الجحيم والحب والخير والجمال وغيرها من الكلمات التي تتعلّق بعمق حياة الإنسان وقد كُتِب عنها الكثير من المؤلّفات والأساطير والملاحم والمثولوجيات والفنون، وما زالت إلى اليوم تشكّل مادة مهمّة لصناعات المرئي والمسموع ذات التأثير الكبير على الشعوب.
اختلفت الشعوب في بعض الأحيان وتلاقَت في غيرها في تصوير الجحيم. فمنهم مَن رأى أنّه دار أو مقرّ الأموات، أو مملكة الأموات المظلمة، أو الهاوية التي لها قواتها التي تندفع منها إلى الأرض لتلتهم الأحياء وما إلى هنالك… حتّى الكتاب المقدّس، بعهديه القديم والجديد، يشير إلى الجحيم بمقاطع كثيرة. بالتأكيد، لم يقبل الكتاب المقدس أيّاً من تصورات الأمم عن الجحيم. ويبقى السؤال لماذا الحديث عن الجحيم فيما نحن نفرح ونتهلل بعيد الفصح؟ إن الهدف في هذا المقال هو عرض تعليم التقليد الكنسي عن الجحيم وإبادته. بالطبع نحن نحتفل بقيامة المسيح والكنيسة تعلّمنا أنّ احتفالنا بالفصح يبدأ في لحظة نزول المسيح إلى الجحيم. ما معنى هذا؟
الجحيم في التقليد الأرثوذكسي ليس مجرّد مكان بل هو سلطان وسيادة الموت والشيطان، من هنا أن جوهر القيامة هو موت الموت وإبادة الشيطان. هذا ما فعله المسيح إذ بنزوله إلى الجحيم غلب الموت وحطّم الشيطان وملأ كل الأشياء برؤية ألوهيته، فغفر للخطأة وأنار أعين العميان الذين على الأرض وفي الوقت نفسه سطع نوره على الساكنين في الظلمات وظلال الموت. ولعلّ من أروع الصوّر التي نجدها مراراً في خدمة الفصح تلك التي تصوّر الجحيم منادياً متأوّهاً وصارخاً بخوف. نذكر على سبيل المثال كانين الأودية الرابعة: “أيها الكلمة إن الجحيم لما استقبلك تمرمر، لمشاهدته إنساناً متألِّهاً يُوسم بالكلوم، مع أنه القادر على كلِّ شيءٍ، فمن هذه الصورة الغريبة صاح مرتاعاً.” فالمسيح مع كونه مثخَناً بالجراح إلا إنه كان لا يزال كليّ القدرة بسبب ألوهيته مع استحالة أن تكون الجراح لها إنما لنفسه التي تألّمت مع جسده.
هذا ينطبق أيضاً على نفس الإنسان هنا والآن، وليس بعد الموت وحسب. الذين يرتكبون أموراً شريرة عادمة الضمير، فإن صورة أعمالهم عندما يتفطّنون لها، تثير الرعب في نفوسهم أكثر من الظلام والنار الأبدية حيث أن رؤية المسيح القائم تكشف عيوب الإنسان، كما يكشف النور الظلام. هذا هو الجحيم الداخلي بعينه، أن يرى الإنسان عيوبه على نور المسيح. لكن المسيح لا يكشف لنا نوره لنتعذّب بل لنتوب. من جهة أخرى، يعاني الكثيرون اليوم من تسلل الجحيم من خارج نفوسهم إلى داخلها. فما يحيط بالإنسان وما يراه ويمرّ به ويعانيه ويتأثر بنتائجه، في داخل الكنيسة وخارجها، يثير فيه الإحباط، فتصير رؤية المسيح والنور أصعب. هذا يبعد البعض عن الكنيسة، فيما يتوّهم البعض الآخر بأنّه قيامي ويتغنّى بفرح القيامة، ولا يميّز فعلياً بين الحقيقة والوهم.
لكي يرى الإنسان المسيحَ القائم عليه أن يختبر التوبة التي تؤدّي إلى التطهّر والسلام الداخلي وبراءة النفس التي تنتج الفضائل وتبعد كل هوى بالاتّضاع. هذه الحالات عندما يختبرها الإنسان، بسلوكه حسب تعليم الكنيسة، يصير قادراً على النزول إلى جحيم قلبه فيغلب الموت فيه ويرى ملاك الرب، أي ضميره، يدحرج له الحجر ويخبره بأن الفضيلة التي ماتت في قلبه سوف تُقام وتؤهّله للمعرفة التي تمنحه أن يرى المسيح القائم ممرمِراً للجحيم.
* عن نشرة الكرمة.