العلم في مدى الأرثوذكسية
ديمتريوس غريغوروبولوس
هناك انطباع يبلغ عند البعض حدّ الاقتناع بأن الدين والعلم يتعارضان، بقدر ما يُعتَقَد أن الدين أدان مرات عديدة البحث العلمي. مهما كان هذا صحيحاً، فهو لا يتعلّق بأي طريقة بالأرثوذكسية أو حياة الكنسية الأرثوذكسية، وهذا لسببين:
بحب الكنيسة الأرثوذكسية، المسيحية ليست فلسفة ولا إيديولوجية ولا مجرّد قانون كنسي. هذا يعني، أنها ليست دينًا (religion) بالمعنى اللاتيني للكلمة (مصدرها “ريليغار Religare” أي الخضوع للقواعد والقوانين). ففي اللغة اليونانية، الإيمان هو “ثريسكيا” التي تعني ببساطة “الصعود”.
تمارس الأرثوذكسية في حياتها الكنسية الحقائق أو الوقائع التي أُعلنَت عن المسيح. يتّخذ القديس سمعان اللاهوتي الحديث موقفاً مميزاً حيث يرفع خبرة الحياة المسيحية فوق الكلمة المكتوبة من الكتاب المقدس. وفيما يتعلق بالأرثوذكسية، فإن الشعور الديني الناشئ عن عالمنا هو الدافع الأقوى والألطف للبحث العلمي. البحث هو النتائج أو الاستنتاجات التي تخدم الإنسان وتوجهه نحو الحقيقة؛ لأن الحقيقة تُكشَف جزئياً وتعتمد على كيف وأين نبحث عنها. عالم الفيزياء الشهير، روبرت ماير، الذي غالباً ما يُشار إليه باسم “نيوتن” في القرن التاسع عشر، ذَكَر بكل وضوح أنّ “الحقيقة بحد ذاتها وذاتها أبدية وما هو أبدي لا يمكن تعريفه أو إثباته“. بالنسبة إلى الأرثوذكسية، فإن الحقيقة هي المسيح وتحديداً المسيح المصلوب كمخلص للانسانية، وهي حقيقة يرى القديس بولس أن الأمم يعتبرونها جهالة والعبرانيين خزياً. أصبح الله الإنسان ليرفع الإنسان إلى حالة الإله، ولكن ليس الله.
أما بالنسبة للأرثوذكسية فلا يوجد نزاع بين الأرثوذكسية والعلوم. على العكس من ذلك، يتم التعبير عن موقف الأرثوذكسية في المسائل المتعلقة بالعلم والتكنولوجيا، على كل المستويات في الحياة الأرثوذكسية. كتاب صلاة الكنيسة الأرثوذكسية (إفخولوجيون) مليء بالإشارات إلى إنجازات الإنسان في المجالات العلمية والتكنولوجية. عيد العنصرة المقدسة هو للعالم يوم التنوير والحكمة، وفيه يُشاد بيسوع المسيح كسيّد جميع الحرف (بانتيشنيمون) أي الذي يلهم الإنجازات العلمية ويحمي ببركاته العمل العلمي.
يترتّب على هذا الموقف نتيجة لاهوتية يعبّر عنها اللاهوتي الروسي العظيم جورج فلوروفسكي بأن البشرية والكون هما فيض محبة الله. بحسب الفيلسوف الفرنسي سيمون ويل “مهما كانت سرعة الإنسان في الابتعاد عن المسيح نحو ما يعتقد أنه الحقيقة – هو في الواقع يتحرّك مباشرة الى المسيح“. في اطار الارثوذكسية، العمل العلمي مبارك بقدر ما يسبر العلم عمق المجهول بهدف مساعدة البشرية على فهم الكون وكذلك مكان الإنسان فيه.
وفي ضوء ذلك، يقول العالم الألماني يوهان مادلر: “من المؤكد أن العالِم الحقيقي الذي يبحث من خلال أدوات شعوره الديني الكونية يمكن أن يرى أن للعالم روح منحه إياها الله، وفيما يسير نحو وجهته النهائية، يكون مدعوماً بمحبة الله الكونية. يمكن أن يقال الكثير لإسناد المعنى والأهمية التي تعطيها الكنيسة الأرثوذكسية للعلم الذي هو هبة من الله بحسب الموقف الأرثوذكسي. من المفيد الإشارة إلى العبارة المكتوبة فوق باب مدرسة أثوس من القرن الثامن عشر، وهي تعود للفيزيائي اليوناني والذي كان لاهوتياً أرثوذكسياً ورجل آداب، آفيانيوس فولغاريس: “مَن يرغب في دراسة الهندسة (geometry) يمكن أن يدخل؛ ولن يواجه أي عقبة. أمّا مَن لا يرغب فسيجد الأبواب مغلقة“.
لا يجد فولغاريس أي صراع بين اللاهوت والعلوم. لا بل على العكس يجد انسجاماً بينهما، ويبحث عن عن تقييم دوريها وأهميتهما. وإلى ذلك، لا يسمح لأولئك الذين باسم العلم، يحاولون فرض أبعاد أخرى على دور العلم واللاهوت. في مقدمة كتابه “لاهوتيات Theologikon” يقول من بين أمور أخرى: “هل المنطق والمذاهب الفلسفية يهملون اللاهوت؟ بالطبع لا، لأن كل هذه تخدم اللاهوتي، وكما ثبت، فإن الإيمان المسيحي لا يسقط منطقاً، ولا رأياً، ولا اقتراحاً ولا حظراً، لأن اللاهوت يمكن أن يستشهد بأمثلة من الكتاب المقدس، كما من آباء الكنيسة الأرثوذكسية، مظهراً الخطأ في النظريات الفلسفية والمذاهب المختلفة. بالإضافة إلى ذلك، يقبل اللاهوت تصريحات كل شعوب العالم ويأخذ القيّم من العلم والفلسفة. هذا يخدم هدف تزيين أخلاق المؤمنين (دون قبول العقائد الغريبة) بنفس الطريقة التي أمر بها الله اليهود زيين هيكلهم بالقطع الأثرية المصرية“.
معاصر آخر لفولغاريس، نيكيفوروس ثيوتوكيس، أسقف في روسيا وعالم فيزياء ورياضيات، يتحدث بثقة عالِم طبيعي في كتابه الشهير “كيرياكودروميون“، حيث يحاول تفسير أناجيل ورسائل الآحاد. يستخدم هذا الرجل معرفته بالفيزياء ليرفع نفسه ومن ثم رعيته إلى مدى “غير المدرَك”. إنه هو الرجل الذي أدخل العلوم الطبيعية في اليونان ودرّس عن الله مستخدماً تقنية الاستقراء (induction) العلمية.
عند هذه النقطة يمكننا أن نتذكر ألبرت أينشتاين. لقد فصل أدوار العلم واللاهوت، وكذلك معنى كل منهما، بالقول أن “العلم بدون دين أعرج، ولكن الدين بدون العلم أعمى“. على الأكيد أن أينشتاين يشير إلى الدين وليس إلى اللاهوت الأرثوذكسي.
ويمكننا أن نقدم العديد من الأمثلة على مواقف مثل مواقف فولغاريس وثيوتوكيس من تصريحات أدلى بها آباء الكنيسة وعلماء اللاهوت الروس مثل بولغاكوف وباردييف وفلوروفسكي ولوسكي وغيرهم. يجب ألا ننسى أنه حتى خلال الفترة البيزنطية كانت هناك أهمية كبيرة للعلم والحرف والرسائل. بالنسبة للعديد من الباحثين، إنجاز الفترة البيزنطية كان مزيجاً من العنصر اليوناني والمسيحي القديم الذي هو أساس الحضارة العالمية اليوم.
حتى في العالم غير الأرثوذكسي اعتمد العديد من العلماء العظماء مواقف الكنيسة الأرثوذكسية، حتى من دون أن يكونوا على بينة من ذلك. للدلالة، يمكننا تقديم والد علم النبات كارك ليناوس الذي يكتب في مقدمة كتابه “نظام الطبيعة“: “إن هدف الخلق هو معرفة الله العجائبية كما هي في أعمال الطبيعة التي لا يمكن أن يتعرّف إليها أحد غير الإنسان“. تذكرنا هذه الكلمات بقول القديس بولس: “لأَنَّ أُمُورَهُ غَيْرَ الْمَنْظُورَةِ تُرىَ مُنْذُ خَلْقِ الْعَالَمِ مُدْرَكَةً بِالْمَصْنُوعَاتِ، قُدْرَتَهُ السَّرْمَدِيَّةَ وَلاَهُوتَهُ“. ليست هناك حاجة لمزيد من الإضافات، إذا تذكّر المرء كلام إدينغتون وماكس بلانك أن “قوانين الطبيعة هي سبل ووسائل التعبير عن إرادة الله“. لا تسقِط الكنيسة الأرثوذكسية المنطق ولا الأساليب العلمية وإنجازاتها، ولكنها تميّز الهدف بوضوح. بالقداس الإلهي وخاصة بالمناولة المقدسة، تعيش الكنيسة الأرثوذكسية الحقيقة وتوجّه الإنسان نحو القداسة. إنها تقبَل أن على الإنسان يخلُص من خطاياه، أي من فشله، لأن “الخطيئة” تعني الفشل في اليونانية.”
الإنسان ككيان منطقي فشل في أن يصبح مشابهاً لله بسبب إهماله. ولكي يستعيد مكانه الأصلي في الخليقة، يجب أن يكون حراً تماماً، ويطلب نعمة الله، التي صارت متاحة له من خلال صلب المسيح.
والأطروحة كما ينظر إليها أوغست كومت في نظريته عن الوضعية ستكون مملكة المنطق الخالص، مملكة العقل وموت القلب. ولكن المرء يتردد في تخيّل الإنسان في منصبه. وبالنسبة لجميع الذين يرفضون الإيمان بالحقيقة المعلَنة لمجرد أنه لا يمكن إثباتها بالأساليب العلمية، تكرر الكنيسة الأرثوذكسية: “طوبى للذين آمنوا ولم يروا“، وهؤلاء هم مباركون لأن ما يلزِمهم ليس البرهان بل نيّتهم ضمن الحرية الكاملة.
قال العالم الإنجليزي السير جيمس سيمبسون: “إن أكبر اكتشافاتي كان خلاص نفسي، أي الشعور بأنني خاطئ وأن يسوع المسيح هو مخلصي“.
موقف العلم ضمن الأرثوذكسية مذكور بشكل جميل على حجر قبر إسحاق نيوتن: “هنا يكمن إسحاق نيوتن، بلا كلل، عبقري وباحث مخلص في الطبيعة والتاريخ والكتاب المقدس، بحكمته أثبت عظمة الله وحياته عبّرت عن بساطة الإنجيل “.
قد لا توجد طريقة أفضل للختام من فقرة من عمل دوستويفسكي “القبو“، حيث يسأل نفسه والقارئ: “يحب الرجل من دون أدنى شك أن يخلق ويفتح آفاقا جديدة. ولكن بعد ذلك لماذا يرغب بشغف بالدمار والفوضى؟ أمن الممكن أنه يحب الكثير من الدمار والفوضى لأنه يخشى الوصول إلى أهدافه والانتهاء من بناء عمله؟ مَن يعلم؟ ربما يحب أن ينظر إلى عمله من بعيد وليس من نقطة قريبة. ولعل أهدافه على هذه الأرض التي يحاول الوصول إليها ليست سوى عملية لا نهاية لها للنجاح والأهداف نفسها. هذا بطبيعة الحال، هذه العملية ليست سوى حساب مثل 2 + 2 = 4، أي أنه قانون العالم الفاسد. وإذا كان هذا هو الحال، فهذه ليست الحياة بل بداية الموت“.
قد تكون أفكار ماكسويل مثل أفكار دوستويفسكي. لذلك في صلاته يطلب من الله أن يعطينا علم الرحمة.