قراءة هادئة في وقت شدّة
الأب أنطوان ملكي
تعيش الكنيسة الأنطاكية أزمة مخفية أو شبه مخفية، إحدى أهم ظواهرها قضية دير حماطورة ورئيسه الأرشمندريت بندلايمون فرح. هذه الدراسة محاولة لقراءة مجريات الأمور بطريقة أخرى ودعوة لإخراج كل هذه القضية من حيث هي الآن ووضعها في إطارها القانوني الأكثر دقّة لتجنيب الكنيسة انقساماً يمكن تلمّسه في عدّة أطر.
1. في الخلفية: الواقع القانوني للتحرّش في لبنان
أقرّ مجلس الوزراء في جلسته التي عقدها في 8 آذار 2017 مشروع القانون الذي تقدمت به وزارة الدولة لشؤون المرأة والذي ينص على فرض عقوبات على جريمة التحرش الجنسي. أهدى الوزير جان أوغاسابيان هذا الإنجاز إلى المرأة اللبنانية في يوم المرأة العالمي. أحيل القانون على مجلس النواب. (جريدة النهار https://www.annahar.com/article/550775)
لكن إلى اليوم النساء اللواتي يلجأن الى القضاء لرفع قضية ضد المتحرشين لا يلبثن أن يتراجعن عنها، خصوصاً عندما لا يصل التحرش الى حد الاغتصاب، حيث لا يمكن إثبات الواقعة من دون دليل ملموس غالباً ما تفتقر إليه المدّعيات… ما يجعل الشكوى تفتقد ركنها الأساسي وهو الدليل (موقع NOW. https://now.mmedia.me/lb/ar/nownewsar/542371)…
هذا يعني أنّ في حالات التحرش الإثبات صعب جداً إلا بوجود شاهد وهو ما يندر حدوثه. وصعوبة الإثبات حتّى في دول العالم التي تملك اكثر النظم القضائية تقدميّةَ تعود إلى أن شهادات ضحايا التحرش غير كافية لإدانة مرتكبي الجرائم الجنسية. لو كان الجرم اغتصاباً وآثاره ما زالت موجودة، يمكن تعقّب الإثبات وذلك عبر اللجوء الى طبيب شرعيحتّى فحص الحمض النووي للمُتهم. ولذلك بالإجمال في كافة دول العالم، لا يُقدم الكثير من شكاوى التحرّش لصعوبة الإثبات (موقع متعقّب التحرّش http://harasstracker.org/resources/).
ومع أنّ الاغتصاب مجرّم في قانون العقوبات اللبناني، إلا أنه لا يوجد أي بند أو مادة يجرّم التحرش أو حتّى يسميّه. ومثله قانون العمل لا يشمل اي بند يجرم التحرش الجنسي في أماكن العمل. وقد كان هناك عدة مبادرات مثل “مغامرات سلوى ضد التحرش الجنسي” ومجموعة “نسوية” عملت من أجل قانون لتجريم التحرش الجنسي في الأماكن العامة وخاصة في أماكن العمل. كذلك قدّم النائب غسان مخيبر في أيار من عام 2014 مشروع قانون لتجريم التحرش الجنسي يقضي بحبس المتهم بالتحرش من ثلاثة اشهر الى سنة وبغرامة قد تصل الى عشرة اضعاف الحد الأدنى للأجور. (المراجع السابقة)
2. أيضاً في الخلفية: المحاكم المذهبية في القانون اللبناني
إنّ صلاحيات المراجع المذهبية للطوائف المسيحية (والطوائف الاسرائيلية) محددة بقانون مختص، يحصر صلاحية المراجع الدينية بقانون الأحوال الشخصية فقط، ولا يعطيها اي سلطة على التحقيق والحكم في الجنايات (راجع تصديق القانون المختص بتحديد صلاحيات المراجع المذهبية للطوائف المسيحية والطوائف الاسرائيلية http://www.legallaw.ul.edu.lb/LawView.aspx?opt=view&LawID=258197.).
يشير أحد أهم محامي لبنان، وهو صاحب اجتهادات مؤثّرة في لبنان وفرنسا، إلى أنه في حال اهتمّت المحاكم الروحية بالتحقيق ومحاكمة أي جريمة غير المرتبطة بالأحوال الشخصية، ينشأ بينها وبين المحاكم الجزائية تضارب مصالح، وذلك استناداً إلى مبدأ حصر الاختصاص. لكن في حالات الجرائم، يكون لقانون العقوبات الأولوية، لأن قانون العقوبات قانون وضعي فيما قوانين المراجع الدينية استثنائية. والمبدأ القانوني يقول بعدم جواز تقدّم الاستثنائي على الوضعي.
إذاً، في حال التحرَش، المحاكم الكنسية لا صلاحية لها في التحقيق. وإذا تمّ أخذ الملاحظات أعلاه حول صعوبة إثبات التحرّش بعين الاعتبار، تصير المحاكم الكنسية أيضاً غير مؤهّلة للبتّ بهذه القضايا. وعليه، في حال اتّهام أحد الإكليروس بالتحرّش، يُدّعى عليه بحسب القوانين في منطقة حصول الجناية ويحاكَم ومتى صدر بحقّه حكم مبرَم تُعلَم به المراجع الدينية لاتّخاذ إجراءات مسلكية بحقّ الإكليريكي المحكوم.
وعلى هذا هناك سابقتان في أنطاكية: 1) عندما وُجِّهت إلى الأسقف قسطنطين كيّال تهمة التحرّش توجّه مبتشرة إلى السلطات اللبنانية وأُخذت القضية مداها القانوني وانتهت هناك. 2) عندما تمّ الادعاء على أحد الكهنة السابقين بدعوى تزوير، أوقفه مطرانه عن الخدمة. عندما تمّت تبرئته أعيد إلى الخدمة. عندما ادُّعي عليه للمرة الثانية، أوقِف مجدداً غير أنه لم يُبَرّأ فتمّ توقيفه نهائياً حتى تجريده. أمّا في خارج أنطاكية، فالأمثلة عديدة على محاكمات جزائية لكهنة تبعتها قرارات كنسية.
3. في قضية دير حماطورة والأرشمندريت بندلايمون فرح
في 2013 أُقيمَت ضد الأرشمندريت بندلايمون فرح، رئيس دير حماطورة، دعوى تحرّش في مطرانية جبل لبنان. بحسب ما ورد أعلاه، ليست المطرانية المرجع ذا الصلاحية للحكم في صحة الدعوى، بالرغم من حقّها في اتّخاذ الإجراءات الضرورية لمواكبة التحقيق في حال جرى بحسب الأصول في المحاكم الجزائية. يمكن الكلام عن الكثير من الثغرات في مجريات القضية.
ففي عمل المجلس التأديبي في جبل لبنان، يظهر الخلل منذ البداية في تركيبة المجلس الذي ضمّ 3 أعضاء اثنان منهم دون المُدّعى عليه في الرتبة أو الأقدمية، وفي هذا مخالفة صريحة لمجمل القوانين الكنسية. إلى هذا، واحد من العضوين هو طرف صريح في الادّعاء والحملات ضد المُدّعى عليه. من ثمّ يأتي الاستناد إلى رأي محامٍ هو أيضاً طرف صريح في الادّعاء. كما أنّ تخطّي المطران هو مخالفة، حيث تابع المجلس عمله بعد أن سلّم مطران جبل لبنان القضية إلى البطريرك. ومن الأمور المهمة هنا الاجتهاد بأنّ أقوال الشهود هي اعترافات و“امتداد لسر الاعتراف“. هذا تشبيه غير دقيق لا في اللاهوت ولا في الرعاية. طبعاً كل القوانين تشدد على سرية التحقيق، لكن ليس على عزل العملية عن العالم. أما من جهة أقوال الشهود التي يمكن الركون إليها فهي تلك الصريحة التي يمكن ضمّها إلى محاضر الجلسات وهي قابلة للطعن والتدقيق. أمّا الاعترافات فليست للتداول لا في المحاكم ولا خارجها. على هذا يشدد القديس نيقوديموس الأثوسي على الآباء الروحيين أن يحفظوا الاعترافات سرية تحت كافة الظروف. ومثله كاتب البيذاليون يذكر أن الكاهن الذي يفشي اعترافاً يجرّد. من هنا أنه لا يمكن استعمالها كدلائل لا للإدانة ولا للتبرئة.
أمّا الثغرات في عمل المجلس الاستئنافي فهي أيضاً تبدا من البداية حيث تمّ تعيين مدعٍ عام مدني وبهذا تحوّل المجلس إلى محكمة جزائية مخالِفة للقوانين الوضعية. فالمدّعي العام الكنسي عمله الحفاظ على مصالح الكنيسة حيث يوجد خلاف لا الادّعاء على الأفراد في قضية تفتقد التحقيق العلمي. هذا أدّى ايضاً إلى تحويل المجلس التأديبي إلى هيئة تحقيق وفي هذا ثغرة أخرى. يبقى أن شكل إصدار القرار والتناقض في محتواه من حيث الحكم على ما لم يكن في الادّعاء، وعدم احترام الأعراف في الا يكون حكم الاستئناف أقسى من الحكم البدائي، وعدم ملاحقة مسرّبي القرار، كلّ هذه ثغرات تطال المجالس التأديبية في شفافيتها وعلمها ونزاهتها، بغض النظر عن الأشخاص. وعلى المنوال نفسه، إن إعادة المحاكمة التي يُحكى عنها اليوم هي استمرار لهذا العمل الباطل.
4. استنتاج أوليّ
إنّ طلب العدالة مستقلّ عن البراءة والإدانة. فالعدالة أساس كل بناء جماعي. وفي حالة دير حماطورة والأرشمندريت بندلايمون إن تحقيق العدالة يكون بإبطال المحاكمات التي جرت مع نتائجها، وبأن يذهب المدّعون إلى القضاء المختصّ. إن المطلوب اليوم هو تحقيق العدالة واستعادة هيبة المجالس التأديبية الكنسية، ومن ورائها الكنيسة ككل. وهذا لن يكون ممكناً إذا كانت الكنيسة تعفي مرتكباً بحجة الرحمة، أو تظلم بريئاً لتصفية الحسابات. فهيبة الكنيسة هي في أمومتها التي تستند إلى الحق والحق فقط.
5. ماذا بعد؟
ألم يكن هذا الكلام معلوماً من قبل؟ هذا سؤال ينبغي توجيهه إلى الذين خططوا للادّعاء وللحملة التي رافقته، خاصةً المحامين منهم. مصيبة أن يكون هذا الكلام معلوماً ومصيبة أن لا يكون. أمن الممكن الرجوع عن كل ما جرى؟ جزء كبير من هذا الكلام سبق قوله لبعض المنخرطين في القضية. لم يعد صحيحاً اجتزاء الحقائق بل ينبغي قول الحق للمساهمة في تكوين الحالة التي تحتكم فعلياً إلى القانون. “إن قوة الناموس هي الخطيئة” يقول الرسول بولس. أمّا في أنطاكية فقد اعتدنا لسنين طويلة على أن القوانين هي للاستنساب وهي تخضع لمبدأ التدبير الذي أوصل حالنا إلى ما هو عليه في الليتورجيا والعلاقات والتنظيم.
ألا يؤدّي هذا الاستنتاج إلى إخضاع الكنيسة للدولة؟ قد يمكن أن يُنظَر إلى هذا الأمر من هذه الزاوية، كما يمكن اقتباس أقوال لا تسمح بمحاكمة الكهنة بشكل خاص، وأبناء الكنيسة بشكل عام، إلا في الكنيسة. هذا كلام خارج الزمن. مَن يريد قول هذا فليفكّ كل ارتباط للكنيسة بالدولة وبمنتجات العصر الحديث وليدعُ من ثمّ إلى ذلك. القانون القائم في أنطاكية اليوم يقول أنّ باستطاعة الكنيسة الاستعانة بالسلطات المحليّة لتنفيذ الأحكام. لاهوتياً، لم يكن للدولة، أي دولة، سلطان “لو لم يعطَ لها من فوق“. أصلاً محاكم الكنيسة تحكم بالسلطان المُعطى لها من الدولة وإن تكُن قراراتها تبدأ باسم الكنيسة. مَن ينفّذ أحكام المحاكم الكنسية؟ مَن يدفع رواتب أعضاء المحاكم الروحية؟ إنّه الدولة. لماذا نقبل التباس هذه العلاقة حين يحمي مصالحنا ونرفضه حين يقف بوجه رغباتنا؟
إن علاقة الكنيسة بالمحاكم المدنية لا إشكال فيها في الدول ذات الأغلبية المسيحية. ما لله لله وما لقيصر لقيصر. كل جرائم القدح والذم والتزوير والطمع والسرقة، تحقّق الدولة فيها والكنيسة تتّخذ الإجراء المسلكي. حتّى الشؤون القانونية، لا الرعائية طبعاً، في الخلافات الزوجية فهي بيد الدولة.
6. ماذا اليوم؟
إن قضية دير حماطورة صارت أزمة. أول أوجه هذه الأزمة هو الإصرار على قراءة الأحداث من خلالها. مثلاً، أن لا يُرى في ما جرى في سيامة الأسقف يوحنا بطش إلا فصلاً من قضية حماطورة هو تضخيم لهذه القضية لإخفاء أزمة أكبر حيث السيامة بحدّ ذاتها هي إحدى ظواهرها. هذا دليل على أن القانون استنسابي في أنطاكية وأننا لم نبلغ حدّ النضج في ممارستنا لحقوقنا كشعب أو لسلطتنا كرئاسات.
لحلّ قضية حماطورة ينبغي إخراجها من أيدي اللاعبين الذين أوصلوها إلى حالة الأزمة. ليست الأزمة في أن الأرشمندريت خارج البلاد ولا في فرط الدير. هذه تفاصيل أمام حالة الثقة المهتزّة، وربّما المنهارة، والتباعد بين الرئاسات وفئات كبيرة من الشعب، وهي حالة قابلة للتوسع وأقلّ نتائجها هي فراغ الكنائس وتسرّب المؤمنين. أمّا الوجه الآخر للأزمة والذي سوف ندفع ثمنه لاحقاً فهو في نظرة العالم الأرثوذكسي كله، لا الأنطاكي فقط، إلى مجريات الأمور.
خلال السنوات الماضية رُبِطَت أزمة حماطورة بالعديد من الأمور الأخرى ليتبيّن سقوطها الواحدة تلو الأخرى. حتّى تهمة التحرّش أسقطها قرار المجلس التأديبي الاستئنافي. القول المتداوَل، وأحياناً ببغائياً، بأن الأرشمندريت مذنب وأنّ الكنيسة “رَحَمته” فهو قول يفتقد إلى الحق والمنطق معاً. إن كان مذنباً ورَحَمتْه الكنيسة يعني أنها أوجدَت سابقة تستوجب حلّ كل المجالس التأديبية التي لن يبقى دور لها بعد اليوم. إن لم يكن مذنباً بالتهمة التي وُجِّهَت له وأُدين على غيرها، أي على تهمة التسبب بإثارة الشغب كما يقول بعض الرؤساء، معناه أنّ الفكر القانوني ينقصه الحد الأدنى من الصدق والمعرفة والنضج. وتبقى الفرضية الثالثة بأن القضية هي قضية أشخاص وسلطة وحضور شعبي. كل هذا يعني أن القضية ليست في مكانها والأفضل أن توضَع حيث يجب أن تكون أي في القانون الجزائي.
ختاماً، للولوج إلى حل قبل أن تتسع الهوّة، المطلوب هو توبة الجميع التي تتبعها خطوات جريئة. والأهمّ، كما عبّر أحد المجاهدين القدامى في هذه الكنيسة، يجب أن يفهم الكلّ أنّ الكنيسة أهمّ من الأشخاص.
“فَإِذَا تَوَاضَعَ شَعْبِي الَّذِينَ دُعِيَ اسْمِي عَلَيْهِمْ وَصَلَّوْا وَطَلَبُوا وَجْهِي، وَرَجَعُوا عَنْ طُرُقِهِمِ الرَّدِيةِ فَإِنَّنِي أَسْمَعُ مِنَ السَّمَاءِ وَأَغْفِرُ خَطِيَّتَهُمْ وَأُبْرِئُ أَرْضَهُمْ. اَلآنَ عَيْنَايَ تَكُونَانِ مَفْتُوحَتَيْنِ، وَأُذُنَايَ مُصْغِيَتَيْنِ إِلَى صَلاَةِ هذَا الْمَكَانِ. وَالآنَ قَدِ اخْتَرْتُ وَقَدَّسْتُ هذَا الْبَيْتَ لِيَكُونَ اسْمِي فِيهِ إِلَى الأَبَدِ، وَتَكُونُ عَيْنَايَ وَقَلْبِي هُنَاكَ كُلَّ الأَيَّامِ” (أخبار الأيام الثاني 14:7-16).