القديس أنطونيوس الكبير والمسكونية المعاصرة
المتقدّم في الكهنة ثيوذور ذيسيس
1. ما لم يعفُ عنه الزمن: بيئة مماثلة بين الأديان وبين المسيحية
إن تذكار القديس أنطونيوس الكبير في الكنيسة … يعطينا بنعمة الله وبركة القديس الفرصة لنفرح مرة أخرى بسيرته الرائعة التي كتبها تلميذه رئيس أساقفة الإسكندرية، عمود الأرثوذكسية، القديس أثناسيوس الكبير. إنها نموذج في أدب سيَر القديسين لجميع الذين كتبوا لاحقاً.
يعالج الجزء الأكبر من السيرة إنجازات القديس أنطونيوس، كفاحه ضد الشياطين وتعليمه عنهم، كما إنجازه العظيم في أن يكون مؤسس التجمعات في الصحراء، ملؤه الصحراء بالأديرة، وبالتالي كونه مؤسس حياة الزهد وقائدها. “أقنع الكثيرين باختيار حياة التوحّد، وبهذا أدّى إلى أن تصير الأديار على الجبال وفي الصحراء مأهولة برهبان خرجوا من تلقاء أنفسهم وتجنّدوا في المدينة السماوية“.
لقد قطع غيابه الطويل عن العالم مرتين من أجل النضال والإسهام في إنقاذ الأرثوذكسية، التي في ذلك الحين كما الآن، كانت في خطر من أعداء الخارج وأكثر منه من الأعداء الداخليين. لم تكن المسيحية أبداً “على قدم المساواة” في المحادثات والمفاوضات مع الأديان الأخرى، كما يجدّف المدعوون قادةً مسيحيين في اجتماعات ضد المسيح للحوارات الدينية. المسيحية كانت ولم تزل الحقيقة الوحيدة والطريقة الوحيدة للخلاص والضوء الحقيقي الذي حلّ محل لا الأضواء الأضعف منه بل محلّ ظلام المغالطة وجهل الله. “الشَّعْبُ الْجَالِسُ فِي ظُلْمَةٍ أَبْصَرَ نُورًا عَظِيمًا، وَالْجَالِسُونَ فِي كُورَةِ الْمَوْتِ وَظِلاَلِهِ أَشْرَقَ عَلَيْهِمْ نُورٌ” (متى 16:4). المسيح لم يقل “أنا إحدى الطرقات، وإحدى الحقائق، وأحد الأضواء من بين طرق أخرى، وحقائق أخرى، وأضواء أخرى، بل أنا الطريق الوحيدة، والحقيقة الوحيدة، والضوء الوحيد“.” أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَى الآبِ إِلاَّ بِي“(يوحنا 6:14)، “أَنَا هُوَ نُورُ الْعَالَمِ. مَنْ يَتْبَعْنِي فَلاَ يَمْشِي فِي الظُّلْمَةِ بَلْ يَكُونُ لَهُ نُورُ الْحَيَاةِ” (يوحنا 12:8).
إن حصرية الكتاب المقدس التي يصفها البعض اليوم بأنها هامشية وأصولية، فيما يهينون ويقطعون كلّ مَن يعلنون بثبات وإخلاص أنها الإنجيل والحياة التي دفع ثمنها الرسل القديسون والشهداء غالياً،مفضّلين أن يتعرضوا للتعذيب وسفك الدماء بدلاً من المساومة مع ما يُسمّى “الحقائق” بهدف التعايش في النموذج المتعدد الثقافات السائد في العلاقات والاجتماعات بين الأديان، مفترضين أن هذا محبة للآخرين.
2. معلمو التقاعس والنفاق. كليّو المعرفة و المتواضعون
قبل قسطنطين الكبير، أثناء اضطهاد ماكسيميانوس لمسيحيي الإسكندرية في عام 311، كان القديس أنطونيوس الكبير في الحادية والستين من العمر، ترك الصحراء والزهد والصلاة لفترة من الوقت وجاء إلى الإسكندرية، شجاعاً وغير خائف مشتاقاً لأن يشهد وأن يشجع أولئك الذين يقادون إلى الاستشهاد. لقد تجاهل بشكل قاطع أوامر القاضي للرهبان بالخروج من المدينة وعدم الحضور في المحاكم. ظهر أمام الحاكم الذي كان في مقعده البارز في المحكمة، مبرهناً استعداد المسيحيين للقتال والشهادة على إيمانهم. “وقف غير خائف، مبيناً لنا الغيرة المسيحية، لأنه هو أيضا رغب في الاستشهاد كما قلنا سابقاً“. بالطبع حفظه الله ولم يُقتَل، لأنه أكثر فائدة على قيد الحياة، لكنه لم يحبس نفسه في قلايته في الصحراء بل “كان عادة يخدم المعترفين كواحد معهم في العمل في خدمتهم“. عندما يكون الإيمان الأرثوذكسي في خطر، فإن الأولوية الروحية الأولى هي للدفاع عنه، والنضال ودعم الذين يجاهدون، والقبول بتقديم الدم وحتى الموت؛ كلّ الواجبات الروحية الأخرى تصير ثانوية. كل الآخرين الذين يعملون أو يقدمون المشورة على عكس ذلك، هم ببساطة يغطّون أعذارهم لتخلفهم وجبنهم فيصبحوا معلمين وأساتذة للتقاعس والنفاق.
بالطبع لن نقدم هنا كيف واجه أنطونيوس العظيم رجال الأدب العظماء المتعلمين وفلاسفة الوثنية، بمرافعة لا تُرَدّ، وهو نفسه أميّ، تاركاً إياهم لا كلام لهم مذهولين. قد نفعل ذلك مرة أخرى، لأن الوثنية وعبادة الآلهى تعود إلأى الظهور مرة أخرى، بدعم من أنصار أقوياء. لم يكن القديس يعرف كل شيء كما هم كانوا، لم تكن لديه المعرفة الدنيوية، لكنه كان يعرف الكتاب المقدس وتعاليم القديسين وقبل كل شيء كان الله معلمه ومصدر وحيه.
الإيمان ليس قضية معرفة كبيرة وعلم، بل هو خضوع متواضع لا للمعرفة السائدة بل لحقيقة الكنيسة الخالدة والأبدية. إذا لم يجرّد المرء نفسه من الحكمة الذاتية والتباهي بها يندمج بتواضع في روح المسيح، روح الكنيسة، روح القديسين وآباء الكنيسة التي تفتح الآفاق الروحية، فسوف يبقى المرء في التساؤل والتخمين حول يقين الإيمان ومعرفة الذات، حتى أنّ أكثر المؤمنين بساطة سوف يتهمه بأنه كليّ المعرفة وأناني، ويفتقر إلى التواضع. ومع ذلك، التواضع لا يعني أن على المرء أن يقبل الرأي السائد بل أن يقبل معرفة الله والقديسين، لأنه غالباً ما ينحاز الكثيرون إلى الكذبة ويمكّنون الكذب بكونهم غالبية. إذا كان قبول رأي الأغلبية هو معيار القبول حتّى عندما لا يتفق مع الحقيقة، لما كان الكتاب المقدس مقبولاً بدعم الرسل القليلي العدد ولا كانت الكنيسة استمرّت في هذا الفيض من غير المخلِصين والهراطقة.
3. موقف القديس أنطونيوس ضد الهراطقة. نموذج أولي ليتشبّه به الجميع اليوم
ما نود أن نفعله الآن هو عرض الطريقة التي واجه بها القديس أنطونيوس البدعة الآريوسية، التي هددت الكنيسة داخلياً، بدعم من الإمبراطور والقادة والبطاركة والأساقفة كما يحدث في هذا اليوم مع عموم الهرطقات من البابوية والمسكونية، والتي هي أكثر خطورة بكثير لأنها تقوض تقريباً كل عقائد الإيمان وتحوّل التعليم الإلهي الذي في الكتاب المقدس إلى تعليم إنساني عادي. فهم يسحبون المسيح الإله–الإنسان والقديسين والآباء ويستبدلونهم ببابا روما المعصوم وانتشار البدع في المجلس العالمي لما يسمى الكنائس. هذا العرض مفيد جداً حتى بالنسبة لأولئك الذين يدّعون عدم رؤية الخطر، وللآباء الروحيين “الجديين“المُضَلَلين أو الموضوعين في مواقف صعبة جداً، ولأبنائهم الروحيين الذين يرون بشكل أفضل من خلال عيون القديسين وينتهي الأمر بهم إلى التشكيك في جدارة توجيههم الروحي. بالطبع، القديسون هم أكثر جدارة بالثقة من أي شيخ أو دليل روحي لا تغضبه الهرطقة ولا يقاتل لفضحها أو التخلّص منها.***
وهكذا، غادر أنطونيوس الكبير الصحراء للمرة الثانية ونزل إلى الإسكندرية. كان أثناسيوس الكبير الأسقف الأرثوذكسي والبطريرك، وهو كان تحت الاضطهاد المستمر، فيما سلسلة من المنفيين والشعب الأرثوذكسي كانوا واقعين تحت الهرطقة الأريوسية، كما هو الوضع في الوقت الحاضر حيث الشعب تحت وصاية البطاركة والأساقفة المسكونيين أو المؤيدين للمسكونية. نتعلّم من سيرة انطونيوس الكبير أنّه “كان أكثر من رائع وموقر“. كان لديه تعاملات مع الملتيوسيين المنشقين لأنه منذ البداية كان على بينة من مكرهم وارتدادهم. ولكن علاقته مع المانيخيين وغيرهم من الهراطقة لم تكن ودية أبداً بل انحصرت بتقديم المشورة وإستعادتهم ليرجعوا مؤمنين أرثوذكسيين. لقد آمن وعلّم أنّ مصادقتهم والحفاظ على الشركة معهم ضارة ويمكن أن تنتهي بخسارة الأرواح. لقد أبغض البدعة الأريوسية وحذّر الجميع من الاقتراب من الأريوسيين أو قبول تعليمهم الزائف. مرة زاره بعض الأريوسيين المتعصبين، فبعد أن تحدّث معهم وفهم أنهم غير مؤمنين، أرسلهم بعيداً عن الجبل حيث كان ينسك، وقال لهم أنّ كلماتهم أسوأ من سم الثعابين. نستطيع أن نقول أن هذا التعليم يحدد القاعدة التي تظهِر لنا بوضوح وصدق وبدون خداع، كيفية محاورة الهراطقة وتنظيم تفاعلاتنا الإنسانية والاجتماعية معهم. وفي الوقت نفسه يظهر لنا أن كل الحدود التي وضعها الآباء القدامى يهدمها المسكونيون الذين يحتضنون الهراطقة ويقبلونهم كما لو كانوا أتقياء ويشاركونهم الإيمان نفسه ولا يفكّرون أبداً باستبعادهم ولا حتّى حثّهم على العودة إلى الأرثوذكسية. تجري الحوارات “على قدم المساواة“، مساوين الأكاذيب والبدع والخداع بالحقيقة. عند التحاور “على قدم المساواة“، يعني أنك تمنح الأكاذيب إمكانية السيادة على الحقيقة، وأنك تشكّ بالحقيقة وتسعى للعثور عليها. لكن حوار القديسين والآباء، هو حوار المسيح مع المرأة السامرية، حوار الرسل مع اليهود والأمم، حوار الآباء مع الهراطقة، إنه دعوة وحثّ على العودة إلى الحقيقة، إلى الانضمام مجدداً إلى الكنيسة الواحدة، المقدسة، الجامعة والرسولية؛ هذا هو الاتحاد والسلام الحقيقان. أما الباقي فهو اتحادات كاذبة، وسلام كاذب، وحوارات مزيفة.
4. رؤية القديس أنطونيوس المروّعة عن الهراطقة: وحوش بكماء حول المذبح المقدس
إن الرؤية التي رآها القديس أنطونيوس عن وجود الهراطقة داخل الكنائس الأرثوذكسية لمروّعة حقاً. هذه الرؤية تصوّر وتوضح بيانياً الأسباب التي أدّت بالآباء القديسين إلى وضع قوانين مجمعية تمنع دخول الهراطقة إلى الأماكن المكرّسة، ومشاركتهم في الخدم والقداديس، كما الصلوات المشتركة والعبادة المشتركة.
لا يقبل الهراطقة تعاليم الكنيسة والرسل والقديسين، وهم متأثرون بالشياطين وأبيهم، الشيطان، في الترويج لوجهات نظر مضللة. لهذا السبب تعليمهم “عديم الفائدة وعبثي وفكرهم ليس صحيحاً، كالبغال البكماء“.
لقد ارتعد وخاف القديس أنطونيوس عندما سمح الله له بأن يبصر في رؤيته الآريوسيين محيطين بالمذبح المقدس كبغال تركل المذبح وتدنسه. لقد بلغ به الحزن أنه راح يبكي مكتئباً ومدمعاً شأن الكثير من المؤمنين عند رؤيتهم البابا الهرطوقي يدخل ويدنّس كنيسة القديس جاورجيوس في الفنار فيما الفاتيكان أسقط هذا القديس نفسه. نحن على يقين أنه لو كان البطاركة ورؤساء الأساقفة والأساقفة قد قرأوا وتعلّموا من رؤية القديس أنطونيوس، وبطبيعة الحال لو أنهم كأرثوذكس لا يزالون يكرمون ويتّبعون حياة القديسين وتعليمهم، فإنهم سيوقفون الضيافات والزيارات الليتورجية المتبادلة، الصلوات المشتركة الأسبوعية، وتبادل الممثلين في الاحتفالات السنوية. وإلا فإنهم سيظهَرون بين المتآمرين بحسب رؤية القديس أنطونيوس المخيفة.
بحسب سرد أثناسيوس العظيم في السيرة، ففي حين كان أنطونيوس الكبير جالساً، مشغولاً بعمله اليدوي، دخل في غشية فكان يتنفس بصعوبة أثناء رؤيته. بعد ذلك بقليل تحول إلى الرهبان الحاضرين، فيما لا يزال يتنفس بصعوبة ويرتجف. سقط على ركبتيه للصلاة واستمر راكعاً لفترة طويلة. وعندما نهض الشيخ كان يبكي. ارتعب الحاضرون وأصابتهم الصدمة. فطلبوا منه أن يشرح لهم. وإذ أصرّوا وألزموه، تنهّد مرة أخرى وقال: “أبنائي من الأفضل لي أن أموت قبل أن أرى حدوث الأمور التي عاينتها في رؤيتي. غضب الله سوف يقع على الكنيسة وسوف تُسلّم إلى أناس هم وحوش عديمو الفكر. رأيت هيكل الكنيسة المقدس، عند الإسقيط الرئيسي محاطاً بالبغال من كل النواحي وكانت تركل وتقفز صعوداً وهبوطاً كما هو طبيعي لهذه الحيوانات البكماء. لقد رأيتموني ولاحظتم أني كنت أتنهّد قبلاً؛ ذلك لأنني سمعت صوتاً يقول: “سوف يتدنّس مذبحي“، هذا ما رآه الشيخ. وبعد عامين بالضبط هاجم أريوس الكنائس وسرقها، واخذ الأوعية المقدسة بالقوة وسلّمها إلى المشرِكين. لقد أجبروا الكهنة على حضور الاجتماعات معهم ونفّذوا كل رغباتهم على المذبح المقدس. ثم فهمنا جميعاً، يقول أثناسيوس الكبير، أن ركل البغال الذي أنبئ القديس أنطونيوس به هو ما يفعله الأريوسيون الآن كحيوانات. بعد الرؤية، أحسّ الشيخ بالحاجة إلى تشجيع الذين حوله وتعزيتهم بالقول: “لا تحزنوا يا أبنائي. إذ كما غضب ربنا، فهو سوف يشفي كل الشر. سريعاً سوف تستعيد الكنيسة جمالها وسوف تتألق. سوف تشهدون عودة المنفيين، المؤمنون الأتقياء سوف يظهرون مجدداً ويحكمون في كل مكان. يكفي أن لا تدعوا أنفسكم تتنّجسون ببدعة أريوس، كونها ليست من تعليم الرسل بل من الشياطين وأبيهم، الشيطان، غير عقلانية ولا مثيل له مثل البغال البكم“.
إن غضب الله على الكنيسة حلّ منذ عقود عديدة. البابوية والمسكونية تنتصران. في ذلك الزمان فهم أثناسيوس الكبير والآباء القديسون الآخرون الخطر الموصوف في رؤيا أنطونيوس الكبير. نحن نشهد الآن تلوث الكنائس والهياكل المقدّسة بالصلوات والطقوس المشتركة مع الهراطقة “غير العقلانيين“، ونحن نساعد التلوث ونثنّي عليه، بالانضمام إليه في ركل المذبح“. وإذا لاحظ أحد الصلوات المسكونية المشتركة، كتلك التي جرت في كانبيرا خلال المجلس العام السابع لما يسمى بمجلس الكنائس، مع المشاركة المعتادة للكهنة المثليين الذين لا يجرؤون على حمل الكأس المقدس، كما الأساقفة النساء والكاهنات، فإن المنظر يتجاوز حتى رؤيا أنطونيوس الكبير: “إن الأمل الوحيد لكنيستنا لاستعادة جمالها وارد في وصية أنطونيوس الكبير ونصيحته: «حذار أن تتلوثوا أنفسكم مع الآريوسيين». يجب أن نحرص على أن لا نلوث أنفسنا بالشركة مع البابوية والمسكونية والأرثوذكس المؤيدون للبابابوية والمسكونية. لأننا حتى الآن لم نقم بذلك بشكل حيوي وحاسم، فيما الله لسنوات يطيل غضبه ومعه أَسر الأرثوذكس بالهرطقة المسكونية. إلى كم من الوقت سوف يسمح الأساقفة والرهبان والشعب للحيوانات الوحشية، الهراطقة، بأن يركلوا ويلوثوا مذبح الأرثوذكسية ومقدّساتها؟ طالما نحن نبقى غير ناشطين ونستنبط أعذاراً روحية زائفة مختلفة، فإن رجسة الخراب ستقف على الأرض المقدسة.