الدور النبوي لجبل أثوس في العالم الحاضر*
جان كلود لارشيه
نقلها إلى العربية الأب أنطوان ملكي
إن الرهبنة بشكل أساسي هي عيش الحياة المسيحية في التزام كامل بإنكار العالم وتكريس الذات لله. من وجهة النظر هذه، الرهبنة هي نفسها في كل مكان، وكل دير أو إسقيط أو منسك هو مكان متميّز، مركز مرجعي للحياة الرهبانية وطريقة الحياة المسيحية. إلى حد كبير، ما يُقال عن الرهبنة يمكن قوله عن جبل أثوس، وما يمكن قوله عن الجبل المقدس يمكن قوله عن الرهبنة.
لكن جبل أثوس لطالما كان مكاناً فاتناً، يشدّ انتباه ليس فقط الأرثوذكسيين، بل أيضاً الناس الذين ينتمون إلى أديان أخرى وحتّى غير المؤمنين. هذا يتمّ برهانه من عدد الكتب والمقالات عن جبل أثوس، كما من السيل الذي لا ينقطع من الحجاج والزوار من حول العالم. هذا الافتتان ليس جديداً، بل على الأكيد هو أعظم في أيامنا منه في السابق وذلك لعدة أسباب.
1) السبب الأول هو أن جبل أثوس هو جمهورية مستقلّة، وعليه هو بمثابة وطن، يقطنه رهبان فقط ومكرّس بالكليّة للحياة الرهبانية. بالرغم من أن في كل بلد أرثوذكسي منطقة فيها عدة أديار، ما من بلد يجمع هذا العدد الكبير من الأديار والأساقيط والمناسك، وهو منطقة يحكمها الرهبان، مع حدود حقيقية تفصله عن البلدان والمناطق المجاورة له. إنه منطقة محمية لا فقط سياسياً، إدارياً وجغرافياً (كونه شبه جزيرة)، لكن أيضاً روحياً كون جبل أثوس يسمّى “حديقة والدة الإله” وهو يُعتَبَر مكاناً يخصّها وهي موجودة فيه بشكل خاص. بهذا، هو بلد يقطنه رهبان بكامله، لا يسمح “بحرية تنقّل الأفراد” التي تطلبها القوانين الأوروبية، لا يسمح بتدفق السوّاح، ولا يقبل بدخول النساء، بل يمدّ النسيج الرهباني إلى مدى حدوده الطبيعية والجغرافية. إن جبل أثوس هو أرض ليست كغيرها.
2) ثانياً، إن جبل أثوس هو شهادة لملكوت الله الموجود في ما بيننا الآن.
إن جبل أثوس يأوي أكبر عدد من رفات العالم الأرثوذكسي وأكثرها أهمية. هذه الرفات تجعل كل القديسين المسيحيين تقريباً حاضرين وفاعلين بمعجزاتهم.
جبل أثوس هو نقطة تتركّز فيها الحياة الرهبانية ومكانٌ مؤاتٍ للقداسة. بعضهم هم معاصرونا ومعروفون في كل العالم، كالقديس سلوان الأثوسي، يوسف الهدوئي وأبنائه الروحيين، أو القديس باييسيوس. من خلال قديسيه الكثيرين في الماضي والحاضر، يبدو جبل أثوس، بحسب تعبير كاتب المزامير، “الجبل المثمر“، “الجبل الخصِب“ “الجبل حيث يرضى الرب أن يحيا” وحيث
حيث يعيش الى الأبد” (مزمور 16:67-17).
3) ثالثاُ، جبل أثوس هو مذكِّر بالملكوت وإعلان له.
ليس فقط من خلال قديسيه، لكن أيضاً كمكانٍ مبارك ومؤسسة مقدسة، يظهِر جبل أثوس بشكل نبوي عالماً آخراً يعطي معنى للعالم الحاضر. فأثوس المدعو أيضاً الجبل المقدس وحديقة العذراء هو صورة للفردوس، ومذكّر بالفردوس الذي فقده أبوانا الأولان، وتصوير رمزي للفردوس الموعود به الأبرار.
أ) يقدّم جبل أثوس صورة للطبيعة الفردوسية لأن في تنوّع المناظر الطبيعية التي تمتد من مستوى البحر إلى علو ألفي متر، حيث قمة أثوس، يعيش الكثير من النباتات وأنواع الحيوانات مشكِّلَة عالماً صغيراً يلخّص العالم. سبب آخر هو أن الطبيعة تبقى غير ملموسة ومحمية من الاستغلال الاقتصادي والتلوث الصناعي. إن وجوده في العالم المعاصر هو ذو قيمة نموذجية. إنه نموذج لعلم البيئة الروحية التي تبرهن تكاملية الخليقة التي أوكلها الله للإنسان في اﻷصل لاستعماله وسدّ حاجاته، فيما هي في الوقت عينه وسيلة للتأمّل والشكر.
ب)إن مدى جبل اثوس يعكس المدى السماوي أيضاً، و يشير إلى مدى مملكة السماوات. على خلاف مساحات كل البلدان في العالم، المنقسمة بين المقدس والدنِس وأحياناً هي دنسة بالكامل، تبدو مساحة جبل أثوس مقدسة بالكلية، ليس فقط بوجود عدد كبير من الأديار والأساقيط والمناسك والكنائس والمزارات، بل أيضاً ﻷنها تقدست كلها بالقديسين الذين مرّوا بكل هذه الأماكن وملؤوها بأصوات صلواتهم وبثوا في كل نقطة فيها القوة الإلهية التي تشعّ. في كلّ مرّة نسير على ممرٍ في جبل أثوس، نكون واثقين بأننا نضع أرجلنا على خطى قديسين سبقونا هناك. الكثير من الأماكن في الطبيعة تحتفظ بذكرى ظهور المسيح ووالدة الإله أو القديسين. ما من دير هنا أو منسك أو مزار أو نبع ماء أو ساقية لا يمكن تفسير وجودها برؤيا سماوية أو معجزة.
ج) ينبغي قول بعض الكلمات أيضاً عن المعنى النبوي للزمان اﻷثوسي. أحد الأمور ذات التأثير الملموس على زوار جبل أثوس، والتي تثير الحيرة إلى حد ما، هي تغيّر الزمان. أغلب الأديار تتبع التوقيت البيزنطي، الذي لم يعد يشير لأي توقيت آخر في أي بقعة من الأرض.يسمي الرهبان توقيتنا “الساعة العالمية (kosmiki ora)”. التوقيت البيزنطي ليس مجرد رفات من العصور القديمة، إنه يظهر نمطاً آخراً للوقت، وقتاً روحياً، مقدساً لأنه مكرَّس بالكلية لله، مقسماً ومرتباً ليلبّي مشيئته. إنه يذكّرنا بشكل رمزي بالتوقيت السماوي ويعلن زمن الملكوت.
4) نقطة مهمة رابعة هي حياة الجماعة كما هي مرتبة عبر الجبل ككل وفي كل دير على حدة، هي دعوة للوحدة بين البشر، وشهادة بأن هذه الوحدة ممكنة في المسيح. في عالم ممزق بالحروب والعصبيات الوطنية، والصراعات الإثنية والتعصب فإن هذه الشهادة وهذه الدعوة هما بالفعل نبويتان.
إن جبل أثوس بأكمله يشهد ولأجيال كثيرة على العلاقات الحسنة بين الجماعات الآتية من خلفيات إثنية مختلفة التي لا تتعايش بسلام وحسب، بل تعيش بتناغم في رباط المحبة.
في رباط المحبة تحكم الحكومة المقدسة جبل أثوس، وهي مؤلفة من ممثلي الأديار الرئيسية، لا بحسب المبادئ الديموقراطية العالمية بل بروح المجمعية المسيحية. كل دير يقدّم شهادة تشبه الأخرى، وهو يديره مجلس شيوخ يرأسه رئيس الدير وينتخبه الرهبان.
5) كنقطة خامسة، تنبغي الإشارة إلى الأدوار الرئيسية التي لعبها جبل أثوس في تاريخ الأرثوذكسية، والتي لها اليوم أهمية عظمى: الحفاظ على التقليد والدفاع عن الإيمان الأرثوذكسي. هذا دور نبوي لأن في التقليد أن النبي هو مَن يذكّر الناس بإخلاصهم لله، وهو مدافع عن الإيمان في وجه كلّ ما يسعى إلى تبديله أو حرفِه.
في عالم خاضع للتغير بسرعة متزايدة، يعطي جبل أثوس مثالاً عن استقرار صورة العالم الإلهي وديمومتها. إن رهبان أثوس محفوظون من العطش إلى التغيير والحركة التي تسبب الدوار اللذين يشغلان الناس السالكين في العالم، وهم مصونون من الضغط الاجتماعي الذي يفرض الالتزام بمختلف الأوجه لنمط حياة المجتمعات الحديثة، وهكذا يحفظون بدقة القوانين الكنسية، والممارسة الليتورجية ونمط الحياة النسكي الذي سلّمه إلينا آباؤنا القديسون من جيل إلى جيل.
إن الصيانة الدقيقة حتّى لأصغر التقاليد كانت الشرط للحفاظ المثالي على التقليد الأرثوذكسي لأكثر من ألف عام. لقد ساهم الرهبان اﻷثوسيون بشكل كبير في الحفاظ على الإيمان الأرثوذكسي في كل اللحظات الصعبة في التاريخ حين كان يُهدَّد الإيمان، وما زالوا يقومون بذلك إلى اليوم. ولهذا هم يتمتعون بهيبة خاصة وسلطة كبيرة.
إن الدور النبوي، كالساهر والمنارة، الذي يلعبه جبل آثوس عادة في العالم الأرثوذكسي بإشارته إلى الانحرافات عن التقليد وتذكير الناس بما هو الإيمان الحقيقي، هو دور ذو أهمية خاصة في عصرنا الحالي، حيث يمكننا أن نلاحظ الوهن الكبير في الوعي العقائدي.
6) النقطة السادسة والأخيرة، إن جبل أثوس يساهم بطريقة أساسية في الحفاظ على الروحانية الأرثوذكسية في حالة ثابتة ونابضة بالحياة. هذه الروحانية فصّلها رهبان فلسطين وسوريا وسيناء والستوديون في القسطنطينية، لكن الآباء الأثوسيين صاروا منذ القرن الثالث عشر الورثة الرئيسيين والحفظة لهذه الروحانية. لقد صار جبل أثوس نموذجاً ذهبياً للنسك والروحانية، وجذب الكثير من الرهبان من كل البلدان. عند زيارتهم أو عودتهم لبلادهم يساهم هؤلاء الرهبان بشكل كبير في نشر هذه الروحانية. لطالما كان جبل أثوس، بشكل خاص، مركزاً لممارسة صلاة يسوع والروحانية الهدوئية. ودوماً تجد هذه الممارسة مركزها في جبل أثوس.
إن لدى آباء جبل أثوس مهمة إيصال هذا التقليد القديم إلى شعوب اليوم وعليهم مسؤولية تسليمه إلى الأجيال القادمة. في هذا أيضاً يكمن دور الرهبنة اﻷثوسية النبوي والأخروي.
* ورقة مقدّمة في المؤتمر الدولي “الروس – الجبل المقدس أثوس: ألف سنة من الوحدة الروحية والثقافية” (موسكو، 21-24 أيلول 2016).
The Prophetic Role of Mount Athos in the Contemporary World, http://www.pravoslavie.ru/english/99644.htm