حمل الصّليب
للأب ريتشارد ديمتريوس أندروز
نقلها إلى العربية بتصرّف الأب نقولا مالك
ثلاثةُ أتقِياءَ كانوا يتحادثُونَ حولَ الصّلاةِ بشكلٍ عامّ، والوضعيّاتِ الفُضلى والأكثر فعاليّةً الّتي يجبُ اتّخاذُها في الصّلاة. وفيما هم يتحادثون، كان في الجانب الآخَرِ من الغرفةِ رجلٌ يَعملُ على إصلاحِ خطّ الهاتف.
قالَ واحدٌ منهم إنّ الطريقةَ الفُضلى هي في ضَمِّ الكَفِّينِ وَهُما تُشِيرانِ إلى الأعلى؛ واقترحَ آخَرُ أنَّ الصّلاةَ الحقيقيّةَ تكونُ بِحَنْيِ الرُّكبتَين؛ أمّا الثّالثُ فخالَفَ صَدِيقَيهِ الرَّأيَ، قائلاً إنَّ الوَضْعِيَّةَ الوحيدةَ هيَ في تمديدِ الجسمِ انبِطاحًا وَالوَجهُ إلى الأرض.
عندما وَصَلَ الحديث إلى هذا الحدّ، لم يَعُدْ عاملُ الهاتفِ يُطِيقُ صَمْتًا، فاقتحمَ الحوارَ قائلاً: أفضلُ طريقةٍ للصّلاةِ اختبَرتُها على الإطلاق هي عندما أكونُ مُعَلَّقًا مِن قَدَمَيَّ في ذُروَةِ عَمُودٍ، مُتَدَلِّيًا رَأسًا على عَقِبٍ على مسافةِ بضعةِ أمتارٍ من الأرض.
نَستَشِفُّ مِن هذه القصَّةِ الطّريفةِ حقيقةً تُقال، أَلا وَهيَ أنّ قُوَّةَ صَلاتِنا لا تعتمدُ على وَضْعِيَّةِ جَسَدِنا، بَل تعتمدُ بالأحرى على استِعدادِنا النّفسيّ وَما يَنتُجُ عنهُ من رَغبةٍ قَلبِيَّةٍ حارّة. وغالبًا ما تكونُ وَضْعِيَّةُ جَسَدِنا نتيجةً لاستعدادِنا النّفسيّ.
إِذا رَغِبْنا في لَفْتِ انتِباهِ أَحَدِهِم، لا نُتَمتِمُ بَل نَرْفَعُ صَوتَنا؛ وَلا نَستَلقي بل نجلسُ متأهِّبِينَ رافِعِينَ يدَنا، أو واقفِين. إذا كُنّا نَلتمسُ مِن الآخرِ رحمةً أو مساعدةً ما، علينا الانحناء أو الرّكوع استعطافًا. كلُّ ذلك لِجَذبِ انتباهِه، لكي نَبدأَ بعدَها بإبلاغِه الأمرَ الهامّ الّذي جئنا نطلبُه منه، وفي صوتِنا نَبرةُ الاضطِرار. الأمرُ نفسُه يَنطَبِقُ على صلاتِنا للّه. إذا كُنّا في وَضْعٍ حَرِجٍ، في مَرَضٍ جِدِّيٍّ، في خَطَرِ مَوت، أو إذا خَسِرنا وَظيفَتَنا، إو أذا ارتكَبْنا خطأً فادِحًا، إو إذا كانَ زَواجُنا يَنهار، أو إذا خَسِرْنا أحدَ أعزّائِنا بالموت، أو أَيّ شيء مِن هذا القَبيل، فعَلَينا أن نَطْرَحَ هَمَّنا أمامَ الرَّبِّ بِنَبْرَةِ مَن هُوَ واقعٌ في مشكلة، باستِعطافٍ مِن نوع: “أنا أُعاني مِن مُشكلة.. أنا ضعيف.. أنا أحتاجُ إلى مَعُونَتِك، والآن”.
قَبْلَ أَلفَي سنةٍ مِنَ الآن، عُلِّقَ رَبُّنا يسوعُ المسيحُ على خشبة، بعدَ أنِ اتُّهِمَ ظُلْمًا، وَقُبِضَ عليه وَحُوكِمَ بِناءً على شهاداتِ زُور، وَحُكِمَ عليهِ مِن مُنطَلَقِ الحَسَدِ والكراهية. تَمَدَّدَ على الصّليبِ وصارَ مَشهَدًا يَراهُ الجميع. حتّى إنَّ البعضَ سَخِرَ منه، والبعض بَصَقَ عليه. ما كانت ردَّةُ فِعلِ يسوعَ على كُلِّ تلكَ الإهانات؟ لقد صلّى إلى الآبِ السماوِيّ قائلاً: “إغفِرْ لَهُم لأنَّهم لا يعلَمُونَ ماذا يفعلون” (لو 42:23). لم يُدافِعْ عن نفسِه مُستعينًا بأجواقِ الملائكة، ولا تَرَكَ بطرسَ يُدافِعُ عنه بالسَّيف. لِمَ امتَنَعَ عَنِ الدِّفاع؟ لأنَّهُ أرادَ أن يُرِيَنا قُوَّةً أكبر، قُوَّةَ المحبَّةِ والغُفران، هذه القوَّة الّتي لا تأتي إلاّ مِنَ الرَّبِّ الإله. كَما أرادَ أن يُعَلِّمَنا أنَّ الطريقةَ الوحيدةَ لاكتسابِ هذه القُوّةِ هِيَ الإيمانُ بالرَّبِّ الإله، وَوَضْعُ الرَّجاءِ علَيه. لقد كان يُرِيدُ، قَبْلَ كُلِّ شيءٍ، تحطيمَ الموتِ الّذي كانَ يُقَيِّدُ جِنسَ البَشَر.
لقد دعانا يسوعُ المسيحُ إلى الإيمانِ بالله، وكانَ لَنا خَيرَ نَمُوذَجٍ في مَحَبَّةِ اللهِ الآبِ والإيمانِ بِهِ والرَّجاءِ علَيه.
وهكذا، عندما نَكُونُ مُتَدَلِّينَ مِن صَلِيبِنا الخاصّ، رأسًا على عَقِب، فاقِدِينَ كُلَّ رَجاء، مُعَرَّضِينَ لِخَطَرِ السُّقُوطِ في أَيَّةِ لحظة، نَصِلُ إلى امتحانِ إيمانِنا: هَل نُؤمِنُ باللهِ أم لا؟ إذا كُنّا نُؤمِنُ بِه، فَهَلْ نَثِقُ بأنَّهُ يَسمَعُ وَيُصغي لِصَلَواتِنا؟ والأَهَمُّ مِن ذلك، هَل نَثِقُ بِمَشِيئَتِه؟
نحنُ نأتي إلى معرفةِ الرَّبِّ يَسُوعَ المسيحِ واللهِ الآبِ والرُّوحِ القُدُس، لا مِن خلالِ الحكمة، بل مِن خلالِ الإيمان. لا تنتظِرْ أن تَكُونَ مُعَلَّقًا على صليبٍ مرتفع، رأسًا على عَقِبٍ، لكي تَبدأ بِوَضْعِ إيمانِكَ وَرَجائِكَ على الرَّبّ. لا تَسلُكِ الدَّربَ بِتَرَدُّدٍ مُنتَظِرًا أُعجوبةً كاليهودِ القُدَماء، بَل كُنْ مُنذُ الآنَ رافِعًا يَدَيكَ، راكِعًا على رُكبَتَيك، واضِعًا وجهَكَ إلى الأرض، باكِيًا في حَضْرَةِ الرَّبِّ يَسُوعَ المسيحِ إلهِنا. وَاسْكُبْ أمامَهُ كُلَّ هُمُومِكَ، الكَبِيرةِ منها والصَّغيرة، بِتَواضُعٍ وَإيمانٍ وَثِقة. إنّه يَسمَعُكَ وَيَتَمُّ بِكَ وَيُحِبُّكَ. إنَّه سَوفَ يَرفَعُكَ وَيَهَبُكَ السَّلام. آمين.