علم اللاهوت ومعاينة الله
الميتروبوليت ييروثيوس فلاخوس
نقلها إلى العربية بتصرف اﻷب أنطوان ملكي
كان برلعام فيلسوفاً إنساني النزعة أصرّ على أن اكتساب معرفة الله هو نتاج العمليات العقلية. لقد اعتبر أن الفلاسفة أعلى من الأنبياء، وبالتالي كان لاهوته ذهنياً، عقلياً، حدسياً، وتجريدياً بالتمام. لقد شكّل ذلك خطراً شديداً على الكنيسة إذ كان من الممكن أن يقودها نحو الدهرية. وهذا الخطر نفسُه يكمن اليوم في العديد من الدوائر اللاهوتية حيث يؤمن الناس، أو على الأقل يتظاهرون بالإيمان، بأن علم اللاهوت هو فرع من المعرفة الأكاديمية وأنه نتاج لعمليات الفكر المنطقية وللمراجع الكتابية.
يستطيع القديس غريغوريوس بالاماس الرد على هذا الموقف كما رد على تعليم برلعام. أولاً، يؤكّد القديس أنّ علم اللاهوت النقيّ ليس موهبةً طبيعية ولكنه عطية النعمة الإلهية. إنه يستخدم أمثلة متعددة لكي يثبت هذه الحقيقة. فاللذة الجسدية في الزواج الشرعي بغرض التناسل لا يمكن تسميتها “عطية إلهية” على الرغم من أن الله ذاته هو الذي خلق الطبيعة، “لأنها عطية جسدية طبيعية، وليست عطية للنعمة“.
ينطبق الشيء نفسه بالضبط على المعرفة المتولدة من الدراسة العالمية. حتى لو استعملها المرء استعمالاً صالحاً، إلا أنها تبقى “عطية طبيعية وليست عطية من النعمة“. تعليم العالم (الفلسفة) هو عطية طبيعية وليس عطية النعمة، يستطيع المرء أن يكتسبها بمجرد الدراسة والقراءة. إلا أن “حكمتنا الإلهية” ليست عطية طبيعية، ولكنها عطية يمنحها الله للذين طهروا قلوبهم. عندما أتت هذه العطية للصيادين جعلتهم أبناء الرعد وكارزين للعالم كله، وعندما أتت لجباة الضرائب “خلقت منهم تجاراً للنفوس“.
النقطة القديس التالية هي أن علم اللاهوت الأرثوذكسي ليس فلسفة، ولكنه قبل كل شيء معاينة الله. الفرق كبير بين “اللاهوتيين” من نوعية برلعام وبين الذين يعاينون الله. الفرق واضح بين هذا النوع من “علم اللاهوت” وبين معاينة الله. كان القديس غريغوريوس بالاماس قادراً في بعض الظروف أن يدعو حتى برلعام لاهوتياً لأنه كان يتكلم عن الله (كفيلسوف أساساً)، ولكنه لم يستطع أن يدعوه معايناً الله.
يختلف علم اللاهوت الفكري عن معاينة الله “حيث أن معرفة الشيء تختلف عن امتلاكه“. الكلام عن الله يختلف تماماً عن الالتقاء به والشركة معه. فالأول متاح لأي أحد يمتلك عقلاً ومهارة ويعرف آليات الجدل المنطقي، حتى لو كانت حياته ونفسه غير متطهرة.
إلا أنه من المستحيل أن يتّحد المرء بالله ويكتسب معرفة روحية عنه “ما لم يكن بالإضافة للتطهر بالفضيلة، قد خرج خارجاً، أو بالأحرى، تجاوز ذاته تاركاً وراءه كلّ شيء مدركٍ بقدرته على الإدراك، مرتفعاً فوق الأفكار والمنطق والمعرفة المكتسبة من خلالهما، مسلماً نفسه بالتمام لقوة الصلاة القلبية غير المادية. بهذه الطريقة يصل المرء لهذه اللامعرفة التي تفوق المعرفة، والمملوءة بالنور الفائق الذي للفرح الروحي…”.
هذا النص معبر جداً لأنه يظهر قيمة علم اللاهوت الحقيقي السديد. لا يستطيع أحد أن يصل للشركة مع الله ما لم يتطهر أولاً، ويترك وراءه الحواس بكل مدركاتها، ويرتفع فوق العقل والأفكار، ويكتسب اللامعرفة التي تفوق المعرفة، التي هي ثمرة الصلاة القلبية. علم اللاهوت الحقيقي ينبع إذاً من التطهّر ومن معاينة الله.
علم اللاهوت الأرثوذكسي هو، بحسب تعليم القديس غريغوريوس بالاماس، معاينة الله. فقط أولئك الذين وجدوا مستحقين لمعاينة النور غير المخلوق هم القادرون على اكتساب المعرفة الحقيقية عن الله. إنه يعلن بوضوح: “معرفة الله والعقائد الخاصة به والتي نسمّيها علم اللاهوت هي أيضاً معاينة الله“. ويكتب في موضع آخر قائلاً: ” معاينة الله تختلف عن علم اللاهوت“، بمعنى أنه من الممكن أن يتكلم المرء عن اللاهوت من خلال خياله وفكره، ولكن علم اللاهوت الحقيقي هو معاينة الله. هكذا تختلف معاينة الله عن شبه علم اللاهوت العقلي الفلسفي، إذ أن “الكلام عن الله بثقة” هو ثمرة الثايوريا أي معاينة الله.
ليست معاينة الله هذه، وبالتالي علم اللاهوت الحقيقي، تجريدية مبنية على الحدس والتخيل، بل هي قبل كل شيء رؤية تفوق قوة بصر الإنسان. ليس الآباء القديسون “مثل أولئك الذين يتحدثون عن الله بطريقة تجريدية. إنهم يعرفون من خلال رؤية ما يفوق البصر. إنهم يمرّون بنوع من الإخلاء دون أن يدركوا ذلك“. أولئك الذين وُهبوا هذه الرؤية السماوية “يعرفون ما يفوق العقل، إذ يرون هذه القوة المانحة التأليه في الروح القدس، وليس عن طريق النفي“. معاينة النور هي حالة إيجابية، وبالتالي فإن علم اللاهوت الأرثوذكسي، الذي هو معاينة النور الإلهي، إيجابي.
إذا علّم شخص ما عديم المعرفة أو الخبرة بأمور الإيمان عن هذه اﻷمور “بحسب أفكاره الخاصة محاولاً أن يظهر بطريقة منطقية الصلاح الفائق للمنطق، فإنه بلا شك غارق في جنون مطلق…”. ولكونه عديم الحس، فإنه “سيُحسَب كعدو لله“. توجد أيضاً حالات لأناس ليست لهم أية أعمال صالحة ولم يتطهروا، التقوا برجال قديسين واستمعوا لهم، ولكنهم “إذ اتبعوا أفكارهم الشخصية” رفضوا أولئك الرجال القديسين وضلوا بكبرياء.
تظهر كل هذه الأمور أن علم اللاهوت هو بصورة رئيسية نتيجة لشفاء الإنسان، وهو ليس علماً عقلياً. فقط ذاك الذي تطهّر، أو الذي هو على الأقل في مسيرة التطهّر، يستطيع الدخول في الأسرار الأبدية والحقائق العظمى وتلقّي الإعلان وبالتالي نقله للناس. ينبغي أن يسبق الشفاءُ علمَ اللاهوت، وعندئذ يستطيع اللاهوتي أن يعطي الشفاء للآخرين. هكذا، في التقليد الآبائي الأرثوذكسي، يكون اللاهوتي هو نفسه الأب الروحي. الأب الروحي هو لاهوتي بامتياز اختبر الأمور الإلهية، ويستطيع بالتالي إرشاد أولاده الروحيين بدون خطأ.
* بتصرّف من كتاب “العلم الروحي“.