بين الكماليّة والكمال
الأب جورج موريللي
نقلها إلى العربية الأب أنطوان ملكي
كُونُوا أَنْتُمْ كَامِلِينَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ هُوَ كَامِلٌ. (متى 48:5)
هذه الكلمات التي أعطاها المسيح لرسله وتلاميذه والجموع على الجبل، ينبغي حفظها في قلب كلّ تابع ليسوع المسيح. لهذا، نلجأ إلى آباء الكنيسة ليساعدونا على فهم المعنى الحقيقي لعبارة “كونوا كاملين”. كان الآباء واقعيين في فهم المعنى الغني لهذه الكلمات، وفي الوقت عينه بعيدين عن المعنى المعاصر للكلمة، حيث لا يتمّ التمييز بين الكمال والكمالية، ويعتَبر المعالجون والباحثون في الصحة العقلية يرون في السعي إلى الكمال انحرافاً عقلياً عاطفياً.
يقول لنا القديس ذياذوخوس اسقف فوتيكي: “إذ ما يُعتَبَر كمالاً عند الطالب يظهر بعيداً جداً عن الكمال عند مقارنته بغنى الله، الذي يعلمنا بالمحبة التي تسعى إلى تخطي ذاتها، حتى ولو كنّا قادرين على الوصل إلى أعلى سلّم يعقوب بجهدنا الذاتي.” يقول القديس مكاريوس المصري: “في التوق إلى الكمال، يظهر أمران عظيمان، أننا نجاهد ونسعى باجتهاد واستمرار إلى بلوغ هذه القامة الكاملة والنمو، وأننا لا تتغلّب علينا التفاهة، بل نسهر على ذواتنا كوضعاء وحقيرين لأننا لم نبلغ هدفنا بعد”. ويحذّرنا القديس مكاريوس مرة أخرى: “لذا، إذا كنّا لا نعرف كيف نميّز، فنحن نتوهّم أننا بلغنا شيئاً عظيماً ونروح نفتخر بذواتنا، خادعين أنفسنا بأننا بلغنا مرحلة الطهارة الأخيرة، مع أن هذا بعيد جداً عن أن يكون حقيقياً”. أساساً، الكمال لا يأتي من الإنسان بل من الله “وَإِلهُ كُلِّ نِعْمَةٍ الَّذِي دَعَانَا إِلَى مَجْدِهِ الأَبَدِيِّ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ، بَعْدَمَا تَأَلَّمْتُمْ يَسِيرًا، هُوَ يُكَمِّلُكُمْ، وَيُثَبِّتُكُمْ، وَيُقَوِّيكُمْ، وَيُمَكِّنُكُمْ.” (1بطرس 10:5).
النموذج السيكولوجي للكمال مختلف جداً. ما يحرّك الألم عند مَن يعاني من هذا المرض هو الخوف من الفشل والإحساس بالواجب. إنهم يجاهدون ليكونوا في المكان الأول بكل الطرق والمساعي دون أن ترضيهم إنجازاتهم. إنهم يؤمنون بأن هناك صفة خاصّة لاكتساب الكمال. التعبير الذي لا عيب فيه عن صفة ما، كالذكاء أو التطبيق الخالي من الخطأ لبعض المهارات، هو الطريق الوحيدة لاكتساب احترام الذات وتحقيق معنى التميّز.
هذه الكمالية قد تقود البعض إلى الاعتقاد بأنّهم يسودون على عواطفهم وسلوكهم. عندما مقابلة ظروف مفاجئة متحدية هذه الإدراكات الحسّية غير الواقعية، يصير المرء ناقداً للذات ويختبر القلق والعدائية ويصبح قابلاً للإحباط وحتى للانتحار بسبب انهيار احترامه لذاته. يضيف بعض الباحثين أن المرضى الذين يتحسسون تناقضاً بين ما لديهم من معايير الكمالية غير الواقعية وما أنجزوه يكونون الأكثر تعرضاً للمفاعيل الانفعالية لنقد الذات.
هذه المسالة يعالجها الكتاب المقدس والآباء. يسجّل القديس متى حواراً بين يسوع وتلاميذه، حين يسألون “مَن الذي يخلُص؟”، ويجيب يسوع بأن “ما هو غير مستطاع عند الناس مستطاع عند الله”. هذا الجواب هو صخرة ثقة كل المسيحيين في جهادهم لبلوغ الكمال الذي هو القداسة والاتحاد بالله أي التألّه. الكمال يأتي من الله ونحن نثق به. الاعتقاد ببلوغ الكمال أو القدرة على ذلك بالجهد الذاتي هو وهم غير واقعي وباطل. الاتحاد بالمسيح كهدف يمكن فقط أن يتحقق كمنحة، كنعمة من الله. التألّه هو حركة نحو قوى الله، وليس جوهره. وبحسب تعبير القديس مكسيموس المعترف: “منه نأتي وإليه نميل.”
التألّه ليس جامداً، بل هو حركة. إنّه عملية أبدية تبدأ في ولادتنا الجديدة في المعمودية، وتستمر عبر التعاون مع نعمة الله التي تمتد طوال عمرنا وإلى الأبدية. لأننا محدودون ومخلوقون، يمكننا فقط أن نتحرّك نحو الله، وبسبب نعمته هو غير محدود عبر الأبدية إلى ما لا حدود. الثقة والصبر هما اثنان من أعمدة رحلتنا إلى الكمال. في التعبير السيكولوجي، يمكن بلوغ الصبر في التخلي عن “التوقعات المتطلّبة الملحّة غير الواقعية” والاستعاضة عنها بالحقيقة كما هي. الثقة بالله وعنايته الإلهية يصيران تقنية فعّالة في تفحّص الضرورات الملحّة والعلاجات التي تشفي مرض الكماليّة.
الكنيسة حاسمة في هذا العلاج. قال القديس إيرينيوس: “حيث تكون الكنيسة يكون الروح، وحيث يكون الروح تكون الكنيسة”. إذاً، عندنا التقليد، الكتاب المقدّس في التقليد، القدّاس، الأسرار الإلهية (أي التوبة، الحصول على جسد ودم ونفس وألوهية ربنا ومخلّصنا يسوع المسيح)، الصلوات الأخرى، كتابات آباء الكنيسة وأمهاتها القديسين، تعاليم أساقفتنا وكهنتنا، الأيقونات المقدّسة وهندسة مبانيها والمحبة التي ينبغي أن تكون فيما بيننا لبعضنا البعض.
الرسول بولس يذكّر الغلاطيين بالثمار والفضائل المتضمّنة في هذه الرحلة: “مَحَبَّةٌ فَرَحٌ سَلاَمٌ، طُولُ أَنَاةٍ لُطْفٌ وصَلاَحٌ، إِيمَانٌ، وَدَاعَةٌ وتَعَفُّفٌ” (غلاطية 22:5-23). لا يمكن أن نحبّ الله إن لم نحبّ الإنسان (1يوحنا). أحد المرشدين الروحيين علّم أنه لا يمكننا أن نحبّ الله إلا بقدر ما نحب الإنسان الذي كنا نكرهه. في النهاية، الرسول بولس يعطينا الدواء الروحي للكمالية: “إِنْ ظَنَّ أَحَدٌ أَنَّهُ شَيْءٌ وَهُوَ لَيْسَ شَيْئًا، فَإِنَّهُ يَغُشُّ نَفْسَهُ” (غلاطية 3:6)، “فَحَاشَا لِي أَنْ أَفْتَخِرَ إِلاَّ بِصَلِيبِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي بِهِ قَدْ صُلِبَ الْعَالَمُ لِي وَأَنَا لِلْعَالَمِ” (غلاطية 14:6). هنا يكمن الكمال الحقيقي.