ظاهرة مار شربل
اﻷب أنطوان ملكي
هذه المقالة غير معنية بمناقشة قداسة شربل مخلوف أو عملية إعلان القداسة في الكثلكة ومحامي القديسين ومحامي الشيطان وغيره من اﻷمور التي نتركها للموقف اﻷرثوذكسي الرسمي. لكن الهدف من هذه المقالة هو تسليط الضوء من منظار إيماني آبائي على كل ما يترافق مع الحملة الإعلامية التي ترافق ما يُنسَب إلى هذا الإنسان من المعجزات في كل أصقاع اﻷرض، وما ينتج عنه من تأثير على المؤمنين ويتبع هذا التأثّر من المواقف. هذا الموضوع لا ينفصل عن النظرة اﻷرثوذكسية للمعجزات وتفسيرها وربطها بحياة المؤمن الروحية، ولا تصحّ قراءته إلا على هذا الضوء، ما يجعل العديد من المواقف الصادرة عن بعض اﻷرثوذكسيين في التشفّع لشربل أو زيارة ضريحه أو الدفاع عن قداسته أمراً خارجاً عن التقليد وعن الترتيب الكنسي الصحيح. وهنا في هذا اﻹطار، نؤكّد أن هذه الظاهرة هي مادة غنية للدراسة في علم النفس ونرجو أن نرى مَن يدرسها بشكل علمي اختصاصي، علّ البعض ينتبهون.
من المُتوقّع أن يستتبع هذا المقال ردات فعل ممن عندهم موقف مسبَق أو ممن هم مقتنعون بقداسة شربل، سواء من الكاثوليك أو من اﻷرثوذكس، وحتى من المسلمين إذا سلّمنا بأن ما تورده وكالات اﻷنباء صحيح. فهناك مَن لا يقبل سلفاً ما سوف يرد، وللأسف هم أحياناً ممن يُفتَرَض بهم الحفاظ على صحة التعليم اﻷرثوذكسي ونقاوته في الكنيسة. يبقى أن الدافع إلى الخوض في هذا الموضوع هو أن شربل هو اليوم نواة حملة مبرمجة قد يكون بين حامليها الكثير من الصادقين المخلِصين إلا أنها حملة تخفي وجه المسيح بوضعها شربل في نقطة التقدم والتركيز.
أقول أن الحملة منظمة ﻷنه لا يكاد يمر يوم لا ترِد فيه قصة من هنا أو من هناك. فهذا شفاء وتلك زيارة لمكان عبادة فيه شربل أو صورته أو تمثاله بشكل لا يتوقعه ناقل الخبر. وهناك دعاية عليها صورة شربل على طريق سريع في أميركا، وهنا تمثاله في كنيسة في المكسيك أو غيره. طبعاً، هذه أمور تهدف إلى إضفاء صفة العالمية على أمر محلي، وبالنسبة للذين يمزجون بين الانتمائين الكنسي والوطني فهذه العالمية أمر مهم. من جهة أخرى، يمكن أن نلحظ من خلال تصفّح الفايسبوك أن عدد الأرثوذكس الذين يزورون مقامات شربل يتزايد، والبعض منهم طلباً للاستشفاع.
من غير المجدي مناقشة صحة المعجزات أو عدمها، لذا سوف يتمّ الاستناد إلى تعليم آباء الكنيسة لوضع هذه “العجائب” في إطارها الصحيّ الصحيح. ونظراً لضيق المجال فسوف يتمّ الاستعانة بأبوين هم أناستاسيوس السينائي ونيكولا فيليميروفيتش الصربي.
بدايةً، يذكر القديس أناستاسيوس أن المعجزات ممكن أن تتمّ بعمل الشيطان مستشهداً بالنيران التي سقطت من السماء وأبادت مواشي أيوب (أيوب 16:1). كما يذكر من العهد الجديد سمعان الساحر الذي كان يبهر الناس بعجائبه التي كان ينفذها بقوة شيطانية موهماً الناس أنها من الله (أعال 10:8). كما يستشهد القديس بمتى 24:24 حيث يقول أن قبل المجيء الثاني سوف يكون عجائب كثيرة وعلامات، لكنه يشدد على أن هذا سوف يترافق مع وهن في المعرفة الروحية وضعف في التمييز عند المسيحيين. وكما يذكر الرسول بولس في 2 تسالونيكي 2، فإن الشرير سوف يعمل عجائب كثيرة ويخدع كثيرين قبل مجيء المسيح. وهو يستنتج أن الجهال وأصحاب الفكر الجسدي عندما يرون هذه المعجزات، بسبب ضعفهم الروحي وتشوقهم لرؤية العجائب، سوف يقبلونها على أنها من الله مثبّتين عماهم الروحي.
يقول القديس أناستاسيوس أن لا حاجة للعجائب حيث تكون كلمة الله مقبولة، ﻷن المعجزات هي شهادة لقوة الكلمة (لوقا 36:4).والفاعل اﻷساسي هو الكلمة، من هنا أن المعجزات هي تنازل نحو الضعف البشري. لذا طوّب الرب الذين آمنوا ولم يروا (يوحنا 29:20). يقول القديس اسحق السرياني أن الرب، رغم قربه واستعداده للمساعدة في كل وقت، لا يظهر قوته جلياً بعمل أو بعلامة محسوسة بدون ضرورة، ﻷن ذلك يؤدّي إلى تعطّل إدراك المؤمنين . ولمّا كان اهتمامه الخفي بهم لا يتوقف لحظة واحدة وجب عليهم أن يجاهدوا قدر استطاعتهم في كل اﻷشياء ويتعبوا في الصلاة، والربّ يتدخّل كما يليق بعظمته وقدرته في الوقت المناسب. هذا التدبير لكي يتقوى محبو الله ويتشددوا في الضعف، ومتى تبدد ضيقهم يندفعون من خلال تأملهم إلى التمجيد. إذاً، المعجزة يقررها الله ولسبب يحمل الناس إلى تمجيده لا تمجيد القديسين الذين قد يكونوا نقلوها. في غير هذه الحالة، يصعب علينا إيجاد تفسير إيماني للمعجزة.
أما القديس نيكولا فاليميروفيتش فيعالج حالة الانشداد نحو المعجزات في رسالة مطولة، وهو يتوجّه إلى الذين يرغبون بصنع العجائب كما إلى الذين يسعون وراءها. فبالنسبة إليه، من الأفكار المقدسة يمكن استخراج الخلاصة بأن الذين يرغبون في صنع العجائب، فرغبتهم سببها انفعال الجسد والانشداد إلى اﻷهواء التي في ضعفهم يعتبرونها غيرة على عمل الله، ومثلهم مَن يجري وراء المعجزات في نفس الحالة من الانفعال والخديعة الذاتية. ليس لائقاً في كل اﻷحوال أن نجرّب الرب فذاك كالامتناع عن توقيره. نحن نطلب إليه في حاجتنا وعندما تعجز السبل التي لدينا عن إخراجنا مما نحن فيه. أما تحديد الوسائل التي نريد من الله اتّباعها لخلاصنا فهو عمل غير ﻻئق. وهنا نرى أن اﻷمر ينطبق على منطق النذور لدى غالبية الشعب: إن أعطيتني يا رب كذا أعطيك كذا. نحن نترك لله أمرنا ملتزمين بإرادته ورحمته، وهو يرسل دائماً ما يساعد النفس قبل الجسد، وذلك مرفوقاً بطعم التواضع اﻹلهي.
يقول القديس اسحق السرياني في العظة 56 من النسكيات أن الكثيرين ممن صنعوا المعجزات وأقاموا الموتى وصنعوا معجزات باهرة، عادوا فوقعوا في الشر واﻷهواء وسلموا ذواتهم للموت. ومثله القديس مكاريوس الكبير الذي يخبر أن ناسكاً سكن بالقرب منه أُعطي موهبة الشفاء بغزارة، لدرجة أنه كان يشفي المرض بمجرد وضع يده، لكن عندما مجّده الناس اغترّ وسقط في عمق الخطيئة (المحادثة 27، الفصل 16).
إن نظرة اﻹنسان صاحب التوجّه الروحي نحو أمراض الجسد والشفاء العجائبي مختلفة كلياً عن نظرة اﻹنسان صاحب الفكر الجسداني. فاﻷخير يعتبر المرض بليّة والشفاء، خاصة بصورة عجائبية، على أنه الخير اﻷعظم، من غير اهتمام بمنفعة النفس أو تأذيها. الفكر الروحي قد يرى في المرض رسالة من التدبير والرحمة اﻹلهيين للإنسان. الفكر الروحي يعلّم بأننا نطلب من الله الشفاء بنية ثابتة لاستعمال الصحة والقوة لخدمته وليس لخدمة الهباء والخطيئة. هذا شهد له الرب عينه عندما شفى المخلّع قال له “هَا أَنْتَ قَدْ بَرِئْتَ، فَلاَ تُخْطِئْ أَيْضًا، لِئَلاَّ يَكُونَ لَكَ أَشَرُّ” (يوحنا 14:5). لتفادي اﻷذى الذي قد يجذبنا إليه الفكر الجسداني عند معاينتنا للعلامات أو العجائب، ينبغي أن يكون نظر العين الروحية فينا مستنيراً بنور المنطق الروحي.
عندما يحفظ الناس توقيرهم واحترامهم للمقدّسات وتواضعهم ويعتبرون أنفسهم غير مستحقين ليس فقط لإتمام العلامات، بل حتى لمعاينتها. أما مَن فقدوا ما سبق ذكره فهم يجرون وراء العجائب كما لم يسبق لهم. إن البشرية إذ قد تسممت بالخديعة الذاتية والوقاحة والجهل تجاهد من غير تمييز بتهور وجرأة نحو كل ما يبدو عجائبياً ولا تمانع الاشتراك في صنع المعجزات بل هي مصممة على ذلك من دون تردد. المثال اﻷكبر على ذلك هو مجموعات الكاريزماتيك الذين يتزايدون هنا وهناك ويعتبرون كل ما يصدر عن كل واحد منهم علامة ومعجزة. يرى القديس نيكولاوس فيليميروفيتش أننا نقترب من وقت “سيتم فيه الكشف عن مشهد واسع من المعجزات الكاذبة العديدة والمدهشة، مغرياً ومدمراً أبناء الفكر الجسداني التعساء، الذي سوف يقعون في إغراء هذه المعجزات وخداعها“. ويتابع “إن الرغبة في رؤية العجائب هي إشارة إلى عدم اﻹيمان ﻷن العلامات تُعطى لغير المؤمنين حتى يتحوّلوا إلى اﻹيمان“.
يختم القديس نيكولاوس رسالته بالتالي: “إن معرفة الله واﻹيمان الحي والتواضع المبارَك للفكر والصلاة النقية هي كلها صفات للفكر الروحي، وهي مكونات أساسية فيه. على العكس، تجاهل الله، عدم اﻹيمان، عمى الروح، الكبرياء، الثقة بالنفس، وخداع الذات هي مكونات الفكر الجسداني. هذا الفكر لا يعرف الله ولا يقبل أو يفهم السُبُل التي يمنحها الله لتقبّل معرفته، وبالتالي يخلق لذاته وسيلة خاطئة ومدمرة للنفس، لكي يكتسب من خلالها معرفة الله بما يتوافق مع حالته ولذا يطلب علامة من السماء.”
إذاً، ما نراه اليوم من حملة دعائية تستغل حاجات الناس وافتقارهم إلى ما يعطيهم اﻷمان والصحة، إنما يدعونا الى التنبه واليقظة ﻷن الشيطان يستغلّ حاجات الناس ليوجههم نحو الاستعباد وضعف النفس والتعلّق العاطفي. لذا وجب على المؤمنين أن يفهموا أن الشيطان ينتظرهم زائراً كاﻷسد ليبتلعهم. في آخر الزمان لن يأخذ الشيطان أشكالاً غريبة بل سوف يتّخذ أشكالاً نورانية ليضلل المؤمنين.