فلسفة التملّك
الميتروبوليت يوحنا (شاهوفسكوي)، مطران سان فرانسيسكو
نقلها إلى العربية الأب أنطوان ملكي
1. يمتلك الإنسان ما هو لله فقط. العالم هو خليقة الله وكذلك الإنسان. لا يمكن للإنسان أن يفرّ من ملكيّة الله، ولو غاص إلى الأعماق، أو صعد إلى المرتفعات، فملكيّة الله في كل مكان، غير محدودة، يتعذّر فهمها ولا يُسبَر غورها… يغطس بيلاطس إلى عمق الغدر: إنه مستعد لأن يسلّم البريء للصلب، فماذا يسمع من الحكمة الإلهية: “لَمْ يَكُنْ لَكَ عَلَيَّ سُلْطَانٌ الْبَتَّةَ، لَوْ لَمْ تَكُنْ قَدْ أُعْطِيتَ مِنْ فَوْقُ” (يوحنا 11:19). في ضمّه في ذاته وفي كلماته ملءَ الأرضيّ والسماوي، أشار ربنا إلى بيلاطس أولاً، والقياصرة الذين أخذ منهم سلطته، وحتى إلى مصدر كل سلطة وملكية.
2. قد يحجب المرء نفسه عن الله، عن رؤية السيّد. هكذا اختبأ آدم في الأجمة حاجباً نفسه عن الله. هذا علم النفس البسيط عند كلّ خاطئ. “آدم، أين أنت… اختبأتُ..” سنون لا تُحصى مرّت منذ ذلك الحين، وأبناء آدم ما زالوا يتخيّلون أنّ بإمكانهم الاختباء عن الله. وهم يختبئون قدر استطاعتهم في الأدغال الإيديولوجيّة النامية المتشابكة لحضارة هذا العالم: الفقر الخصوصي، الفقر العام، فقر الدولة، الشيوعية، الاشتراكيّة، الحرية، العبودية، الغنى، الفقر، الممتلكات، القوانين الاقتصادية، وغيرها.
3. في أساس كلّ ما هو معقّد تكون البساطة. إذا غابت هذه البساطة الأوّلية يكون التشويش بدل التعقيد. أمّا إذا حضرت هذه البساطة الأساسية، يكون التعقيد متناغماً. فقط على ضوء معرفة المبادئ الأولية للحياة التي وضعها الخالق، يمكن أن تأتي حضارتنا العالمية المعقّدة إلى مشابهة أوركسترا متناغمة ليس فيها أي آلات غير ضرورية، أو أقلّه ليس فيها أي آلة غير حسنة الترابط ومن غير أجزاء زائدة. فقط من خلال معرفة هذه القوانين المُطلَقَة يمكننا أن نقدّر كل التصوّرات البشرية ونحدّد قيمتها الحقيقية. لطالما كان العالم لله وسوف يبقى بغضّ النظر عن القوى التي قد تسيطر عليه بشكل مؤقت.
لكنّ أيعني هذا أنّه لا يصحّ أن يكون للإنسان أيّ ممتلكات؟ على العكس، للتملّك البشري أساسه الثابت على أساس وجود هذه الممتلكات ووجود سيّد لها. وإذا كان للممتلكات سيّد حقيقي يعني أن من الممكن إعطاؤها. إنّ هذا الأساس للتملّك الصحيح عميق وواسع: على ضوئه يصير مفهوماً لما لا يصحّ أن يسرق الإنسان، أو يستولي على أي شيء، أو أن يغنى ويرفع نفسه من خلال أي شيء. كل الممتلكات لله، كما أن الحياة له وهو يمنح الملكيّة كما يمنح الحياة.
4. يُمنَح الإنسان “موهبة”: امتداد من الحياة في الجسد، من القدرات العقلية، من الإمكانيات الروحية. لا تُعطى هذه الموهبة لتُدفَن في الأرض، بل ليُصار إلى تعهدها. يمكن مقارنة حياة الإنسان بقطعة من الأرض. واجبه ليس في الاستلقاء عاطلاً عن العمل في هذه الأرض الممنوحة من الله بل في تعهدها، في استثمار هذه الحياة الممنوحة على أفضل وجه في الخدمة كرمز للحياة الأفضل والتربة الأفضل. “َالأَمِينُ فِي الْقَلِيلِ أَمِينٌ أَيْضًا فِي الْكَثِيرِ” (لوقا 16:10). ما يُعطى للإنسان هو هذا “القليل”. ومهما بدا هذا القليل في عينيه الأرضيتين عظيماً، ومهما اعتبره الآخرون عظيماً، هو صغير جداً بالمقارنة مع ما يمثّله مسبقاً. ومع هذا، فإن هذا القليل ينبغي استعماله لخير العالم. لهذا السبب، الأغنياء الذين يستعملون ثروتهم بإبداع، فيما يحيون بتواضع، هم مسيحيون حقيقيون بالرغم من “ملكيّاتهم الكبيرة”.
يقول القديس مكسيموس المعترف: “أملك فقط ما أعطَيت”. أعطيت… لمَن؟ لله وللناس. هناك أناس لا يستفيدون من ثروتهم. من بينهم مَن قد خبّئوها لأنفسهم، طمروها في الأرض. البعض أعطوها لله مؤمنين بأنّ واجبهم هو توزيعها في العالم بعدل. يُعبَّر عن هذه الخدمة المباركة بتعابير مختلفة. البعض يتخلّى عن ثروته تدريجياً أو دفعة واحدة. غيرهم يحتفظ بكل مظاهر الملكية لكن يخضِعون قلوبهم لله بإخلاص، لتكون مهمتهم مجرّد توزيع عادل للثروة. قد تأخذ شكل الشركة الاقتصادية العادية من أعمال صناعية أو زراعية. بالظاهر تكون مثل كل أعمال هذا العالم، لكن في محتواها الداخلي تكون تحقيقاً مصغّراً لملكوت الله…
على هذا الشكل كان لخومياكوف أرض وخدم، لكن في العمق لم يكن سيّداً لخدمه بل أباً راعياً وبالحقيقة خادماً. هذه هي نفسية المسيحيين الأغنياء: أصحاب الملاك، الصناعيين، أصحاب المعامل… عندما قال السيد يسوع المسيح “الْكَبِيرُ فِيكُمْ لِيَكُنْ كَالأَصْغَرِ” عنى بعبارة “الأكبر” الغني، سواء بالمال أو بالمرتبة أو بالموهبة. على “الأكبر” أن يخدم لا أن يمارس السلطة من خلال المواهب، المادية والروحية، التي ائتُمِن عليها لفترة فقط.
5. كل الممتلكات الأرضية قصيرة العمر ومليئة بالمتاعب، إذ ما أن تظهر ويتعلّق الإنسان بها حتى تختفي تاركةً إياه للحيرة والألم والحزن والموت. إنها تترك فراغاً في مكانها وغباراً في مكان الإنسان. لكن إلى أن يحلّ الفراغ محلّ الممتلكات، فهي قادرة على حمل “ثمر كثير”، حتى ممتلكات الفقراء الصغيرة منها: فلس الأرملة أثبت أنه ذو قيمة كبرى، وذو قوة تفوق قوّة كنوز الفريسيين.
6. يملك الإنسان أقلّ مما يظن. يمتلك المليونير الملايين فقط في مخيّلته، بينما في الحقيقة هي تمتلكه. في حيّز كبير هو مقيّد بملايينه، ملزَم بنمط عيش تحدده هي، مرتبط بمجموعة محددة من البشر، مُحاط، بشكل يصعب تلافيه، بالتملّق والحسد والخيانة والتذلّل والإغواء ومحاولات الاعتداء على حياته، عقلياً وجسدياً… أليس كلّ هذا عبودية وأشغال شاقّة تزداد قساوتها مع ازدياد الثروة؟ أيستحق ما يمكن شراؤه الكثير؟ أيمكن شراء السلام الروحي الذي هو السعادة الأسمى؟
7. ولكن من وجهة نظر أخرى، ممتلكات الإنسان أعظم بكثير مما يظن. كلّ نَفَس يصل إلى رئتيه يكون مُلكاً له، بشكل أكبر من العملة التي في جيبه، لأنّه يحييه بشكل مباشر. كلّ شعاع من نور الشمس يدفِئ رجلاً يتّحد به بشكل كليّ… وهكذا في كلّ شيء، في التجليّات الصغيرة في الحياة يكون الإنسان مُحاطاً بالممتلكات، أي بمواهب الله منثورة فوقه ومانحة إياه الحياة. عظيم هو هذا الناموس الذي يجعل كلّ إنسان غنياً.
8. للدخول في تناغم العالم الذي صار صاخباً وليعود مجدداً إلى الانسجام، على المرء أن يعترف بكل وعيه، وليس فقط في فكره، بقوة الله وأن يصبح هو نفسه مُلْكاً لله، كما أن الكون هو مُلكاً له أصلاً. عوالم لا تُحصى وشموس ونجوم وما لا يُعَدّ من الحيوات تتحرّك ضمن الحدود التي رسمها الخالق. الصخور، الماء، الهواء، الأرض، النار كلّها تطيع القوانين الثابتة التي قد يبحث فيها الإنسان وهي تكون له أموراً للاكتشاف…. لأي سبب؟ بهدف تعلّم كيفية العيش على نحو ملائم لهذه القوانين. الالتزام بالقوانين الطبيعية ليس إلا رمزاً للالتزام بقوانين الله الروحية. كما أن الطبيعة المادية تكشف نفسها للإنسان في العلوم الطبيعية والفيزياء والكيمياء والميكانيك وعلم الكون وغيرها، كذلك الطبيعة الروحية تظهر في الإنجيل. في ملاحظته لخضوع الطبيعة المادية لله، على الإنسان أن يتعلّم إخضاع روحه لله أيضاً.
9. الإنسان ذو الفكر الرصين وغير المنحاز يفكّر طبيعياً ويرى أن ممتلكاته الأرضية أكثر من “نسبية”… قرون ذابت ومثلها ملكيّة الإنسان على الأرض. كل الحقوق الأرضية التي للأشخاص والمدن والأمم، الحق بتملّك الأرض والخيرات، وحتّى الحق بالحياة، كلّها تختفي في الهواء الخفيف.
الشيء الوحيد غير القابل للفساد في هذا الكون هو القوّة الإلهية التي تخلق كلّ شيء. كلّ ما تبقّى هشّ، مهلِك وقابل للهلاك حتى لا ينظر الناس إلى ما هو قابل للهلاك وكأنه لا يفنى. في حياة العالم الآتي، عندما يُجمَع القمح، أي عندما يجتمع الأبرار ومحبو الله من كل الأجيال، لا يُخشى أن يحب أي إنسان المخلوق أكثر من الخالق، ومن جديد، كما في الفردوس، يصير الفاني غير قابل للفناء. لن يؤلّه الطبيعة الأبدية غير الهالكة أحدٌ. الجميع سوف يعاينون مجد الله وحده ويرون في نوره الذي لا يُوصَف كلّ الوجود ويجدون حياتهم الخالدة تتجدد أبدياً.
10. هذه الحالة مستحيلة علينا على الأرض، لأننا دائماً نحبّ أحداً أو شيئاً ما أكثر من الله. قلبنا ميّال إلى الزنا، بالمعنى الإيماني العميق للكلمة. لهذا السبب سمّى الفادي البشر “الجيل الفاسد الخاطئ”، وهو عادل دائماً. البشرية الساقطة تتعلّق بقيَم عابرة، وتلتصق بملذات هذا العالم وثرواته الخادعة ومجده الوهمي. لو لم يكن العالم للدود والصدأ والعثّ والجراد والنتانة والفساد والألم والموت لكانَ جحيماً حياً. يرغب البعض في أن يكون العكس صحيحاً: لو لم يكن على الأرض ألم وحزن لكانت “الملكوت”. لكنها أقرب إلى الجحيم. قابلية الجسد الأرضي للخطيئة تغطّيها الأحزان العالمية. ملح الألم المبارَك يحفظ النفس البشرية من الاضمحلال والموت الأبدي. إنّه يحفظها في البشر الذين يفهمون “طريق المسيح الضيّق” ويقبلونها.
لهذا السبب، كل طرق الربّ مباركة عند الأبرار ومباركٌ صليبُ كل حياة على هذه الأرض الوقتية.
11. تجد الحياة البشرية أسمى تعابيرها في التكريس الكامل لله. عندما يتحرّر الإنسان من كل أنواع الماديّة يصير أكثر شفافية نحو الله، حتى يسكن فيه روح الله الأكثر نقاوة. وعندما يصير الإنسان شفافاً بالكامل، متحرراً من كل تكبّر ومن كلّ اعتزاز خاطئ بالنفس وبالعالم، يصير ما لله، أي العالم، مُلكاً له. وإذ يصير بلا أي ملكية، ولا حتّى هو نفسه يعود مُلكاً لذاته، سوف يمتلك كلّ الأشياء. عندها يسكن الله في الإنسان ويجعل حياته غنية هادئة. هذا التناغم الحميم في الحياة هو ملكوت الله.
12. إن تسلسل الحياة الوقتية مُعطى للإنسان كسلّم للصعود إلى الحياة الأبدية. وحده “الأمين على القليل (الوقتي) أمين على الكثير (الأبدي)”. فيما نحن ما نزال هنا على الأرض، علينا أن نتعلّم أن نحيا الحياة الأبدية. الذين لا يثبتون في كرمة الله (يوحنا 5:15) لا يعيشون. في صعود سلم الحياة الأرضية والقيَم الأرضية (أي الابتعاد عنها) ندخل في ملكوت الله. لكن إن ابتعد المرء عن قيَم العالم في الاتّجاه الخطأ (أي في اليأس أو الانتحار)، يسقط في الهاوية.
13. عالم المادة هو عكّاز النفس المريضة، مرساتها، نقطة ارتكاز القوى الأوّلية للروح – عكّاز يساعدنا على الصعود إلى الله، إذا عرفنا استعماله. كلّ ما في العالم مخلوق أو مُتاح لخير الإنسان وهو قادر على تحويل حتّى أكثر مظاهر الحياة الأرضية تجربةً وألماً إلى درب للملكوت.
14. عالم المادة يؤمّن وسيلة لا نهاية لها للخلاص وللبلوغ إلى الله. لكن هذه الوسائل مُتاحَة فقط لغير الساعين إلى الربح. أمّا الذين يسعون إلى الربح فالعالم مجرّد شبكة وفخّ قاتل.
15. مبارَكَة هي الملكيّة القائمة على محبة الله والقلب الحر. المُلكية المُهداة تجلب معها البركة. المُلكية المُغتَصَبة تستنزل اللعنة. التملّك قد يكون جشعاً أو نزيهاً. التملّك الجشع أناني، بينما النزيه إفخارستي. التملّك الإنساني الحقيقي موجود في الخاصيّة الإفخارستية التي تأتي من الله وتعود إلى الله عِبْر الإنسان. وحده هذا التملّك المستنير روحياً الذي لا يثقِل النفس، ولا يسمّرنا إلى الحياة الوقتية ولا يشدنا إلى الخطيئة، يمكن أن نسمّيه مبارَكاً. بالحقيقة إنه مبارَك، مهما كان الشكل الذي يتخذه: مواهب، عطايا، أشياء، أراضٍ، بشر آخرين. كلّ هذا مبارك عندما يكون في الله. وكلّ هذا ملعون عندما يفصلنا عن الله ويحوّل العالم إلهاً.
16. التملّك الإفخارستي يعني كلّ ما يمكن أن يحمل الإنسان على شكر الله، والناس الذين من خلالهم الله يعطي. هذا الامتنان يتضمّن الإيمان بالله والاعتراف بأنّه سيّد الحياة. الإفخارستيا هي التعبير الأكثر كمالاً عن الامتنان على الحياة وعلى كل شيء آخر. وبهذا الامتنان يصعد الإنسان إلى حياة جديدة، إلى ملكوت الله. قيَم هذا العالم اللامتناهية في الصغَر، مُمَلَّحَة بالامتنان لله، تصير ملكيّة الإنسان الإفخارستية وتبقى خاصته إلى الأبد كشيء جديد وعظيم منقول إلى خلف مداخل الأبدية.
17. الملكيّة موصِلَة المحبة الإلهية والبشرية. لكن البشر غالباً ما يجعلونها مادة موصِلة لبغض الله والإنسان. ليست الملكية المخطئة ولا التملّك بل الملكية الشريرة أو الرغبة الشريرة بالتملّك.
18. الإنسان مدعو إلى إخضاع الأرض (تكوين 28:1)، وهو سوف يرثها (متى 5:5).