المسيحيّة في الغد
مجلّة النّور لعام 1947 *
اختارت النص وأعدته للنشر الإلكتروني راهبات دير مار يعقوب المقطّع – دده، الكورة
إنّ العالم اليوم يتطلّع من أعماقه إلى حياة جديدة هادئة. لقد ملّ العواصف الحمراء التي تجتاح البشريّة من حين إلى حين. لقد ملّت نفسه رؤية الإنسان يحطّمه الحديد والنّار بيد أخيه الإنسان.
وكثيرة هي الحلول التي يطلع بها علينا المفكّرون العالميّون، وكثيرة هي الطّرق التي يدعو إليها فلاسفة الجيل. كلّهم يدعو إلى الإخاء والسّلم ولكن بحلول شتّى. وهذه الحلول تتناول الإنسان من حيث هو جزء من العالم. إنّها تتناول الإنسان من حيث هو جزء من كلّ.
إنّ أحداً منهم لم يحاول أن يتعمّق أكثر فأكثر. إنّ أحداً منهم لم يحاول أن يتّصل بالإنسان من حيث هو شخص كلّ ليستطيع أن يتفّهم أعمق فأعمق كيانه الدّاخلي واتجاهاته الصميميّة.
نحن لن نستطيع أن نتوصّل إلى حياة هادئة رائعة ما لم نحافظ على قدسيّة الكيان الشّخصي ننظر إليه كشيء أساسي في الكيان العالمي.
نحن لن نتوصّل إلى حلّ مشكلتنا ما دمنا لا نريد أن نتفّهم النّفس البشريّة وأهواءها الأصليّة الكامنة فيها. لأنّ انفلات القوى البشريّة نحو الدّمار ليس مرجعه الأصيل أمّة من الأمم أو جماعة من الجماعات.
حقّاً إنّ الأمّة أو الجماعة أو بصورة أوسع الكتلة البشريّة هي كلّ شيء، ولكنّ الشّخص هو كلّ شيء في هذه الكتلة.
نعم إنّ انفلات القوى البشريّة ليس مرجعه أمّة أو جماعة إنّما مرجعه انبعاثات فرديّة واتجاهات شخصيّة، صحيحة كانت أم خاطئة، قويّة أم ضعيفة، تجمّعت وتكتّلت فشكّلت ذلك التّيار المندفع.
إذن إن أردنا أن نبحث في إنشاء عالم الغد، علينا أن نتفّهم قبل كلّ شيء الأهواء الشّخصيّة والقوى والإمكانيّات الفرديّة، وأن نسيطر عليها ونخلق منها أهواء وإمكانيّات أسمى وأنبل، وأن نوجّه القوى الشّخصيّة إلى غايات رفيعة جديرة بقدسيّة الإنسان. نعم إنّ الشّخص هو مشكلة اليوم.
نحن نريد سلاماً، فلنعرف كيف نخلق كيانات ينبثق عنها هذا السّلام. نحن نرغب بالطّمأنينة، فلنعرف كيف نُبدع أرواحاً خليقة أن تنشر حولها الهدوء والطّمأنينة.
يقول ستون تروبلد: “إنّ المسائل الكبرى التي نواجهها اليوم ليست مسائل حرب على عظَمِها، فما الحرب إلا عرض لداء مدنيّتنا. إنّ أهمّ مسألة في زماننا هذا هي المسألة الرّوحيّة فما لم تُحَلّ فإنّ مدنيّتنا تخفق”.
ويقول الدكتور هاري امرسون فوزديك: “.. إذا لم يكن قد كُتب علينا أن نلقي بأيدينا إلى التّهلكة، فلا بدّ من أن تقوم بيننا يقظة روحيّة تُحيلنا من الشّكّ السّاخر إلى الإيمان، ومن اليأس إلى الأمل، ومن الحقّ والانتقام إلى المحبّة والوئام. ولن تنقذنا ممّا نعانيه أيّة مؤسّسة سياسيّة عالميّة، وإن لم يكن لنا عنها غنى، وما من شيء سوى اليقظة الرّوحانيّة تتيح لنا الزّعماءَ العظام، والوعي العام الذي يحبوهم بالتأييد وهذا شيء يبدأ دائماً بالشّخص”.
إذن نحن اليوم بأشدّ الحاجة إلى روحيّة عميقة خلاقة تجدّد نفوسنا وتبعث فيها الرّاحة والطّمأنينة. نحن بحاجة إلى تيّار روحي عميق يقلب زوايا أنفسنا المتحجّرة ويبعث فيها حياة جديدة.
إنّ المسيحيّة التي خُلقت منذ ألفي سنة تقريباً، من عصر هيرودس الغارق في الظّلمة والدّماء، إنّ المسيحيّة التي خُلقت من هذا العصر دنيا من المحبّة والسّلام، لهي خليقة أن تحلّ مشكلة اليوم بروحيّتها المتدفّقة، فتُبدع فينا عناصر أصفى فأصفى ما دمنا نتصّل بها أعمق فأعمق.
“سلامي أعطيكم” يقول الرّبّ. سلام هادئ مطمئنّ ينساب حتى أعماق أعماق القلوب. فما أجمل ما أعطيت يا ربّ.
ففي ذلك الوقت الذي نعيش فيه بالمسيحيّة صميميّاً. في ذلك الوقت الذي تغمر فيه الرّوح المسيحيّة وجداننا وشعورنا ونشعر أنّنا نحيا بها ولها نعيش. عند ذلك نستطيع أن نتعرّف على سرّ الحياة الأبدي وطريق السّلام الخالد.
في ذلك الوقت الذي تلفّ فيه العالمَ المسيحيّةُ وتنفذ لكلّ أعماقه. في ذلك الوقت الذي نصبح فيه مسيحيّين بالماء والرّوح. في ذلك الوقت الذي يُدفَن فيه العالم في المسيح ليُبعَث جديداً، سنشهد انقلاباً هائلاً في جميع نواحي الحياة العالميّة روحيّة كانت أم مادّيّة.
فالعائلة الأرضيّة، التي تتأكّلها قوى النّزاع والخصومة والانشقاق، وتمزّق ألفتَها الطّبيعيّة أسبابٌ واهية سخيفة، هذه الأسباب التي منشؤها روحيّتنا المتفكّكة ونفوسنا الجافّة. فالعائلة الأرضيّة التي ستصبح في ذلك الحين عائلة مسيحيّة، ستتّحد روحيّاً لتؤلّف كنيسة صغيرة أساسها المحبّة والإيمان والتّفاهم المتبادل العميق على أساس التّعاون والاتحاد في الحقل الرّوحي الدّاخلي والعمل الدّنيوي الخارجي. فهذا الاتحاد الصّميمي يولّد فيها قوّة جبّارة تستطيع أن تواجه الحياة بأتعابها ومشقّاتها دون خوف ولا اضطراب.
وإنّ الحياة الدّاخليّة، البيتيّة، ضمن الأسرة المسيحيّة لرائعة حقّاً، وخليقة أن تجعل الإنسان يعرف أنّ الحياة تبدو سعيدة هانئة إذا عرف كيف يحياها.
العائلة المسيحيّة، داخليّاً، عشّ جميل يلفّ أفراخه بحنوّ وعطف فيهدهد آلامهم ويخفّف من أتعابهم. ففي هذا العشّ المسيحي الرّائع تذوب كلّ الآلام وتنصهر كلّ المتاعب وتُبعَث الحياة، الحياة المتدفّقة، في الإنسان الجديد.
وفي هذه الكنيسة الصّغيرة تظهر صورة الأب المسيحي الذي يزرع تعاليم الحقّ والحياة في الأرض الطيّبة أي أطفاله. وفي هذه الكنيسة تبرز شخصيّة المرأة المسيحيّة بروعة أخّاذة. المرأة المسيحيّة التي تُثبت وجودها في بيتها فتحصّنه بعطفها وحنانها، وتلقّن صغارها طريق الحياة النّيّرة الخالدة.
ومن هذه الكنيسة الصّغيرة يدرج إلى العالم الطّفل المسيحي وسط هالة من طهر ونور، بكلّ ما في نفسه من صفاء ونقاء، وبكلّ ما في قلبه من تطلّع إلى يسوعه الحبيب الذي كثيراً ما حدّثته عنه أمّه في بعض العشيّات. وإنّه ليعمل جاهداً لكي يتبع تعاليم يسوعه الطّفل لأنّه أحبّ كثيراً حياته الرّائعة وتعشّق أكثر وأشدّ محبّته للعالم، فأحبّ من أجله الحياة والعالم.
وإنّ هذا الطّفل المتحرّر من كلّ الأهواء التي تدوس كرامة الإنسان وقدسيّة النّفس الإنسانيّة. إنّ هذا الطّفل الذي سيشبّ ويترعرع في المسيح، لهو جدير أن يبرز إلى المجتمع كشابّ مسيحي، كشابّ أصبح بملء قامة المسيح.
نعم سيكون لنا عندئذ شباب، شباب ليسوا كأبناء اليوم المحطَّمي النّفوس وهم في مقتبل العمر. شبابنا اليوم لا يعرف الحياة الحقيقيّة لأنّه لم يجرّب أن يحياها كما يجب أن تحيا. شبابنا اليوم لا يعرف الحياة إلا كبهرجة وألوان، إنّه كطفل غرّته زجاجة برّاقة فتلهّى بها عن الألماس. الحياة كما هي حقيقة وكما يجب أن تكون، أبعد النّاس عنها أبناؤنا اليوم.
أمّا شبابنا المسيحي فهو جدير أن يعرف الحياة ولذّاتها الحقيقيّة ما دام يتصّل بها من النّاحية الأصليّة فيها. إنّه يعرف الحياة كفاحاً هائلاً، ولكنّ روحيّته القويّة ونشاطه المتجدّد سيكفل له إكليل الغار والنّصر.
إنّ هذه الملاهي لن تكون في عالم الغد المسيحي مقبرة الشّباب حيث تتحطّم فيها وتغيض الحيويّة ذلك العنصر الأساسي في كفاحنا وسط هذا المعترك الجبّار.
الشّباب المسيحي كلّه حيويّة ونشاط لأنّ روحه المتجدّدة في المسيح تجعله أعظم من أن تحطّمه الحياة ويخيفه الكفاح.
ومن هذا الشّباب المسيحي نستطيع ولا شكّ أن نخلق عالماً من حبّ وخير وسلام.
إنّ جميع الإمكانيّات الشّخصيّة التي نواجهها اليوم في سبيل تعاسة هذا العالم، تتوجّه كلّها حينئذ إلى إسعاد هذا العالم نفسه، وكلّ هذه القيم الاجتماعيّة الفارغة التي نتعبّدها اليوم، والتي تجعل من الحياة شيئاً أجوفاً ستتحطّم غداً وتنشقّ عن قيم أعلى وأنبل.
وبكلمة موجزة إنّ الأهواء الشّخصيّة سترتفع وتسمو، وإنّ النّفس الإنسانيّة ستصبح صافية طاهرة، والتّفكير الإنساني والعبقريّة الجبّارة التي تدمّر العالم اليوم هي التي ستبني غداً. هذا التّيّار الرّوحي سعادة هذا العالم ورخاؤه.
ومن هذا المجتمع النّبيل في اتجاهاته، الرّفيع في تفكيره نحصل على حياة مثلى.
فهذه النّفوس المتّحدة مع الله أو هذه الكنيسة الأرضيّة لن يكون فيها حقد ولا بغضاء.
المجتمع عبارة عن إخوة في المسيح. كلّنا أحبّاء وكلّنا إخوة وكلّنا واحد في المسيح الواحد.
تعالوا إليّ أيّها المتعَبون والثّقيلو الأحمال فأنا أريحكم”. منذ ألفي سنة رنّ في فضاء الأرض التّعسة هذا الصّوت الحبيب “تعالوا إليّ” إنّ المسيح يناديكم أيّها الجليليّون.
إنّه يناديكم من مزود الأبقار. إنّه يناديكم من أعلى الجلجلة، فتعالوا إليه أيّها المتعَبون لأنّكم ستلقون الرّاحة والهدوء. راحة النّفس الصّافية وهدوء النّفس المتّحدة مع الله.
عبثاً، أيّها الإخوة، تفتّشون عن الحقّ والحياة في زوايا العالم، لأنّه ليس هنالك حقّ ولا حياة إلا عند ذلك الصّوت الحبيب الذي يخترق الأجيال مجلجلاً: “أنا هو الحقّ والطّريق والحياة”.
كلّنا يريد أن يعيش بسعادة وهناء. ولكنّ أحداً منّا لم يفكّر كيف يجد هذه السّعادة وهذا الهناء. لأنّ روحه الجافّة لم تعد تسمع صوت الرّبّ، ولأنّ نفسه المتهالكة في أدناس هذه الأرض لم تعد تعرف الطّريق، الطّريق إلى السّماء، الطّريق إلى الفرح، إلى الغبطة اللامتناهية.
أيّها الجليليّون. لقد آن لنا أن ندفن مع المسيح الإنسان العتيق ونلبس الإنسان الجديد.
إنّ الكنيسة لم تنادِكم اليوم إلى عيد، إنّها لا تناديكم ولن تناديكم أبداً إلى بهرجة وسرور إلى فرح خارجي فقط. فنحن لا يهمّنا أن نعيّد بقدر ما يهمّنا أن يكون هذا العيد دعوة صارخة إلى حياة جديدة. الكنيسة لم تنادكم إلى عيد إنّما إلى قيامة، قيامة جبّارة تغمر كلّ شيء، قيامة نيّرة تنساب حتى أعماق القلوب. لنصبح كلّنا في المسيح والمسيح فينا.
” الرّب معي فمّما أخاف” يقول داوود النّبي. لا تضطربوا ولا تخافوا لأنّ الرّبّ معكم. أحبّوا المسيحيّة داخليّاً كما تحيونها خارجيّاً. كلّكم أقوياء وستنتصرون حتماً في التّجربة الأولى والثّانية والثّالثة كما انتصر المسيح من قبل على الشّيطان.
ليس شيء بالمستحيل، لأنّكم ولا شكّ رأيتم ما فعل فتيان الكنيسة (الحركة) وفتياتها من انقلاب صميمي في نفوسهم وفي بيئتهم وفي محيطهم.
حقّاً إنّهم لم يحقّقوا كلّ شيء ولكنّهم يجاهرون في تحقيق مثلهم الأعلى في هذه الحياة، ولن تقف أمامهم الأهوال الجبّارة ولا المصاعب أو الخطوب، لأنّ هذه المصاعب وتلك الأهوال لم تكن يوماً برّاً للنّفوس العظيمة. فالمصاعب والعقبات ليست إلا دفعاً عظيماً يدفع الإنسان العظيم إلى غايته بحيويّة أشدّ ونشاط أوفر.
* وردت في النص كلمة “الحركة” وليست “الكنيسة”، ولكن تمّ استبدالها في بعض النقاط لتعميم الفائدة.