مرض النفس
الميتروبوليت إيروثيوس فلاخوس
يساعدنا التحليل الذي يظهر ما يعنيه الآباء بالنفس السليمة على فهم المقصود بمرض النفس بحسب تعليم الآباء. عندما تسود الأهواء على نفس المرء، التي هي بصورة رئيسية الاندفاعات غير الطبيعية لقوى النفس، وعندما يكون غير قادر على رؤية الله كنور فإنه يكون مريضاً روحياً.
ينظر علم النفس الحديث والتحليل النفسي والعلاج النفسي بصورة رئيسية للصراع الداخلي أو حتى الخبرات المكبوتة والصدمات من الماضي، المخزونة فيما يسمى اللاشعور مسببة الاضطرابات المختلفة، على أنها مرض. مثلاً، قسم فرويد النفس البشرية لثلاثة أجزاء. الأول هو العقل الواعي الذي يتضمن على أي ما يختبره المرء في لحظة محددة. الجزء الثاني هو ما تحت الوعي، والذي يتكون من كل ما اختبره المرء في الماضي والذي لا يفكر فيه في الحاضر ولكنه يستطيع استدعاءه إلى عقله الواعي حينما يريد ذلك. الجزء الثالث هو اللاوعي والذي يحتفظ بأحداث وأفعال وخبرات مختلفة عاشها الشخص في الماضي ولكنه كبتها في أعماق نفسه في اللاوعي؛ وعلى الرغم من كونها مكبوتة إلا أن هذه الأمور تكون نشطة وتريد العودة للوعي. تخلق كل الأمور المنسية أو المكبوتة في اللاوعي مشاكل في النفس، ولكنها عندما تظهر في العقل الواعي، يصبح المرء هادئاً ويُشفى. يساعد المحلل النفسي أو المعالج النفسي في هذه العملية مستخدماً طريقة خاصة للتحليل النفسي.
إلا أن الآباء القديسين يُعلِّمون أن مرض النفس ليس مجرد خبرات مكبوتة تخلق صراعات داخلية، ولكنه فساد قوى النفس، وهو على الأخص موت وإظلام النوس. لا يرى النوس الله ولا يكون في شركة معه، وعندما يصبح مريضاً يؤدي إلى كل أنواع الحالات غير الصحية. تتدمر كل إمكانيات النفس الطبيعية وبهذه الطريقة تتطور الأهواء.
إذ يشير الأب يوحنا رومانيدس للصلاة العقلية ونوس الشخص الذي عندما يتطهر يقتني تذكر دائم لله يعطي الملاحظات الهامة التالية:
“كل هذا الموضوع الذي هو محل مناقشة يرتبط باكتشاف الأوروبيين من خلال سيجموند فرويد وأتباعه من المحللين النفسيين لما تحت الوعي الخاص بالإنسان، وبالتحقق من أن الإنسان هو أكثر من مجرد ذهن. توجد جوانب وخبرات خفية لفهم الناس، والتي تحت ضغط الأخلاقيات السائدة والقواعد والتقاليد الأخرى الخاصة بالسلوك الجيد، نساها العقل ولكنها بقيت كامنة فيما تحت الشعور ولا يمكن تجنب تأثيرها على أحكامه ومبرراته وأفعاله.
إلا أن ما تحت الشعور، كما فهمه المحللون النفسيون، يُرى على أنه نتيجة لحالة نفسية غير طبيعية ينبغي أن تُشفى، على الأقل مبدئياً، بكشف وتعرية ما هو مخفي. الانطباع المـُعطى هو أن ما تحت الشعور، كما يراه الأطباء النفسيون، يتكون فعلياً من هذه الميول الخفية المنسية، الموجِهة، الطبيعية أو المكتسبة، بدلاً من كونها خاصية للنفس مختلفة عن الخاصية العقلية.
على عكس رأي التحليل النفسي المعاصر، يصبح النوس في التقليد الأرثوذكسي متشابكاً مع الخاصية العقلية والأهواء عندما يكون في حالة غير طبيعية أو ساقطة. على كل حال، النوس مختلف تماماً عن الخاصية العقلية عندما يعمل ،كما هو مفترض، بقوة ونعمة الله، وعندما تُكشَف الأمور غير الطبيعية المختفية في الطبيعة البشرية وتُشفى. يعتقد الأطباء النفسيون أن ما تحت الشعور هو تجمع خفي لميول طبيعية مكبوتة مضادة للأخلاق والمبادئ الاجتماعية مما جعلها تُقمع وتنسى، وأنه ينبغي استبعادها بتحرير هذه الميول الطبيعية المكبوتة. وبتعبير آخر، لا يعرف التحليل النفسي أي شيء عن التمييز بين الخاصية العقلية والنوس، أو تحول محبة الذات لمحبة خالية من الأنانية من خلال استنارة النوس بواسطة الصلاة العقلية“.
بحسب الآباء القديسين يكون المرض هو الإماتة، وموت وإظلام النوس. في هذه الحالة لا يعمل النوس الخاص بالمرء جيداً. إنه يُعرف بصورة خاطئة على أنه هو نفسه الخاصية العقلية والأهواء والوسط المحيط بها. هذا العيب هو سبب كل ما يسمى المشاكل النفسية. ليس لدى علماء النفس والمحللين النفسيين المعاصرين معرفة دقيقة لهذه الحالة، وبالتالي يكونون غير قادرين على فهم مشاكل الناس الحقيقية.
بحسب القديس سمعان اللاهوتي الحديث، ما لم تنشط روح الإنسان بالروح القدس، الذي هو روح أرواحنا ونوس أنواسنا، فإنها تموت. إنه يكتب قائلاً: “كما هو مستحيل على جسدنا، سواء كان مريضاً أم لا، أن يحيا بدون نفس، هكذا النفس أيضاً، سواء كانت تخطئ أم لا، تموت وتصير غير قادرة على أن تحيا في الحياة الأبدية بدون الروح القدس…”.
هذا النص الخاص بالقديس سمعان مهم جداً. إنه يُظهر بوضوح أن النفس تمرض عندما يغيب الروح القدس. حتى لو لم يخطئ شخص ما، فإنه يموت أو يمرض بدون الروح القدس. بالتالي، في التقليد الأرثوذكسي، حتى لو كان الشخص متزناً نفسياً وليست لديه أية صراعات داخلية، فإنه على الرغم من ذلك يكون مريضاً وميتاً بدون الروح القدس. بحسب القديس سمعان اللاهوتي الحديث، ليس فقط أصحاب الصراعات النفسية هم المرضى، ولكن بصورة رئيسية أولئك الذين يعيش الشيطان داخلهم، “الذي هو كنز الشرور“. إنه ليس مجرد أفكار وذكريات بسيطة من الماضي لم يستطع العقل تصنيفها أو نُسيت وكُبتت، ولكنه وجود روح الشر، أي وجود كيان شخصي يخلق كل هذا الخلل.
يعني مرض النفس في كتابات الآباء شيئاً مختلفاً تماماً عن معناه في علم النفس والعلاج النفسي الحديث.