القدّيسون الأنطاكيّون
* القداسة في الكنيسة الأرثوذكسية، هي الهاجس وهي المآل. إرادة الله قداستكم كما قيل. والقداسة هي الخلاص. ما معنى القداسة؟ مَن هو القدّيس؟ وما عن القدّيسين الأنطاكيّين؟ هذا ما نجد الجواب عليه في التالي:
* الله قدّوس. هو الآخر بالكلية الذي لا بلوغ إليه إلاّ به. والقداسة هي الإشتراك في حياة القدّوس بنعمة منه. قطعة الحديد متى أُلقيت في النار اشتركت فيما للنار. صارت والنار واحدة. استحالت ناريّة. ومع ذلك تبقى حديداً. بمثل ذلك، متى اشترك المؤمن بالربّ يسوع في حياة الإله القدّوس صار وإيّاه واحداً. تَنَيرَن. تألّه وصار قدّيساً.
كنيسة المسيح هي كنيسة قدّيسين. لا مكان فيها إلاّ للقدّيسين. ليس القدّيس مَن يصنع العجائب بالضرورة. ليست القداسة خوارق بل حياة جديدة. القدّيس خاطئ أيضاً، مثلي ومثلك. وجلّ جلال مَن لا يُخطئ. يُخطئ لأنه ضعيف، لأن فيه ثقلاً يدفعه إلى الخطيئة. لكنه إنسان يؤمن بالله ويطلب الله ويعرف الله. يخطئ مرغماً، والخطيئة هي عبادة الذات والتنكّر لله. يطلب الله لذلك يطيعه. يجاهد ضدّ الخطيئة حتى الدم. لذلك هو التائب إلى ربّه أبداً. كلّما أبعدَته الخطيئة عن ربّه عاد إليه بتوبة أحرّ. وبالعودة تُغفر له خطاياه، كما تُنقّي النار الذهب من الخَبَث. وهو باق على هذه الوتيرة إقبالاً وإدباراً إلى أن تتخلّله محبّة الله، حياة الله، نار الله، فيعتصم بالله ولا يعود يُخطئ إليه من بعد. إذ ذاك يتقدّس كلّه بنعمة الله. يصير قدّيساً.
على هذا كان طبيعياً أن تذخر الكنيسة الأرثوذكسية في أنطاكية بالقدّيسين. هؤلاء نعرف قلّة منهم. وكلّهم عند ربّه مستبان. أما الذين تداول التراث الكنسي أسماءهم، جيلاً بعد جيل، فإن هم سوى عيّنة لاحظها المؤمنون وأثّرت في وجدانهم فأبرزوها، فيما يُسمّى بـ “إعلان القداسة”، وضمّنوها سنتهم الكنسيّة وأعيادهم، واتّخذوها قدوة ومعيناً وشفيعاً.
وعلى امتداد التاريخ الكنسي في هذه الديار لم تخلُ بقعة ولا زمان من القداسة والقدّيسين. عندنا أنه حيثما نضب معين القداسة كفّت الكنيسة عن أن تكون.
منذ القرن المسيحي الأول وسيل القدّيسين لا يتوقّف. المسيحيّون دُعوا كذلك أولاً في أنطاكية. بعض مَن ورد ذكره في أسفار العهد الجديد كان أنطاكياً – بالمدى الجغرافي الذي عرفته أنطاكية عبر التاريخ – نظير بولس الرسول ولوقا الإنجيلي وحنانيا الدمشقي. الأرض المقدّسة، في كل حال، إلى القرن الخامس الميلادي، كانت امتداداً أنطاكياً. في القرن الثاني الميلادي أسماء بارزة كانت من هنا كأغناطيوس الأنطاكي المستشهد سنة 117م. هذا في الوطن. وفي المهجر أيضاً كانت للأنطاكيين، منذ وقت مبكّر، شهادتهم. أنيقيتوس الشهيد، أسقف رومية الحادي عشر المتوفّى سنة ~ 161 م، كان حمصياً. إيريناوس الليّوني في بلاد الغال (فرنسا) كان من هذه الديار. والأسماء تتتالى. بعضهم سطع نوره في أرجاء المسكونة كبابيلا مؤدّب الملوك وملاتيوس الأنطاكي ويوحنا الذهبي الفم وأفرام وإسحق السوريين ومارون الناسك القورشي وسمعان العمودي ومكسيموس الجولاني المعترف ويوحنا الدمشقي. كان منهم الرسول والنبي والمعترف والشهيد والمعادل الرسل والأسقف والناسك والطبيب والعادم الفضّة الصانع العجائب والمرنّم والمتباله والكاهن والشمّاس والعذراء والأرملة والولد والرضيع.
الكنيسة الكرجية، أي الجيورجية، تلمذها، في القرن السادس الميلادي، ثلاثة عشر راهباً سورياً. مشرِّع الكنيسة الأنكليكانية، القدّيس ثيودوروس كانتربري، في القرن السابع، كان من طرسوس الكيليكية. أوّل متروبوليت على كييف وسائر الروسية في القرن العاشر كان القدّيس ميخائيل السوري. أحد الذين أعادوا الحياة النسكية إلى إيطاليا في القرن السادس للميلاد كان إسحق السوري السبولاتي.
وسيل القدّيسين الأنطاكيين في زمن المسلمين لم يتوقّف البتّة. بات أغزر لأن أزمنة الضيق تجعل التوق إلى القداسة أحرّ. ثباتهم واستمرارهم كان هو البرهان. أما حفظ التواريخ والسجلات فأضحى صعباً، وأحياناً متعذّراً. مطالعة المخطوطات والوثائق القديمة المتبقّية تُبرز أسماء عدّة غابت عن التداول ردحاً من الزمان. من الأسماء المستعادة اليوم بطرس الحوراني المستشهد في زمن الأمويين (+715م)، والشهيد أنطونيوس القريشي والشهيد إيليا البعلبكي والبار تيموثاوس العمودي في زمن العبّاسيّين. في زمن الحمدانيين، في حلب، عندنا مثلاً البطريرك الشهيد خريستوفوروس الأنطاكي (+967م)، صديق سيف الدولة الحمداني. وفي زمن المماليك، هناك أمثال الشهيد رزق الله بن نبع الدمشقي الطرابلسي والشهيد يعقوب الحمصي. وفي زمن العثمانيّين كثرة قضت كالشهيد جرجس الأسود الدمشقي والشهيد داود الحلبي (+1660م). ثم آخر قدّيس جرى إعلان قداسته عندنا، منذ عهد قريب، كان القدّيس الشهيد يوسف الدمشقي الذي قضى في أحداث 1860م. وهناك عدد من الأبرار، في الوقت الحاضر، ينتظر إعلان قداسته متى استُكملت الإجراءات المجمعية اللازمة. مثل هؤلاء البطريرك غريغوريوس الرابع حدّاد والشهيدان نقولا وحبيب خشّه والشهيد جبرائيل نصير والشهيد في الكهنة سليمان الأنطاكي. هؤلاء وسواهم مجّدوا الله بين القرنين التاسع عشر والعشرين.
وكما تنتشر القداسة في زمن أنطاكية الكنيسة تنتشر في كل موضع فيها. مراجعة جداول القدّيسين تزوِّدنا بأسماء تنتمي إلى الكثير من المناطق التي نعرف. دونكم مثلاً بربارة البعلبكية ولاونديوس الطرابلسي وبمفيلوس البيروتي وأكّلينا الجبيلية ودوروثاوس الصوري وثلالاوس جبل لبنان الصانع العجائب (القرن 3) وزنوبيوس الصيداني. وما يقال عن المناطق اللبنانية يقال أيضاً عن المناطق الأخرى في سوريا وسائر أنطاكية.
زبدة القول إن رائحة القداسة عالقة في هذه الأرجاء، منذ البدء. في أوائل الستينات كان أحد القدّيسين الأحياء مسافراً بالطائرة فارتجّت نفسه فسأل: أين نحن؟ فأجابوه: “فوق سوريا ولبنان!” فقال: هذه الديار ملأى برفات القدّيسين!
الأرشمندريت توما (بيطار)
دير مار يوحنا – دوما
تشرين الأول 2003