ما معنى أن يكون الإنسان روحانيًّا؟
الأب ثيودور ستيليانوبولوس
نقلتها إلى العربية جولي عطية
ما معنى أن يكون الإنسان روحانيًّا؟ يروّج العالم لجميع أنواع “الروحانيات” المتّصلة بالموسيقى والفن والطبيعة والرياضة وغيرها من النشاطات الإنسانية، بما فيها الممارسات الدينية وشبه الدينية. بعض هذه النشاطات غير مؤذي إلى حدّ ما، وينمّي شعورًا بالعافية الجسدية والعاطفية، لكن قد يستتبع بعضها الآخر انهماكًا مفرطًا بالموسيقى الرائجة والرياضة وأشكال أخرى من التسلية، والتي قد تكون مؤذية جدًّا، كما في مسألة تجربة المخدّرات.
بالنسبة للمسيحيين الأرثوذكسيين، يكون الإنسان روحانيًّا عندما يحيا الحياة المسيحية الاعتيادية، تلك التي تقوم على الإيمان بالله الذي نعرفه في شخص المسيح وبقوّة الروح القدس. وليكون الأرثوذكسي روحانيًّا، عليه أولاً أن لا يجسر على الاعتقاد بأنه روحانيّ، بل أن يسعى بتواضعٍ إلى السلوك بحسب إيمانه بيسوع المسيح وتعاليمه. والسمات الأساسية للروحانية الأرثوذكسية هي: الأمانة، التواضع، التمييز، المسالمة، المحبة، الصدق، الرحمة، والفرح الداخلي.
الروحانية الأرثوذكسية هي نوعية حياة تثبُتُ دائمًا في التقوى الأرثوذكسية وتنتج عنها. والتقوى الأرثوذكسية هي طريقة حياة تتمثّل بالالتزام بممارسات الحياة المسيحية الأرثوذكسية: العبادة الدائمة، الصلاة في البيت، إضاءة شمعة وتقديمها لله، تحضير خبز التقدمة وتقديمه للكنيسة، الصوم، الإحسان، الاحتفال بأيام الأعياد بحسب التقويم الليتورجي، قراءة الكتب المقدسة وكتابات آباء الكنيسة، المساعدة في العمل الكنسيّ والخِدَم الكنسيّة، والأهمّ من ذلك كلّه الإيمان الحارّ بالمسيح والطاعة الكلّية لتعاليمه. لا يظنّ المسيحي الأرثوذكسي الذي يتخلّى عن أعمال التقوى، أو يتلاعب بها بطريقةٍ ما، أو يفكّر بالتعالي عليها، أنّه يستطيع التقدّم في الحياة الروحيّة.
يتمّ النمو الروحي بالاتّكال على نعمة الله، والسلوك بيقظةٍ في التقوى التامّة، وبالتالي تحويل التقوى الأرثوذكسية إلى روحانية أرثوذكسية، بنعمة الروح القدس. نعطي مثالاً على ذلك: قد يضيء الإنسان شمعةً من دون تفكيرٍ كثيرٍ ويكتفي بذلك، لكن إذا قدّم الإنسان مالاً وأضاء شمعةً تقدمةً لله، وشعر مرّة بعد مرة أنه إنّما يقدّم ذاته رمزيًّا لله، وأنّ شعلة الشمعة تمثّل إيمانه المتّقد بالله، وتمثّل أيضًا نعمة المعمودية في الروح، حينها يتحوّل العمل التقي إلى عملٍ روحيٍّ ذي معنى عميق، يمنح القوّة والتجديد في الحياة.
أما تحضير خبز التقدمة، فهو أكثر الأعمال التقيّة معنى وقيمة. قد يخصّص الإنسان بضعًا من وقته ليشتري المكوّنات، ويبذل جهدًا ووقتًا لصنع الخبز وإحضاره إلى الكنيسة. وهنا يشكّل الجهد والعرق، وأحيانًا نفاذ الصبر، جانبًا من التقوى، أي جزءًا من حمل الصليب. أمّا إذا تأمّل هذا الإنسان في تقديم الخبز، ورأى كيف أنه بركةٌ للجماعة كلّها، تُعطى بواسطة المناولة المقدّسة والأنديذورون الذي يوزّع في نهاية القداس، فسعى عندها إلى جَمعِ المكوّنات بصلاةٍ، وصُنعِ الخبز بروحٍ متّضعة ومصلّية، فهنا أيضًا يتحوّل الفعل التقي إلى عملٍ روحي.
والذهاب إلى الكنيسة بانتظامٍ من أجل العبادة هو عمل تقي يشكّل تحديًّا بالنسبة للكثيرين منّا، لأنه يستلزم التخلّي عن صباحٍ مريحٍ وقهوةٍ وصحيفة، وإمضاء وقتٍ زائدٍ في الاغتسال وارتداء الملابس المناسبة، وأحيانًا تحضير الأولاد المشاغبين، وقيادة السيارة نحو الكنيسة، والصبر على المتأخّرين في القدوم وعلى غير البارعين في الترتيل، والصبر أيضًا على طِباع الكاهن والمرتّل، وأمور أخرى غيرها، لنشعر بعدها بالاكتفاء لأننا ذهبنا مرّة جديدة إلى الكنيسة، واستمتعنا بالحديث إلى أصدقائنا في الجلسة التي تلي القداس.
أمّا إذا اعتبرنا أنّ الأحد هو اليوم الأوّل والأهمّ في الأسبوع، حيث نحتفل بموت الربّ وقيامته كأحداثٍ خلاصية، وتهيّأنا للمناولة المقدّسة بالصوم والصلاة، وحوّلنا قلوبنا وعقولنا نحو قدّاس الأحد منذ نهار السبت، وبذلنا جهدًا لحضور صلاة السحر من وقتٍ إلى آخر، وللوصول دومًا إلى الكنيسة في بداية القداس، وإذا قمنا مرارًا وتكرارًا باسترجاع قلوبنا وعقولنا الشاردة إلى القدّاس، واشتركنا في الترتيل بأصواتٍ منخفضةٍ، وتناولنا القرابين الإلهيّة بصلاةٍ وخشوع؛ إذا فعلنا هذه كلّها مدركين أنّنا نذهب إلى الكنيسة من أجل الله، لنعبده ونقوّي كنيسته، عندها يصبح فعل العبادة التقي هذا حدثًا روحيًّا له وقعٌ عظيم على حياة كلّ واحدٍ منّا وعائلته وعلى حياة الرعية أيضًا.
على نحوٍ مماثل، كلّ الأفعال التقويّة التي تتمّ بيقظةٍ وجهدٍ وانضباطـ، من صومٍ وتعليمٍ وإدارةٍ ورحمة، واهتمامٍ بالأراضي، ومساعدة في تحضير النشرة الشهرية، واستقبال الزائرين، ودعم المعوزين وتشجيعهم، هذه كلّها تبدّل مَن يشتركون فيها ومَن حَولهم، على نحوٍ جميلٍ وعميقٍ لا يمكن أن تنجزه سوى النعمة الإلهية وحدها. إنّ بساطة الحقيقة المسيحية تجعلنا متواضعين، فالآفاق التي تمنحها من أجل تجديد حياة الإنسان هي مذهلة، لكنّ تحقيقها لا يتم سوى عبر “حمل الصليب“، أي عبر اليقظة التامّة والانضباط الشديد، وقبل كلّ شيء عبر محبة الله ونعمته.