جنون الوصيّة الإلهيّة!
اﻷرشمندريت توما بيطار
يا إخوة، أودّ، بإذن الله، أن أتوقّف، اليوم، عند سؤال طُرح على الرّبّ يسوع، وعند جواب أعطاه. السّؤال صدر عن إنسان ليس معروفًا. قال: “يا ربّ، هل الّذين يخلصون قليلون؟!”، فأجاب يسوع: “اجتهدوا أن تدخلوا من الباب الضّيّق“. الرّبّ يسوع لم يعطِ جوابًا مباشرًا عن السّؤال الّذي طرحه هذا الإنسان. لقد كان من المتوقَّع أن يجيب الرّبّ يسوع إمّا بنعم، وإمّا بلا؛ أي “نعم، الّذين يخلصون قليلون“، أو “لا، الّذين يخلصون ليسوا قليلين“. لكنّه أعطى جوابًا عن سؤال كان يجب أن يُطرَح. عند الرّبّ يسوع، ليس لكلّ سؤال جواب. أحيانًا، يطرح النّاس أسئلة قد لا يكون لها أجوبة، عند الرّبّ الإله. عادة، الجواب يكون صائبًا، أو مُخطئًا. أمّا عند الرّبّ يسوع، فالسّؤال ينبغي أن يكون صائبًا، أوّلاً؛ حتّى تكون له إجابة صائبة.
لماذا يسأل الإنسان “هل الّذين يخلصون قليلون؟“؟! هذا سؤال فضوليّ، والنّاس عندهم الكثير من الفضول! يحبّون أن يعرفوا من أجل المعرفة. هذه ميزة من ميزات عالمنا، اليوم. نبحث عن المعرفة من أجل المعرفة. يكدّس الإنسان المعلومات والمعارف، ويتعب عبثًا في جمعها، وأكثرها ليس نافعًا في شيء. هذا، في الحقيقة، من دلائل سقوط الإنسان. بعد أن سقط الإنسان، صار هناك خلل في كلّ البنية الإنسانيّة. تركيز الإنسان صار على القوى الدّماغيّة، على العقل، على الفكر؛ لأنّ الدّماغ هو ما يمكن أن تتجلّى فيه قوّة الإنسان. قوّة الإنسان، في العمق، كإنسان، هي قوّة دماغيّة. اليوم، كلّ الحضارة، الّتي نحن في كنفها، هي حضارة تعتمد، في الدّرجة الأولى، على قوى الإنسان الدّماغيّة. من أجل إبراز هذه القوى الدّماغيّة وتنميتها، تقيم الشـّعوب مدارس، مثلاً! ما القصد من المدارس؟! في الدّرجة الأولى، القصد هو صقل القوى الدّماغيّة عند الإنسان، وتنميتها، وتوجيهها. ونحن نرى، في العالم، أنّ الإنسان، بسبب هذا التّركيز على القوى، يمكنه أن يصنّع أمورًا لا حاجة إليها، وبإمكانه أن يعيش من دونها، وحتّى بشكل أفضل. ومع ذلك، يصنّع هذه الأدوات، وهذه الوسائل. مثلاً، السّلاح! لماذا يصنع الإنسان السّلاح؟! هو يقول إنّه في حاجة إلى أن يدافع عن نفسه. الشـّعوب تقول إنّها في حاجة إلى أن تدافع عن نفسها. لكنّ السّلاح، عمليًّا، هو للقتل! والإنسان، عبر السّنوات، لا سيّما عبر القرنين العشرين والواحد والعشرين، تفنّن كثيرًا في صناعة الأسلحة! حتّى إنّه صنع، ويصنع، أسلحة ليست، أبدًا، للدّفاع عن النّفس. مثلاً، القنابل الرّهيبة الإشعاعيّة والذّرّيّة، الّتي تُصنَع، ليست للدّفاع عن النّفس! هذه لقتل البشريّة! هذه لتدمير ما له علاقة بالأرض، ما له علاقة بالبشر، ما له علاقة بالحضارات! اليوم، مثلاً، كلّ الصّناعات، الّتي يهتمّ بها الإنسان، لا يحتاج، في الحقيقة، إلاّ ربّما إلى جزء قليل منها، ليجعل الحياة على الأرض أفضل ممّا هي عليه. الإنسان، اليوم، ليست عنده حدود، في وجدانه، تردعه عن صناعة أيّ شيء! هو مستعدّ لأن يستعمل قواه العقليّة لتصنيع أيّ شيء! خذوا، مثلاً، الصّناعات البيولوجيّة. الإنسان، اليوم، يحاول أن يصنع إنسانًا! ويحاول أن يصنعه بقواه العقليّة! يُجري التّجارب من أجل ذلك، ويسخـّر طاقات هائلة لغرض صنع إنسانٍ جديد، إنسانٍ مصنَّع! طبعًا، المحاولات جارية لصنع حيوانات، أيضًا! انظروا، مثلاً، ماذا فعل، ويفعل، الإنسان في موضوع الغذاء. قلّة منّا، ربّما، تدرك أنّ معظم الغذاء الّذي نتناوله قد أصبح مصنَّعًا. طبعًا، لا بدّ من اعتماد الزّراعة. لكن، هناك زراعة مصنَّعة. البذور، مثلاً، الّتي تُبذَر في الأرض من أجل الحصول على الخضار والفاكهة، القسم الأكبر منها صار، اليوم، مصنَّعًا! النّاس يتلاعبون بالجينات الخاصّة بهذه البذور، بحيث يوجِدون ما لم يكن موجودًا، ويوجِدون الخضار والفاكهة وفقًا للمصالح: مصالح الأفراد، ومصالح الجماعات؛ ووفقَا لزيادة الإنتاج، وأمور كهذه! الكلّ القصد منه التّجارة الكبيرة. مثلاً، معظم البندورة الّتي نأكلها بندورة مصنَّعة، ملعوب فيها جينيًّا. وقد ثبت أنّ أربعين في المئة، على الأقلّ، من أمراض الإنسان المستحدَثَة، عائد إلى التّغذية المغلوطة، الّتي بتنا معرَّضين لها.
باختصار، إذًا، الإنسان بات يستعمل قواه العقليّة حيث ينبغي، وحيث لا ينبغي! لم يبقَ هناك أيّ فاصل بين الأمرين! لا حدود لاستعمال القوى العقليّة، عند الإنسان. هذا من علامات السّقوط! الإنسان، من خلال استعمال قواه العقليّة بهذه الطّريقة، يهمّه، في الدّرجة الأولى، أن يتعاطى القوّة، في العالم! يريد أن يتعاطى الخَلـْق! يريد أن يكون خالقًا! طبعًا، هو لا يستطيع ذلك؛ لأنّ الخَلـْق كان، في الأساس، من العدم. أمّا الإنسان، فلا يخلق، ولا يمكنه أن يخلق شيئًا من العدم. الإنسان، بكلّ بساطة، يحاول أن يبتدع أشكالاً من الحياة، غير الأشكال الّتي شاءها الرّبّ الإله أن تكون. طبعًا، هذا يصير مكلِّفًا جدًّا، إذ يرتدّ الأمر على الإنسان؛ وبسببه، يعاني مشكلات لا حدّ لها ولا حصر. مثلاً، مَن منّا لا يتناول أدوية كيميائيّة؟! الكيميائيّات، في المبدأ، ولو بتنا معتادين عليها، هي تفكيك لخليقة الله، عمليًّا، وإعادة تركيبها بطريقة مختلفة. المشكلة الكبرى، مثلاً، في موضوع الأدوية الكيميائيّة، أنّ الإنسان لا يمكنه أن يتوقّع ما يمكن أن تكون عليه تأثيرات هذه التّركيبات الكيميائيّة، بعد عشرين سنة، أو ثلاثين سنة. يعرف أنّه إذا تناول قرص “بنادول“، مثلاً؛ فهذا يمكن أن يخفّف، آنيًّا، ألم رأسه؛ أو إذا كان معرَّضًا للزّكام، يتناول بعض الأدوية؛ فتكون النّتيجة أنّ وضع زكامه يتحسّن. لكن، ما هي التّأثيرات الجانبيّة، الّتي تخلّفها هذه الأدوية في صحّة الإنسان؟! هذا مجال يبدو مستحيلاً على الإنسان أن يخوض فيه. الإنسان لا يمكنه أن يتوقّع ماذا يمكن أن يكون عليه الأمر، بعد سنوات طويلة، بالنّسبة إلى ما يستعمله اليوم. لكن، نحن نعرف، بصورة عامّة، وفق الدّراسات، أنّ الإنسان، اليوم، يعاني معاناة شديدة بسبب الأدوية المصنَّعَة، وبسبب الأدوية الكيميائيّة، كما تعاني الطّبيعة، أيضًا. كلّ هذه الأدوية والكيميائيّات المستعملَة، وبشكل متزايد، وفق الدّراسات، تؤثّر سلبًا في الطّبيعة، وتؤثّر سلبًا في الإنسان.
إذًا، هذا، الّذي جاء إلى الرّبّ يسوع، سأل سؤالاً لا يحتاج إليه: “هل الّذين يخلصون قليلون؟!”. ما همّك، أيّها الإنسان، إذا كان الّذين يخلصون قليلين أو لا؟! ماذا ينفعك أن تعرف الجواب؟! وكأنّ الرّبّ يسوع، بطريقة غير مباشرة، يدعونا إلى طرح الأسئلة الّتي تنفع، لا إلى طرح الأسئلة لمجرّد الأسئلة، لمجرّد الحصول على إجابات ترضي غرورَ الإنسان، وغرورَ عقله، وشعورَه بالقوّةِ، والعظمةِ، والأهمّيّةِ… لهذا السّبب، تجاهل الرّبّ يسوع السّؤال الّذي طرحه هذا الإنسان، وأجاب عن سؤال آخر: “اجتهدوا أن تدخلوا من الباب الضّيّق“. في الحياة الرّوحيّة، ليست هناك نظريّات. في الحياة مع الله، يُفترَض بالإنسان أن يطرح السّؤال الّذي ينفعه في عمليّة الخلاص، الّذي ينفعه في دخول ملكوت السّموات، الّذي ينفعه في علاقته بالله، الّذي ينفعه في اقتناء الحياة الأبديّة، الّذي ينفعه في علاقته بالآخرين. الأسئلة ينبغي أن تنصبّ، إذًا، على ما هو نافع ومفيد لنا، من جهة علاقتنا بالله، ومن جهة علاقتنا بالآخرين. الرّبّ يسوع، في الجواب الّذي أعطاه، الكلمة الأولى الّتي قالها هي “اجتهدوا“. هذا موضوع له علاقة بالإرادة. إذًا، بالنّسبة إلى موضوع الخلاص – إذ إنّ هذا الإنسان كان يسأل عن الخلاص – النّقطة الأساسيّة هي الاجتهاد. والاجتهاد هو موضوع إرادة. علينا أن نجتهد، وإلاّ لا نخلص! علينا أن نرغب، عميقًا، على مستوى الإرادة، في الخلاص، وإلاّ لا يكون لنا نصيب في الخلاص. الاجتهاد معناه أن يبذل الإنسان جهدًا، لأنّه يريد أن يبذل! إذًا، موضوع الباب الضّيّق، الّذي تكلّم عليه الرّبّ يسوع، هو، عمليًّا، موضوع له علاقة بالإرادة. الإنسان يدخل من الباب الضّيّق، حين يطلب، إراديًّا، ما هو نافع له، ولو كان غير مريح. السّارق، مثلاً، إذا أراد أن يسرق بيتًا؛ يأتي، أحيانًا، ويجد نافذةً لها قضبان من حديد، والمسافة بين القضيب والقضيب الآخر ضيّقة. فيحاول، قدر الإمكان، أن يدخل من المكان الضّيّق! يغصب نفسه! يكون منزعجًا، لكنّه يريد أن يبلغ مأربه، يريد أن يبلغ غايته! لهذا السّبب، يدخل، مهما كان الأمر مزعجًا، بالنّسبة إليه! وهو يتجشـّم كلّ هذه المشقّات من أجل الحصول على مبلغ من المال، أو شيء من أمور هذه الدّنيا. أمّا نحن، فإنّنا نطلب الحياة الأبديّة. لهذا السّبب، علينا أن نغصب أنفسنا على الدّخول من الباب بالتّعب. ماذا يعني ذلك؟! نحن، مثلاً، نحبّ النّوم. التّعب، أو الدّخول من الباب الضّيّق يعني السّهر! أن يسهر الإنسان، لكي يصلّي! أن يسهر الإنسان، لكي يسجد! أن يسهر الإنسان، لكي يقف قدّام الله ويسبّح! هذا كلّه غصب للنّفس، هذا كلّه تضييق على النّفس. لكنّ القصد هو أن يدخل الإنسان في علاقة مع الله، الّذي علّم: “صلّوا في كلّ حين، صلّوا ولا تملّوا” (لو18: 1). الرّبّ يسوع يعطي وصيّة، ونحن علينا أن نتمسّك بها، ونسلك بحسبها. ولكي نسلك بحسبها، علينا أن نغصب أنفسنا عليها، علينا أن نضيّق على أنفسنا، علينا أن نثبت في هذا العمل، إلى المنتهى. كذلك الأمر، بالنّسبة إلى الصّوم، مثلاً. الإنسان، بصورة تلقائيّة، لا يرغب في الصّوم. مثلاً، السّيّدات، بخاصّة، يرغبن في الامتناع عن أنواع من الطّعام، لا من أجل غاية روحيّة، بل من أجل غاية لها علاقة بالنّحافة، بالأنوثة والجمال؛ ويغصبن أنفسهنّ على أمور، ويحاولن أن يدخلن من باب ضيّق، إنّما من أجل اقتناء جسم أكثر نحافة! الإنسان، إذا أراد، فهو قادر على أن يدخل من الباب الضّيّق. الرّبّ الإله يريدنا أن نريد الدّخول من الباب الضّيّق ابتغاءَ الخلاص، ابتغاءَ الحياة الأبديّة، ابتغاءَ الملكوت. لهذا، نحن، إذا أردنا أن نصوم، علينا، طبعًا، أن نضبط شهوة البطن، ولذّة الحلق، وكلّ ما له علاقة بالشـّراهة. وهذا ليس بالأمر السّهل، بخاصّة بالنّسبة إلى الإنسان الّذي يحبّ الطّعامَ اللّذيذ، وريادةَ المطاعم، والمشروبات الكحوليّة، وغيرَها. الأمر لن يكون سهلاً، بالنّسبة إليه! لكن، إذا شاء الإنسان أن يكون له نصيب في الملكوت؛ فعليه أن يتعلّم الصّيام، عليه أن يغصب نفسه عليه، عليه أن يدخل من الباب الضّيّق، عليه أن يضيّق على نفسه. الباب الضّيّق ليس قائمًا هناك، إنّما قائم في إرادتنا. نحن نضيّق على أنفسنا من أجل الملكوت. هذا هو الباب الضّيّق، في نهاية المطاف!
الموضوع، إذًا، يُطرَح على هذا الصّعيد؛ ونحن نهتمّ، أوّلاً وأخيرًا، بكلّ تفصيل من تفاصيل الحياة الرّوحيّة، بكلّ تفصيل من تفاصيل ملكوت السّموات، بكلّ تفصيل من تفاصيل محبّة الله، وتسبيح الله، والوقوف في حضرة الله، وإتمام كلّ شيء في حياتنا لأجل الله؛ بحيث لا يعمل الإنسان، من بعدُ، أيّ شيء، على الإطلاق، إلاّ لأجل الله. لا يعمل، أبدًا، الأشياء لأجل ذاتها، بل يعملها كلّها من أجل الله، بحسب ما قال الرّسول بولس، مثلاً: “إذا أكلتم أو شربتم، فليكن كلّ ذلك من أجل الله” (1كور10: 31)! إذًا، ما يشاؤنا الرّبّ الإله أن نسلك بحسبه هو أن يكون كلّ شيء، في حياتنا، من أجل الله. كلّ ما يمجّد الله نحن نفعله! كلّ ما يساعد على التصاقنا بالله نحن نفعله! وكلّ ما لا ينفع في تمجيد الله، ولا في الاتّحاد بالله، نسعى لأن نمتنع عنه! لهذا السّبب، نحن، مثلاً، حين نأكل، ليس الموضوع، بالنّسبة إلينا، أن نملأ بطوننا! الموضوع، بالنّسبة إلينا، في الدّرجة الأولى، هو أن نأكل في إطار ذكر اسم الرّبّ يسوع، في كلّ حال. لهذا السّبب، كلّما جئنا إلى المائدة، نصلّي! “أعين الكلّ إيّاك تترجّى، وأنت تعطيهم طعامهم في حينه. تفتح يدك، فيمتلئ كلّ حيّ سرورًا” (مز144: 15- 16)… نعتبر أنّ هذا الطّعام هو من فوق، من عند الله. نحن نعترف بذلك، ونشاء أن نبارك هذا الطّعام؛ حتّى يكون مفيدًا لنا، في رحلتنا إلى قلب الله، في سعينا إلى ملكوت السّموات، في طلبنا للحياة الأبديّة. لهذا السّبب، نحن نأكل بهذه الرّوح، ولا نأكل لمجرّد أن نملأ بطوننا، ولمجرّد أن نسدّ حاجاتنا. أنا لا أقول، أبدًا، إنّ الإنسان لا يحتاج إلى أن يأكل! طبعًا، نحن نحتاج إلى أن نأكل مقادير معيّنة من الطّعام، لكي نبقى على قيد الحياة ونستمرّ. لكنّ هذا البقاء على قيد الحياة له هدف، وهو الله، وليس هو قائمًا في ذاته. لهذا السّبب، كلّ موضوع فنون المطبخ، مثلاً، لا علاقة له بالإلهيّات، أبدًا. هذا، تمامًا، مثل المعرفة الّتي هي لأجل المعرفة، ولا فائدة له. على العكس، فنون المطبخ تُبعد الإنسان عن الله. المفترَض أن يكون الطّعام، مثلاً، بسيطًا قدر الإمكان. لا مانع، أبدًا، من أن يكون طيّب المذاق! لكن، أن نتفنّن بصناعة الأطعمة، وأن نمضي ساعات وساعات من وقتنا نُعدّ وجبةً، لنأكلها في عشر دقائق؛ فهذا أمر سخيف، في الحقيقة، ولا يحتاج إلى هذا الاهتمام الكبير. هذا كلّه ينتمي إلى حضارة السّقوط؛ ولا ينتمي، أبدًا، إلى حضارة الخلاص. طبعًا، بإمكان المرء أن يسترسل في الكلام على هذا الموضوع. لكنّ القصد، أوّلاً وأخيرًا، أن نفعل كلّ ما نفعله لأجل الخلاص، لأجل مجد الله، أن نفعله تعبيرًا عن محبّتنا لله، وتعبيرًا عن محبّتنا بعضنا لبعضنا الآخر! اسمعوا، مثلاً، ما قاله الرّبّ يسوع في الإنجيل، مرّةً، وهو شيء يبدو غريبًا جدًّا جدًّا عن واقعنا اليوم. اليوم، مثلاً، إذا أراد إنسان أن يعمل مأدبة عظيمة، فمَن يدعو إلى هذه المأدبة العظيمة؟! طبعًا، هو يدعو أصدقاءه، وبعض أقربائه، ويدعو النّاس الّذين سبق لهم أن دعوه إلى مآدبهم، ويدعو بعض العظماء. ربّما يدعو نائبًا من هنا، أو وزيرًا من هناك، أو موظّفًا كبيرًا، أو مدير مصرف، أو غيرهم؛ لأنّه يفتخر بنفسه، ويريد أن يستغلّ المأدبة لتكون مجالاً لتنمية العلاقات الاقتصاديّة والاجتماعيّة مع الآخرين… هذا هو نمط التّفكير السّائد بين النّاس، بصورة عامّة. أمّا الرّبّ يسوع، فعنده طريقة أخرى، في التّفكير، مختلفة تمامًا؛ وهو يدعونا، بالضّبط، إلى اتّباع هذه الطّريقة المختلفة. يقول: “إذا أردت أن تصنع مأدبةً، فاذهب وادعُ الفقراء والمساكين والبشر الّذين لا يمكنهم أن يدعوك إلى مآدبهم، إذ لا قدرة لهم على ذلك” (لو14: 13- 14)! تخيّلوا إنسانًا يفعل أمرًا كهذا! يدعو بعض المتسوّلين، يدعو بعض العجزة والفقراء، يدعو بعض المرضى، يدعو بعض المتروكين هنا وهناك!… ويدعوهم إلى مائدة سخيّة! هذا لا يمكن أن يَرِدَ في أذهان النّاس، اليوم! وهو غير وارد، أبدًا! لكنّ هذا، بالضّبط، هو ما ورد، ويرد، عند الرّبّ يسوع. وفي أزمنة النّهضة، في الواقع، كان المؤمنون يتعاطون مثل هذه المآدب. الإنسان الّذي يهتمّ بمثل هذه المآدب، يكون له، إذ ذاك، نصيب في المأدبة السّمويّة! يجلس مع الرّبّ يسوع في مأدبته السّمويّة!
إذًا، هناك نمط جديد في الحياة، في التّفكير، في التّعامل، يجعله الرّبّ الإله في حياتنا. طبعًا، مهما بدا هذا النّمط غريبًا عنّا، اليوم؛ فإنّه يبقى هو القاعدة، لا ما نفعله نحن، وما اعتدنا على فعله. القاعدة هي، بالضّبط، ما يقوله يسوع، ما يوصي به الرّبّ يسوع، ما يشاؤنا الرّبّ يسوع أن نسلك فيه. هذا النّمط من التّعامل معروف عند بعض القدّيسين. مثلاً، القدّيس فيلاريت الرّحيم كان مُحـِبًّا للفقراء والمساكين، بشكل مدهش! ذات مرّة، طلب من أهل بيته ومن كلّ الّذين كانوا عنده، قائلاً: “اليوم، علينا أن نُعـِدّ مأدبة عظيمة، لأنّ الملك سوف يأتي، مع كلّ حاشيته، ليتناول الطّعام لدينا“. فأخذوا هم كلامه على ما قال. ظنّوا فعلاً أنّ الملك سوف يأتي إلى بيت فيلاريت، الّذي كانت ابنته زوجةَ الملك. فصنعوا مأدبة عظيمة جدًّا. وإذا بالمدعوّين، الّذين دعاهم فيلاريت الرّحيم، مجموعة من البشر المهمَّشين، والمساكين، والفقراء، والمرضى! هؤلاء دعاهم إلى مأدبته، وقام وخدمهم! للوهلة الأولى، دُهش أهل بيته: ماذا يفعل هذا الإنسان؟! لكنّ هذا، بالضّبط، هو ما فعله. أطعمهم، وخدمهم بنفسه. هو لم يكن يتكلّم على الملك الأرضيّ، بل على الملك السّماويّ، الآتي إلى بيته بأشخاص هؤلاء المساكين، والفقراء، والمجدوعين، والمقطوعين!… خدمهم، بكلّ معنى الكلمة؛ وجعلهم يفرحون! وفي نهاية المطاف، أعطى كلّ واحد منهم ليرة ذهبيّة، وتركهم يذهبون! هذا هو الجنون، الّذي يصعب جدًّا على العاقلين، اليوم، الّذين يعتبرون أنفسهم عاقلين، أن يتبنّوه. لكن، يبدو أنّ الرّبّ الإله يشاؤنا، أوّلاً، حتّى ندخل من الباب الضّيّق، أن نتبنّى جنون الوصيّة الإلهيّة. وبعد ذلك، كلّ شيء ينسكب فينا؛ ليصير حكمةً إلهيّة حقيقيّة.
فمَن له أذنان للسّمع، فليسمع.
* عظة حول لو13: 19- 29، السّبت 10 كانون الأوّل 2011