باباستراتيس الذي من ليسفوس: كاهن اللاجئين
نقلتها إلى العربية جولي عطية
“وأريد أن أقول لكم إنّنا إنّما جئنا إلى هذا العالم الذي نعيش فيه لكي نكون نافعين” (باباستراتيس).
غادر باباستراتيس الشهير هذه الحياة منذ مدّة قصيرة. كان كاهن كنيسة القديس جاورجيوس في كالوني ليسفوس، وخسر معركته ضدّ السرطان في عمر السابعة والخمسين. كانت جهوده عظيمة فأطلقت عليه “المفوضيّة السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين” لقب “السامري الصالح“، وتكلّمت مجلّة نيويورك تايمز عنه وعن أعماله (في مقالٍ صادرٍ في 5 آب 2015).
كرّس باباستراتيس وقته لإغاثة اللاجئين والمهاجرين منذ العام 2007 (ساعد حوالى عشرة آلاف إنسان)، وللإعانة المادّية لسكّان ليسفوس الذين، وكما نعلم، يعانون من آثار الأزمة الاقتصادية. ونذر نفسه، بمساعدة سكّان ليسفوس، لإنقاذ اللاجئين من البحر واستقبالهم وتزويدهم بالمأكل والملبس والمسكن، إضافةً إلى تقديم المساعدة النفسيّة لهم، مع أنّه كان يعاني لسنواتٍ من مرضٍ رئوي اضطرّه إلى استعمال أنبوبٍ يُزوِّدُ رئتيه مباشرةً بالأوكسجين.
وهذا ما قاله عن Angalia، وهي منظّمة لا تبغي الربح (كلمة Angalia تعني الاحتضان): “بدأتْ غير رسميًّا سنة 2007 ورسميًّا سنة 2009، بهدف تأمين المأوى للمهاجرين من السواحل المحاذية“. يقول عن اسم الجمعية: “استوحينا الاحتضان من الصليب، حيث كان المسيح المصلوب فاتحًا ذراعيه محتضنًا العالم بأسره“.
كونه رجلاً لله، وضع باباستراتيس نصب عينيه كلام المسيح: “لم آتِ لأُخدَم بل لأَخدِم“، وعَمِلَ استنادًا إلى ذلك. لم يميّز في خدمته بين الناس، مطبّقًا بأمانة ما قاله المسيح في حديثه الإنجيلي عن الدينونة. وقد كرّم، بفرحٍ وتفانٍ، الكلام الإلهيّ في تعليم المسيح: “لأني جِعتُ فأطعمتموني، عطشتُ فسقيتموني، كنت غريبًا فآويتموني، عريانًا فكسوتموني، مريضًا فزرتموني، مسجونًا فأتيتم إليّ“. وهذا كلّه قائمٌ طبعًا على تعليم المسيح عن المحبّة، لأنّ “الله محبّة” بحسب القدّيس يوحنّا.
وكما بشّر المسيح الجميع وشفى الناس، بغضّ النظر عن عرقهم ولونهم ودينهم ومكانتهم الاجتماعية والاقتصادية، وكلّم الزانية والعشّار والغريب، كذلك فإنّ باباستراتيس “اتّزر بمنشفة“، وعالج ألم الإنسان بتجرّد ومحبة، بغضّ النظر عن اختلافات الناس. وقد قال عن ذلك: “لا نرى العرق أو الجنسية أو الدين أو أيّ أمر آخر، نرى أشخاصًا. مهما يكن، خلق الله أشخاصًا، وكلّنا لدينا الجوع ذاته، كلّنا نحبّ ونقع في الحب“.
وهنا نودّ أن نلفت الانتباه إلى أنّ الميزة الأبرز في موضوع هذا المقال هي اللطف البشري، لكن أيّ لطف بشري هو هذا؟ فبينما يؤيّد بعضهم التنوير Enlightenment، يناصر آخرون نظرية “الحاكم المطلق” لنيتشه، وغيرهم يتبعون بولس الرسول. ويبدو للوهلة الأولى أنّ التعاليم الثلاثة تجعل الإنسان في مركزها، لكنّ الإنسانوية الغربية تختلف عن تلك الشرقية الأرثوذكسية.
فمناصرو التنوير هم مَن ضمنوا الاعتراف بحقوق الإنسان وبمبدأ المساواة أمام القانون والدولة، إلاّ أنّهم لا يدركون أنّ هذه المنافع نابعة من إرادة الله، لأنّهم غير مبالين بالله. وإزاء ضعف الجنس البشري، تسعى نظريّة “الحاكم المطلق” لنيتشه إلى تأليه الإنسان (وتاليًا مبدأ إصلاح القيم‘revaluation of values’ الذي تكلّم عنه نيتشه)، لكن من دون اختبار الله في عملية التألّه (كما في تعبير القدّيس أثناسيوس “كي يصير الإنسان إلهًا“). أنصار التنوير ونيتشه لا يرون الإنسان بالمسيح، ولا يرون الله في الإنسان، مثلما يؤكّد اللاهوت الأرثوذكسي الشرقي.
بالنسبة لبولس الرسول، الناس كلّهم خليقة الله، وقد انعطبت طبيعتهم الإنسانية لكنها لم تَضِع. هؤلاء يسعون، بنعمة الله، إلى أن يصبحوا مشاركين في أسرار المسيح. وأهمّ ما عند بولس الرسول هو أنّ الناس أفرادٌ يقف كلُّ واحد منهم أمام الله الثالوثي، ولو كانوا مختلفين أو غرباء بالنسبة لنا. ووِفق رسول الوثنيّين، ذلك الغريب ليس عدوًّا أو خائنًا يجب إبادته. هذا الغريب هو فرصة ممتازة ومقدّسة لنكون وإيّاه مثل زملاء في السفر ورفقاء في طريق الحياة، هذه الحياة التي خلقها الله أبونا كلّنا. “هجرة المحبة” هذه التي يذكرها البروفيسور ستاموليس في كتابه، هي عبارة عن محبّة الله للناس كلّهم في جميع أنحاء العالم.
إذًا يؤكّد الرسول بولس عدم وجود أيّ فرق أو تمييز بين الناس، فيقول بجرأةٍ في رسالته إلى أهل غلاطية: “ليس يهودي ولا يوناني. ليس عبدٌ ولا حرّ. ليس ذكر وأنثى، لأنّكم جميعًا واحد في المسيح يسوع. فإن كنتم للمسيح، فأنتم إذًا نسل إبراهيم، وحسب الموعد ورثة“. ونربط كلام الرسول بولس بكلام باباستراتيس الذي يقول: “بالنسبة لنا، إنّهم أناس محتاجون. وعندما ترى أحدًا قذفه البحر على شواطئ ليسفوس، أو أمًّا وولدًا يبكيان، لن تسألهم إذا كانوا مسيحيّين قبل أن تطعمهم… لديهم دينٌ ما، يؤمنون بإلهٍ ما، ولديهم أملٌ ما في الحياة الآتية“.
رأى باباستراتيس في كلّ واحدٍ الغريبَ المذكور في عنوان هذا المقال، وهذا ما يذكّرنا بعلاقتنا بالآخرين، فنحن لا نمنح الغريبَ شيئًا ببساطة، بل نحتضنه وندخله إلى بيتنا، كلٌّ منّا وفق نظرته وقناعته. عبارة “أعطني هذا الغريب” الواردة في قطعة الذكصا الشعرية الرائعة التي تُقال في السبت العظيم، تختلف عن عبارة “أعطِ الغريب“. لقد طبّق باباستراتيس هذا الأمر بإيمانٍ وسخاءِ روحٍ لا يكلّ. وبمساعدة سكّان ومتطوّعي جزيرة ميتيليني الجميلة، وَهَبَ نفسه للاّجئين السوريّين والمهاجرين الذين تركوا بلادهم وعائلاتهم وبيوتهم وموطنهم، لا لأنّهم أرادوا ذلك بل لأنّ “رصاص الحرب طاردهم“، على حدّ تعبير باباستراتيس.
هذا الجهد الذي قرّبه باباستراتيس هو مشروعٌ بدأ بجهدِ إنسانٍ واحدٍ، بجهد كاهنٍ وخادمٍ للعليّ ابتكر الفكرة لكنّه لم يكن ليقدر أن يحقّقها بنفسه. إنّ اللطفَ الإنساني هو ميزة الإنسانوية الأرثوذكسية، وهو بعيدٌ عن أيّ نوع من الإقصاء والإبعاد أو عن أيّ ابتذال. فهذا اللطف، بنبل طبيعته، يحتضن الشخص بكليّته. لا يهتمّ بإنسانٍ وحده، بل بالناس والمجتمعات. وإنّ إحياء الناس بروح خدمة الآخرين يترك أثرًا في الأعراق والأمم كلّها. فالخدمة لا تميِّز استنادًا إلى القوميّة أو العرق أو الدين، وكونها رسالة سامية تهدف إلى مساعدة الناس، فهي لا تمتّ بصلة إلى الحماس القوميّ أو التعصّب الديني.
“لم تَضِعِ اليونان بسبب اللاجئين بل بسبب اليونانيّين. هذا ما أقوله دومًا. لقد فقدنا أخلاقنا وعاداتنا وتقاليدنا. بَنَينا منازلَ فخمة لكنّنا نسينا كيف نعانق. علينا أن ندرك أنّنا نتعامل هنا مع أشخاص، هؤلاء خليقة الله، كلّهم صَنعَهُم الله ذاته. لكي نحبّ الله علينا أن نحبّ الناس أولاً. أنا غير مهتمّ بالدين، أنا مهتمّ بالناس، بأولئك الذين يحبّون العالم” (باباستراتيس).