هل قصص الكتاب المقدس “أساطير“؟
المتقدم في الكهنة جون بريك
نقلها إلى العربية الأب أنطوان ملكي
لأكثر من قرن وعلماء الكتاب المقدس يناقشون ما إذا كان العهدان القديم والجديد يحتويان على عناصر “الأسطورية“. الجواب يعتمد على كيفية تعريفنا “الأسطورة“، وهنا الاتفاق قليل جداً. اتفق الأخوان جريم (Brothers Grimm)[1] أن الأساطير هي القصص التي تتحدث عن “آلهة” (بصيغة الجمع). إذا كان هذا هو المعيار الأساسي، يرى العديد من العلماء أنه لا يمكن أن يكون هناك أساطير، بالمعنى الضيق للكلمة، في الكتاب المقدس العبري التوحيدي. في أي حال، إنهم يقولون أن مهما كانت هي العناصر الأسطورية القديمة التي أثّرت في تقاليد العهد القديم قد تمّ تحريرها من اﻷساطير (demythologized) بدقة وتحويلها إلى “تاريخية“.
وقد أظهرت الأبحاث الحديثة حول أساطير الأديان القديمة في الشرق الأدنى (مصر، بلاد ما بين النهرين، بلاد كنعان) أن الأساطير تطوّرت حول طقوس الشعب الدينية وهي تبرهن وجود نمط ثابت إلى حدٍ ما. فابتداءً بنزاع معين (على سبيل المثال أن يدخل البطل في معركة مع وحش يمثّل الفوضى)، تروي القصة الأسطورية هزيمة أو تدمير بطل الرواية، ثم تنتقل إلى وصف رثاء الشعب وحدادهم على البطل. في المرحلة النهائية، يُولد البطل من جديد قائماً من الموت والهزيمة إلى حياة جديدة سامِية. ويبدو أن هذا النمط من الصراع والموت والحداد، والتبرير قد نشأ في المجتمعات الزراعية، حيث أداء الطقوس مثّل دور الولادة الجديدة من النباتات في فصل الربيع من العام الجديد، وبالتالي روّج لهذه الولادة .
هذا النمط أثّر بلا شك في تطوير بعض تقاليد العهدين القديم الجديد، تماماً كما فعلت مختلف الطوائف اليونانية الهيلينية الغامضة. يمكن للمرء أن يجد هذه الحركة، على سبيل المثال، في العديد من القصص المدرجة في الفصول الأحد عشر الأولى من سفر التكوين (وخاصة دورة نوح؛ مصير أيوب)، وحتى في حياة يسوع (الصراع مع السلطات الدينية والسياسية، الحكم عليه وصلبه، الرثاء من جانب المؤمنين من التلاميذ والنساء، من ثمّ القيامة). يعكس العهد القديم، وعلى نطاق محدود العهد الجديد (وخاصة في سفر الرؤيا)، بعض المواضيع الأسطورية العالمية. مع ذلك، من المهم أن نؤكّد أنّ الكتاب المقدس خالٍ من الأسطورة في حد ذاته، حيث أنّ هذه التأثيرات الكامنة تحوّلت بفعل اهتمامات المؤلّفين التاريخية.
إن الاهتمام الرئيسي لمؤلفي الكتاب المقدس قادهم إلى تعديل الأشكال الأسطورية التقليدية بطرق هامة جداً. الأهم من ذلك، الفاعل الرئيسي أو موضوع كتابات الكتاب المقدس هو الله، وليس آلهة متعددة، أو بطلا أو ملكاً. كما هو الحال مع الكثير من الأساطير القديمة، فإن قصص إسرائيل الشعبية غالباً ما تكون سببية: أي أنها تفسر وقوع أعمال محددة أو أشياء في حياة الأمة مثل الاحتفالات الطقسية أو الظواهر الطبيعية (احتفال رأس السنة الخريفي، على سبيل المثال، أو عمود الملح، سفر التكوين 19:26). في أي حال، الأحداث التاريخية المفترضة وراء هذه الحسابات يتم عرضها في مثل هذه الطريقة لتقديم تفسير لاهوتي لهذه الأحداث. وخير مثال هو تقليد (أو تقاليد) الخروج [قارن سفر الخروج 15/01 مع المزامير 77/78 و80/81]. هنا، أُعيد تشكيل العناصر الأسطورية الكامنة (الصراع والدمار، والولادة الجديدة) لكي يتمّ من خلال القصة المكتوبة إعلان عمل الله الخلاصي في شعبه إسرائيل وله. النتيجة هي إعادة رواية طقسية، وبالتالي إعادة تحقيق ما حدث فعلاً في إطار تاريخ خلاص إسرائيل.
نحن نسلّم بأن التأريخ سوف يسجّل لنا صورة دقيقة عن “حقيقة ما حدث،” أي الأحداث التي هي حقيقية بشكل واضح. ومع ذلك، بالنسبة لبني إسرائيل، إن الهدف من “التاريخ” المكتوب ليست في المقام الأول لتسجيل وقائع أو تقديم سجل عن الأحداث الفعلية الماضية. فالملاحم عندهم، على سبيل المثال، تنقل قبل كلّ شيء المعنى اللاهوتي والروحي إلى الزمان الحاضر. وتبنى تلك القصص الملحمية (على سبيل المثال، من نوح أو البطاركة) على نواة للواقع التاريخي لا غنى عنها، وكأنها غير قابلة للاسترداد. إن الأهمية الحقيقية لهذه القصص تكمن في قدرتها على ربط هذا الحدث الماضي بحياة الشعب الحاضرة. يكون تاريخ إسرائيل القديم بنّاءً بقدر ما يكون تاريخاً حياً يمتدّ، بما هو عليه، من الماضي إلى حياة الشعب الحاضرة. وبناء على ذلك، فإن مفهوم “الذكرى” العِبري يعني إعادة التحقيق (reactualization): إن تذكر الماضي هو في اختبار ظروفه وتحدياته في الحاضر القريب.
إن هذه النظرة هي أمر مشوش لكثير من الناس إذ يبدو أنه يرمي إلى التشكيك في “التاريخية“، أي في الحقيقة التاريخية لقسم كبير من التقاليد الكتابية. ومع ذلك، فإن السبب في ذلك هو أننا نسيئ فهم معنى الأسطورة الحقيقي ووظيفتها. في لغة اليوم، الأسطورة مصطلح يعني “الخرافة“، “الفولكلور” أو “القصة الخيالية“: قصة من دون أسس تاريخية تخدم لحمل درس أخلاقي أو لمجرد التسلية. من هنا، بتطبيق عبارة اﻷسطورة على الكتاب المقدس يصف هذا المصطلح بشكل صحيح التقليد الذي يستخدم لغة وصوراً إنسانية للتعبير عن التفاعل الذي لا يوصف بين الجوهري والمتعالي، بين الله ومخلوقاته البشرية. الأسطورة، متجذرةً في الحدث التاريخي الفعلي، تفسّر ذلك الحدث (كعنصر من تاريخ الخلاص) وذلك للتعبير عن معناه لنا في حياتنا وخبرتنا. هذا لا يعني أن علينا أن نشكك في الأسس التاريخية لهذا الحدث. باﻷحرى، هذا يعني أن هذا الحدث، تكمن أهميته القصوى في استمرار تأثيره في حياتنا وإيماننا اليوم أكثر من كونه حقيقة من حقائق الماضي.
لنأخذ كمثالٍ روايات ميلاد يسوع (والتي تختلف بشكل كبير بين متّى ولوقا) وهي تعكس بوضوح موضوعات قديمة تقليدية، ويمكن القول أنها أسطورية. من هذه الموضوعات ظهور النجم (البشير السماوي)، والمجوس والملائكة (التي تمثل قوى الأرض والسماء)، وحتّى ولادة العذراء (وهي ظاهرة لا تقتصر على الأناجيل). هذا لا يعني، مع ذلك، أنه يجب التخلّي عن هذه الروايات لأنها غير تاريخية. بل باﻷحرى هذا يعني أنّ ما هو تاريخي مُفسَّر بشكل القصص وذلك لإعلان الإنجيل. إن المعنى المعبّر عنه في تلك القصص القانونية فريد. لقد كان فريداً لأتباع يسوع اﻷوائل، وما يزال فريداً بالنسبة لنا اليوم، كوعد بوجود الله الكامل في شخص المسيح الطفل وخدمته المستقبلية. (يرى اللاهوتيون الأرثوذكسيون أن تلك التوازيات الفائضة التي سبقت اﻹنجيل موحى بها من الروح القدس كإعلانات نبوية للأحداث الفعلية المحيطة بالحبل بيسوع وولادته).
بالعودة إلى روايات اﻵﻻم والقيامة، فمن الصحيح أننا نجد صوراً أسطورية لموت وقيامة آلهة في الأديان السريّة القديمة. لكن التفاصيل– أي كامل الحركة المؤدية من إدانة ابن الله وموته إلى تبريره النهائي– ليس لها نظير في أي مكان من حيث معناها النهائي. هنا، كما هو الحال مع روايات الميلاد، الغاية الأساسية لكتّاب الكتاب المقدس هي ربط الماضي بالحاضر. إنّهم يعلنون معنى موت المسيح وقيامته بالنسبة لنا. إنهم يعلنون أن انتصار المسيح تاريخي بقدر ما هو تاريخي أيّ حدث حقيقي آخر. إنّ قيامته من بين الأموات التي دمّرت قوة الموت هي حقيقة: إنها حدث فعلي من الماضي. ومع ذلك، إن لها قيمة دائمة – قيمة أبدية– بالنسبة لنا في تجربتنا الحالية الخاصة. وهنا تكمن أهميتها الفريدة والنهائية.
[1] الأخوان جريم، جاكوب وفيلهلم، هما أكاديميان ألمانيان ولغويان وباحثان ثقافيان. من أهم مؤلفي القصص المتخصصين في جمع الفولكلور ونشره خلال القرن ال 19. هما من أهم الرواة ﻷهم القصص المعروفة من الحكايات الشعبيةمثل “سندريلا” ، “الأمير الضفدع“، “هانسيل وجريتل“، “رابونزيل“، “الجميلة النائمة” و“سنو وايت“، وغيرها الكثير.