حكمة القدّيسين: التعامل مع الغضب والحقد والمرارة
الأب ثيودور ستيليانوبولوس
نقلتها إلى العربية جولي عطية
لا تأتي السعادة الحقيقية من كثرة الممتلكات بل من نوعية العلاقات الإنسانية. تتميّز العلاقات الصحيّة باحترام الآخر، والتواضع، والصراحة، والوفاء، والإعراب عن استعدادٍ للتكلّم بهدوء، لتوضيح سوء التفاهم وحلّ الخلافات بعدل، والقدرة على التسوية والتجاوز بنيّةٍ حسنةٍ ومسامحة. حين تكون هذه الصفات موجودة ضمن الزواج والعائلة والجماعة أو المجتمع بعامة، نجد الانسجام والاطمئنان والسلام والفرح الحقيقي.
أمّا أعداء العلاقات الإنسانية الصحيّة فهم اللامبالاة، وعدم الاكتراث، والأنانية، والرغبات الشرّيرة، والغرور، والكبرياء الأعمى. فهذه النزعات تؤدي إلى تراجع الحياة الإنسانية، وتسبّب معاناةً وألمًا لا حدّ لهما، وتُنتج كافة أنواع سوء التفاهم والنزاعات والعداوات والمرارة بين الناس. وكون الإنسان ضعيف يميل إلى إساءة الفهم، فأيّ تعبير قاسٍ يُقال، أو أيّ فعل بسيط يُقترف من دون تفكير، من شأنه أن يؤثّر بشدّة على العلاقات الشخصية. لذلك فإنّ اليقظة مطلوبةٌ للحفاظ على الوفاق بين الناس. وحين تُنتهك الثقة، تلزم عناية شديدة لإعادة الأمور إلى طبيعتها.
في مقالة حول “الحقد“، يعرض القديس دوروثاوس أسقف غزة (القرن السادس) تعليمًا مفيدًا عن الخلافات ونتائجها وكيفية مواجهتها. وأوّل نصيحة للقدّيس دوروثاوس تتعلّق بالمعرفة. فالمعرفة الواضحة تساعد الإنسان على التعامل مع الخصامات بشكل أفضل. ويفصل القدّيس بين مراحل النزاع: الاستياء، اضطراب الذهن، الغضب، الهيجان، والعداوة أو الحقد. ويوضح تعليمه بالمثل التالي:
عندما يوقد أحدهم نارًا، يبدأ بإشعال شرارة، مثلاً بواسطة عود ثقاب. وتمثّل هذه الشرارة كلمةً مهينةً نطق بها أحد الأخوة أو عملاً اقترفه. إذا احتملتَ كلامَ أخيك، فإنك تطفئ الشرارة، أمّا إذا سمحتَ لها بأن تلفتَ انتباهك، فإنّك تشعلها كمَن “يرمي حطبًا أو وقودًا في الموقد، فيشتعل الدخان الذي هو اضطراب الذهن“. وكلّما فكرتَ فيها، استحالتْ مشاعرُك غضبًا وتحوّلَ الغضب إلى هيجانٍ داخلي. يشبه ذلك تجميع الحطب فوق النار فتشتعل بشكل خارجٍ عن السيطرة. إنّك تعذّب نفسَك وتهاجم مَن أهانك، والآخرين أيضًا، بسبب اضطرابك الداخلي. وإذا لم تتبدّد مشاعر الغضب هذه، يحوّلها الوقتُ إلى عداوةٍ أو حقدٍ دائمين. تسمّى هذه الحالة mnesikakia باليونانية، وتعني حرفيًّا تذكّر الشرور أو الإساءات، وتتميّز بإرادةٍ مريضةٍ راسخة، وعداوة ناقمة، ومرارة تجاه الآخر.
لكن كيف يجب أن يتصرّف الإنسان بحكمةٍ إزاء الإهانات؟ ينصح القدّيس دوروثاوس الإنسانَ بأن يميّز الفرق بين الاضطراب والهيجان والغضب والسقوط في الحقد. حصِّنْ نفسَك بهذا التمييز، واعتمدِ الخطة الروحية القائمة على قطع الخلاف منذ بدايته. تراجعْ وخذْ نفسًا عميقًا، وفكِّر قبل أن تتكلّم أو تتصرف، واملكْ وسائلَ بديلة للردّ حين توشك الشرارة على الاشتعال. لا تسمحْ للإزعاج بأن يتحوّل إلى غضبٍ ثم إلى حقد. “اقتلعوا أهواءكم ما دامت صغيرة، وذلك قبل أن تركن فيكم وتتعبكم. فاقتلاع نبتة صغيرة شيء واقتلاع شجرة شيء آخر بالكلّية“.
يستطيع كلّ واحد منّا أن يجد وسائل إيجابية للردّ على الإهانات. من الأفضل أحيانًا التزام الصمت وإعادة فتح الموضوع في وقت أنسب. وبإمكان الإنسان أن يتكلّم بهدوء ويستوضح سائلاً: “ما الذي يجعلك تشعر هكذا؟ مِن فضلك اشرحْ لي ماذا تعني“. أو يستطيع أن يعتذر بتواضعٍ قائلاً: “أنا آسف لأنك تشعر هكذا. لم أعنِ أن أسبّب لك الإهانة. لنهدأ ونتكلّم في المسألة“. ويمكننا أن نتغاضى عن الإساءة، وأن نتحاور بصبرٍ في وقتٍ آخر مع الشخص الذي أهاننا: “يوحنا (أو مريم)، ما قلتَه (قلتِه) ذاك اليوم سبّب لي الأذية، هل بإمكاننا التحدّث بالأمر؟ أقدّر علاقتنا، هيّا نحاول توضيح سوء التفاهم“. يجب إيجاد التعابير المناسبة والتكلّم بالنبرة المناسبة لئلاّ تشتعل النار وتلتهم المتخاصمين.
يلفت القدّيس دوروثاوس الانتباه إلى أنّ الإنسان يميل بطبعه إلى التصرّف بعدلٍ ومقابلة الشرّ بالشرّ. يتذكّر المزمور 7: 5 حيث نصلّي إلى الله: “إن كنتُ قابلتُ الشرّ بالشرّ فلأهلك بالكلية ولأسقط أمام أعدائي خاويًا“. عندما يقابل أحدُهم الشرّ بالشرّ، فهو يؤذي نفسه. يشرح القدّيس: “السقوط يفترض فقدان القدرة على النهوض من جديد. أما “أن نسقط خاوين” يعني أن نفقد كلّ فضيلة تسمح لنا بالنهوض من جديد“. إذًا برغبتنا في العدل، نكون في خطر خسارة “قدرتنا على التصرف بفضيلة أو عمل الصلاح“.
هناك وسائل عدّة لمقابلة الشرّ بالشرّ، ليس فقط بالكلمات أو الأفعال بل بالمواقف والحركات والنظرات، وهي وسائل يجب تمييزها وتجنّبها. فالتجاهل يعبّر عن وجود حقدٍ في القلب، ونظرة الازدراء تجرح مثل سهمٍ مسنّنٍ بالخبث. وقد لا يكنّ أحدُهم البغض لأخيه، لكنّه يفرح إن سمعَ أحدًا يشتمه. وآخر لا يضمر في قلبه سوءًا لأخيه، لكنّه لا يطلب له السعادة ويحزن إن رآه مكرَّمًا. تمثّل هذه الحالات، بحسب القديس دوروثاوس، أشكالاً ماكرة لمقابلة الشرّ بالشرّ، وتعبّر عن حقدٍ مخفي. لذلك يجب تمييز هذه الأشكال بعناية، ومكافحتها والاعتراف بها إلى الله. لقد طلبَ المسيحُ منّا أن نحبَّ أعداءنا وأن نصلّي من أجلهم. وعلّم بولس الرسول: “لا يَغلِبَنَّكَ الشَّرُّ بَلِ اغلِبِ الشَّرَّ بالخَيرِ“(رو 12: 21).
لكنّ المعرفة ووسائل الدفاع لا تكفي وحدها للتعامل بفعالية مع الاستفزازات والإساءات. نعمة الله أساسيّة للغاية لحدّ الخلاف وجلب المصالحة والشفاء. وعند اشتعال شرارة الخلاف الأولى، تكون الصلاة الردَّ الأكثر إيجابية وفعالية، كونها تُلهِمُ الخطوات المفيدة التالية. الصلاة ملجأٌ داخلي آمنٌ يعمّه السلام والتفكّر، فيه يجدُ الإنسان المساعدة على مواجهة الخلافات والأذية بشكلٍ عميق.
في التقليد الأرثوذكسي، يُنصح بتلاوة صلاة يسوع (ربي يسوع المسيح ارحمني)، بصفتها فأسًا في وجه التجارب والأهواء. ويمكننا اختصارها، وفقًا للحالة، إلى صيغة “يا رب ارحم!” أو “يا رب امنحني القوة، أو أعطني الصبر، أو امنحني النور للتعامل مع هذه المشكلة“. عند اشتعال الشرارة، تساعد تلاوة صلاة يسوع النفسَ على الالتجاء إلى منزلها الروحي، فنُسيطر على الغضب، ونضبط الكلمات والأفعال التي قد نندم عليها لاحقًا.
يقترح القدّيس دوروثاوس تلاوة صلاة قلبيّة صامتة ومتّضعة، وهذه الصلاة ترفع من شأن الذي أهاننا. “يا رب أعِنْ أخي وأعِنّي بصلواته!”. حين يتوسّل الإنسان، بهذه الكلمات، من أجل أحد الإخوة، فهذا يدلّ على رأفة ومحبة، وإنّه لتواضع مِن قِبله أن يسأل الله العونَ بصلوات مَن أساء إليه. يقول القدّيس دوروثاوس: “حيث تكون الرأفة والمحبة والتواضع، كيف يمكن للغضب ولأيّ هوى آخر أن يسود؟“. ويستشهد بقولٍ لإفاغريوس الناسك: “مَن يصلّي من أجل أعدائه، لا يعرف الحقدَ البتّة“. الصلاة من أجل خير أعدائنا وخلاصهم هي الطريق الأضمن لشفائنا من السخط، ولتهيئة الأرضيّة للشفاء والسلام. ينهي القدّيس دوروثاوس رسالته بهذا الإرشاد الصلاتيّ: “ليعطِنا الله أن نتذكّر هذه الكلمات التي نحن سامعوها، وأن نحفظها ليوم المحاكمة، حتى لا تكون دينونة لنا“. يا قدّيس الله صلِّ من أجلنا.