خارطة المسير إلى عالم الله*
الأرشمندريت توما بيطار
يا إخوة، في هذا الإنجيل من لوقا، تُطرَح مسألة يوم السّبت. ربّما تعلمون أنّ اليهود، بعدما جرى سبيهم إلى بابل، حُرموا من الهيكل، الّذي كان محورَ عبادة إسرائيل لله، محورَ الحياة العباديّة عند اليهود. اليهود من دون هيكل كانوا كأنّهم بلا إله. لهذا السّبب، فيما كان اليهود في بلاد ما بين النّهرين، فيما كانوا مسبِيّين إلى بابل، ابتدعوا طرقًا، لتكون بمثابة تعويض عن الهيكل، وتمسّكوا بها تمسّكًا كاملاً.
ممّا ابتدعوه، هناك، مثلاً، ما يُسمّى بالمجامع. المجمع، كما نعرفه، هو المكان الّذي يلتقي فيه اليهود، لكي يصلّوا، ولكي يقرأوا من الشـّريعة والأنبياء، ولكي يفسّروا ما ورد في الكتب. والمجمع كان مثل بيت يلتقون فيه، عليه رئيس، وله خادم. اليهود، الّذين حُرموا من الصّعود إلى الهيكل، صاروا يتردّدون إلى مثلِ هذه البيوت، إلى هذه المجامع. طبعًا، هذه المجامع كانت عديدة. في أورشليم كان هناك هيكل واحد. أمّا في بابل، فكانت هناك مجامع عديدة.
بالإضافة إلى المجامع، تمسّك اليهود بإكرام يوم السّبت. وتمسّكوا بيوم السّبت إلى درجة أنّهم ابتدعوا أحكامًا ترتبط به، تعبيرًا عن غيرتهم على ما هو لله. ابتدعوا أحكامًا لم تكن لِتَرِدَ في ناموس موسى والأنبياء. كان الفرّيسيّون، بصورة خاصّة، هم الّذين اهتمّوا بهذه الأحكام. مثلاً، لم يكن مسموحًا لليهوديّ التّقيّ بأن يسافر، يوم السّبت. كان بإمكانه أن يتحرّك من نقطة إلى أخرى؛ لكن، ضمن ما يُسمّى بـ“مسافة سبت“. إذا كان يريد أن ينتقل من بيت إلى بيت، مثلاً؛ فهذا كان ممكنًا. مسافة السّبت كانت مسافة قصيرة، تقلّ عن النّصف كيلومتر. إذًا، كان ممنوعًا على اليهود أن يسافروا، يوم السّبت، لمسافات طويلة. أيضًا، في يوم السّبت، لم يكن مسموحًا لليهوديّ التّقيّ أن يُشعل نارًا، مثلاً؛ ولم يكن يحقّ له أن يعمل؛ وذلك لأنّهم اعتبروا أنّ الرّبّ الإله خلق السّموات والأرض في ستّة أيّام، واستراح في اليوم السّابع، الّذي هو يوم السّبت. إذًا، يوم السّبت كان يوم الرّاحة، بالنّسبة إلى اليهود، إجلالاً لله.
هكذا، قيّد اليهود أنفسهم بسلسلة أحكام، واعتبروا أنّ التّقوى تفترض أن يسلك الإنسان اليهوديّ وفق هذه الأحكام. طبعًا، طوّروا هذه الأحكام، شيئًا فشيئًا. لا ننسينّ أنّ اليهود ظلّوا في السّبي حوالَي سبعين عامًا. هذه الأحكام، وغيرها، لا علاقة لها بما ورد في الكتاب المقدّس، ولا علاقة لها بمقاصد الله. لهذا السّبب، الرّبّ يسوع كان، دائمًا، في حال صدام مع اليهود بشأن يوم السّبت. كانوا، دائمًا، يعيّرونه بأنّه يكسر أحكام يوم السّبت، ويفعل ما لا يحلّ فعله في يوم السّبت. وكان هو، في المقابل، يؤكّد لهم أنّهم، إنّ تصرّفوا بهذه الطّريقة، كانوا مُرائين. ما قصّة يوم السّبت؟!
قبل السّقوط، يوم السّبت عنى كمال الخليقة، لأنّ الرّبّ الإله كان قد خلق كلّ شيء، وكان كلّ شيء حسنًا. ماذا بقي للإنسان، بعدما أكمل الرّبّ الخليقة؟! بقي له أن يمجّد الله. إذًا، يوم السّبت، كان، عمليًّا، يومَ تمجيد الله، يومَ تسبيح الله، يومَ شكران الله على ما أعطاه؛ ومن ثمّ، يوم السّبت، بصورة خاصّة، كان يومَ صلاة. وبعدما سقط الإنسان، وصار عرضةً للألم، عرضةً للموت، وأصاب الخليقةَ العطبُ؛ صار يومُ السّبت، بالإضافة، طبعًا، إلى أنّه يومُ تمجيدِ الله وتسبيحِه وشكرانِه على كلّ شيء، صار هو يومَ ترميم خليقة الله؛ حتّى تستعيد كمالهاَ، بعد أن انثلمت، بعد أن انجرحت، بعد أن دخل عليها الفساد بسبب خطيئة آدم وحوّاء. كيف يمكن الإنسان أن يشارك في عمل التّرميم هذا؟! هنا، في الإنجيل، الّذي تُلي على مسامعكم، هذا التّرميم يتمّ بطريقتين: أوّلاً، بعمل المحبّة؛ وثانيًا، بمساعدة النّاس. عمليًّا، الكلّ يعود إلى أصل واحد، وهو عمل الرّحمة. يوم السّبت أصبح، إذًا، يومَ تمجيد الله، ويومَ الرّحمة، في آن معًا. ومن ثمّ، الإنسان، إذا ما استزاد من عمل الرّحمة، إذا ما استزاد من عمل الصّلاة، إذا ما استزاد من شكران الله وتسبيحه وتمجيده؛ يكون، فعلاً، في صدد معاونة الله على ترميم الخليقة، حتّى تستعيد الخليقةُ بهاءها الأوّل. إذًا، بالحبّ، في الحقيقة، تستعيد الخليقة بهاءها. لهذا السّبب، كان اليهود يتكلّمون على أحكام جامدة على كلّ واحد أن يسلك فيها، فيما كان يسوع يتكلّم لغةً أخرى مختلفة، تمامًا! مثلاً، قال لهم في شأن الإنسان الّذي كانت يده يابسة: “أسألكم شيئًا: هل عمل الخير يحلّ في السّبت، أو عمل الشـّرّ؟! أن تُخلَّص نفس أو أن تُهلَك؟!”. طبعًا، لم يكن عندهم جواب، لأنّهم كانوا ينظرون إلى يوم السّبت نظرتهم إلى فرض من الفروض؛ فيما كان الرّبّ يسوع يؤكّد أنّ السّبت هو سبت الرّحمة، سبت المحبّة، سبت الخلاص، سبت التّوبة، سبت إعانة الإنسان على استعادة موقعه لدى الله. إذًا، كلّ ما يمكن أن يعيد الإنسان إلى الله، هذا كان السّبت رمزًا له. لهذا، قال الرّبّ يسوع: “السّبت هو للإنسان“! هو لخلاص الإنسان، هو لإعادة الإنسان، هو لسيادة المحبّة بين النّاس! والحقيقة أنّ اليهود ما كانوا مستعدّين لأن يقبلوا ما كان يعرضه الرّبّ يسوع. في نهاية المطاف، كان كسْرُ أحكام السّبت سببًا أساسيًّا من أسباب سعي اليهود للتّخلّص من يسوع، إلى أن تمكّنوا، أخيرًا، من تسليمه إلى الأمم، والحكـْمِ عليه بالصّلب.
هذا الّذي قلناه يفترض أنّ الكلّ ينطلق من الوصيّتين، اللّتين عبّر عنهما يسوع باعتبارهما أعظم الوصايا. الوصيّة الأولى: “أحبّ الرّبّ إلهك من كلّ قلبك، ومن كلّ نفسك، ومن كلّ قدرتك“، والوصيّة الثّانية: “أحبّ قريبك كنفسك” (لو10: 27). إذًا، يوم السّبت، عمليًّا، يشير إلى هذه المحبّة، الّتي علينا أن نتعاطاها فيما بيننا إلى الحدّ الأقصى، الّذي هو أن يحبّ الإنسان قريبه كنفسه! طبعًا، الكلام على القريب يعني أنّ الإنسان لا يهتمّ بأقربائه من جهة اللّحم والدّم؛ بل يسعى، بمحبّته، بعمل الرّحمة الّذي يتعاطاه، لأن يُكوّن لنفسه أقرباء، في هذا العالم. كلّ واحد منّا يصنع أقرباءه، في هذه الدّنيا. إذًا، القول “أحبّ قريبك كنفسك” يعني أنّ عليك أن تحبّ الغريب، وأن تحبّه كنفسك، وكلّ ما تريده لنفسك عليك أن تعمله له! “كلّ ما تريدون أن يفعل النّاس بكم افعلوا هكذا أنتم، أيضًا، بهم” (متّى7: 12)، والمقصود بالنّاس هو النّاس الغرباء! إذًا، الإنسان عليه أن يخرج من قبليّته، عليه أن يخرج من قوقعته، من أنانيّته الفرديّة والجماعيّة؛ لكي يكون منفتـِحًا، بصورة خاصّة، على الغريب. والحقيقة أنّ الرّبّ يسوع أتى كغريب. ونحن، بالنّسبة إليه، كنّا غرباء، لأنّنا كنّا في الخطيئة: “الجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله” (رو3: 23)؛ ومع ذلك، عامَلَنا باعتبارنا أقرباءه، حتّى إنّه سمّانا “إخوته“: “لا أدعوكم، بعد، عبيدًا؛ بل إخوة” (يو15: 15)! هو جعلنا أقرباءه! وهو فعل ذلك، لكي يعطينا ذاته مثلاً؛ حتّى، كما عامَلَنا، يعامل أحدُنا الآخرَ، في يوم السّبت، الّذي هو هذا الزّمن، ما دمنا على قيد الحياة، هنا، على الأرض. إذًا، السّبت، بهذا المعنى، هو فسحة العمر، الّتي علينا أن نتعاطى فيها المحبّة فيما بيننا.
وماذا عن محبّة الله؟! في العهد القديم، بلغ الإنسان يوم السّبت، الّذي هو خاتمة الخليقة. وبعد يوم السّبت، كان يبدأ، من جديد، يوم الأحد، الّذي هو اليوم الأوّل من الأسبوع. إذًا، هناك شيء يتكرّر. الزّمن يتكرّر، نحن نعلم ذلك. الشـّمس تشرق، ثمّ تغيب، ثمّ تشرق من جديد، ثمّ تغيب من جديد، وهكذا دواليك. هذا هو الزّمن، في هذه الخليقة. لكنّ الجديد، الّذي طرأ، هو تَجَسُّدُ ابن الله. الرّبّ يسوع، بتجسّده؛ ومن ثمّ، بما علّمه، وبمحبّته الّتي سكبها على النّاس؛ وبعد ذلك، بصلبه، وقيامته، وصعوده إلى السّماء، وإرساله الرّوح القدس؛ أدخـَلَنا، عمليًّا، في زمن جديد! لم نعد أسرى للزّمن الأوّل، الّذي كان إلى الرّبّ يسوع. إلى الرّبّ يسوع، الزّمن كان دائريًّا، كانت الأمور تعود وتتكرّر، وقد كتب كاتب سـِفـْر “الجامعة“، معبِّرًا عن ذلك بقوله: “لا جديد تحت الشـّمس. الكلّ باطل” (جا1: 9؛ 1: 2)؛ وكأنّه، في نهاية المطاف، يقول إنّ الإنسان يحتاج إلى أكثر من هذه الحركة الدّائريّة؛ يحتاج إلى أكثر من الدّوران في ما هو لهذه الخليقة، وفي ما هو لهذه الأرض. بطريقة غير مباشرة، كان يشتاق إلى الحياة الأبديّة. وهذا، بالضّبط، هو ما أتى به الرّبّ يسوع. الرّبّ يسوع أتانا بزمن جديد، نعيش فيه إلى حياة أبديّة. لهذا السّبب، نحن اعتمدنا باسم الآب والابن والرّوح القدس؛ وأُدخلنا في حياة جديدة! نحن وُلدنا، من جديد، بالماء والرّوح. وما دمنا وُلدنا من جديد، فهذه الولادة لها مقوّماتها، لها عالمها، لها زمنها. هذا هو الزّمن الجديد. إذًا، نحن نعيش في زمن عتيق، وفي زمن جديد. في الزّمن العتيق، نحن معرَّضون لِما هو من هذه الأرض. لكن، بحسب الزّمن الجديد، نحن ننمو، إلى ما لا نهاية، في معرفة الله، في محبّة الله، في عشرة الله، في عالم الله، في نور الله.
إذًا، هناك أمران، بتنا، نحن المؤمنين بالرّبّ يسوع، نشترك فيهما. وهذا ما عبّرت عنه الكنيسة بالحديث عن اليوم الثّامن. يوم الأحد، بالنّسبة إلى اليهود، كان اليوم الأوّل من الأسبوع. أمّا بالنّسبة إلى المؤمنين بالرّبّ يسوع، فقد صار يوم الأحد هو اليوم الأوّل واليوم الثّامن، في آن معًا. هو اليوم الأوّل، لأنّ الرّبّ يسوع قام في ذلك اليوم، وقيامته من بين الأموات هي بدء حياتنا على الأرض لا على أساس الخليقة الأولى، الّتي كانت بآدم وحوّاء؛ بل على أساس الخليقة الجديدة الّتي صارت بآدمَ الجديد – الرّبِّ يسوع المسيح. إذًا، نحن لا نسلك في الزّمن الأرضيّ كما كان يسلك الّذين جاؤوا من قَبْلـِنا، كما يسلك الّذين لا يؤمنون! بل نحن نجعل مسلكنا، على هذه الأرض، للرّبّ الإله، بالكامل. لهذا السّبب، حين نقرأ، مثلاً، الرّسول بولس، نقرأه يقول لنا: “إن عشنا فللرّبّ نعيش؛ وإن متنا فللرّبّ نموت؛ فإن عشنا وإن متنا فللرّبّ نحن” (رو14: 8). من هنا، حياتنا على الأرض أصبحت، بكلّ بساطة، تعبيرًا عن إيماننا بالرّبّ يسوع؛ تعبيرًا عن محبّتنا للرّبّ يسوع؛ شهادةً للرّبّ يسوع. كلّ ما نفعله، مهما كان، إنّما نفعله، بحسب الرّسول بولس، لأجل الرّبّ يسوع. الإنسان لا يعيش لنفسه، ولا يموت لنفسه، ولا يعيش لأحدٍ آخر، غير يسوع، في هذا العالم، ولا يموت لأجل غيره، أبدًا! الإنسان، في هذا الدّهر، يعيش ويموت من أجل يسوع! طبعًا، هو يفعل ذلك، ويحمل في ذهنه أنّ حياته، هنا، على الأرض، تأتي من باب الإعداد للحياة الأبديّة. نحن هنا، لنُعدّ أنفسنا للحياة الأبديّة. نحن نعيش في الحياة الأبديّة، عمليًّا، منذ الآن. لكنّ هذا المسير في الحياة الأبديّة يكتمل بالموت. بالموت، يكون الإنسان قد أعدّ نفسه بالكامل؛ يكون، عمليًّا، قد استقرّ في أورشليم السّمويّة. العبور، الّذي عبره اليهود من مصر إلى أرض الميعاد، نحن، المؤمنين، نعبره روحيًّا من الأرض إلى السّماء. لذلك، حياتنا على الأرض هي، عمليًّا، عبور في صحراء هذا العمر. يعبر الإنسان عبورًا؛ لذلك، لا يقيم في مكان ما في هذا العمر؛ لا يقيم في مكان ما في الصّحراء؛ لأنّ وجهة سيره هي أورشليم، وأورشليم العلويّة. لهذا السّبب، يقول لنا الرّسول بولس، بوضوح: “ليست لنا ههنا مدينة باقية، بل نطلب الآتية” (عب13: 14). نحن نعبر، هنا، عبورًا. وما دمنا نعبر، في برّيّة هذا العمر، عبورًا؛ فإنّنا نستعمل ما نحتاج إليه في هذا العمر، ونترك الباقي. وهذا، أيضًا، عبّر عنه الرّسول بولس بالقول: “إن كان لنا قوت وكسوة، في هذا الدّهر؛ فلنكتفِ بهما” (1تيمو6: 8). نحن لسنا في حاجة، هنا، إلى أكثر من أن نسدّ حاجتنا، إلى قليل من الطّعام، قليل من الشـّراب، بعض اللّباس، بعض الأمور الأساسيّة هنا وهناك. لكن، الهمّ الأساسيّ ليس هنا، ولا يجوز أن يكون هنا! لا يجوز أن يكون همُّنا جمعَ المال، مثلاً، أو جمعَ المقتنيات، أو جمعَ الأرزاق… هذا كلّه لا ينفع! هذا سمّاه الرّبّ يسوع، في مثل الغنيّ، “غباءً“. الإنسان الّذي يجمع في الصّحراء يضيّع وقته، ويجمع باطلاً؛ لأنّه ذاهب إلى أورشليم. الكلّ ينبغي أن يصبّ هناك. نأخذ معنا كلّ ما نحتاج إليه في أورشليم. أمّا في الصّحراء، فنستعمل ما نستعمله، ونترك الباقي، ونسير! وما نحتاج إليه في أورشليم السّمويّة، في أورشليم العلويّة، هو أن نترسّخ في الحبّ، لأنّ الله محبّة؛ أن نترسّخ في الاتّضاع، لأنّ معلّمنا متّضِع؛ أن نترسّخ في الوداعة، لأنّ معلّمنا وديع؛ أن نترسّخ في الرّحمة، لأنّ إلهنا رحيم؛ أن نترسّخ في كلّ هذه الفضائل الّتي نماثل بها الرّبَّ الإله. هذا ما علينا أن نتزوّد به. إذا كان علينا أن نحمل حِملاً على أكتافنا، فينبغي أن يكون هذا الحـِمل حملاً روحيًّا بهذا المعنى. هذا الحـِمل يحمله الإنسان، في الحقيقة، في قلبه. وكلّه يُختَصَر بكلمة واحدة: نقاوة القلب. علينا أن نسعى، دائمًا، لتنقية قلوبنا؛ لأنّ ما يقابل نقاوة القلب هو سكنى الله فينا. بكلام آخر، كلّ المحبّة تصير فينا، كلّ الرّحمة تصير فينا، كلّ العطف يصير فينا!… هذا هو حال القدّيسين! القدّيسون هم آنية إلهيّة، ممتلئة من هذه البركات الإلهيّة، من هذه الحضرة الإلهيّة، من هذا النّور الإلهيّ. إذًا، نحن نتعب هنا، لا فقط من أجل أن نأكل، وأن نشرب، وأن نقتني بيوتًا… هذا لا بدّ منه، إلى حدّ ما. لا بدّ لنا من أن نفعل شيئًا من هذا. لكنّ الأساس هو، بالضّبط، أن نتزوّد بكلّ ما نحتاج إليه في الملكوت. لهذا السّبب، الرّبّ يسوع، في الموعظة على الجبل، كان يقول: “لا تكنزوا لكم كنوزًا على الأرض، حيث يفسد السّوس والصّدأ، وحيث ينقب السّارقون ويسرقون؛ بل اكنزوا لكم كنوزًا في السّماء، حيث لا يفسد السّوس، ولا ينقب السّارقون ويسرقون” (متّى6: 19- 20). ماذا بإمكان الإنسان أن يكنز في الملكوت؟! الإنسان يكنز في الملكوت وللملكوت هذه الكنوز الرّوحيّة، هذه العطايا الرّوحيّة، الّتي تكلّمت عليها. وهذا كلّه، إذًا، موضوع تحت علامة يوم الأحد.
إذًا، يوم الأحد هو اليوم الأوّل؛ لأنّي أحيا، هنا، على الأرض، في نور وصايا الله. لكن، أنا أفعل ذلك لأنّي، عمليًّا، في حال صعود دائم، بلوغًا إلى اليوم الثّامن الّذي أحياه، في الحقيقة، منذ الآن! لكنّ ملءَ هذا الزّمن، ملءَ اليوم الثّامن، ملءَ زمن الملكوت يأتي، حين يبلغ الإنسانُ نهايةَ مرحلةِ عمره على هذه الأرض. إذ ذاك، يصير الإنسان في ملء اليوم الثّامن، يصير الإنسان في ملء الزّمن الجديد، يصير الإنسان في عالم النّور، في عالم الله. المسير هو هذا! هذه هي الخارطة! إذًا، نحن نحيا، في الحقيقة، لا، بعدُ، على أساس ما هو لهذا الدّهر وحسْب، بل نحن قد انتقلنا من السّبت إلى الأحد. طبعًا، الأحد لا يزال يتضمّن تمجيد الله على كلّ شيء، ولا يزال يتضمّن عمل الرّحمة والمحبّة للآخرين! لكنّنا، في الحقيقة، نحن لا نتوقّف عند حدود الآخر. نحن نعبر، من خلال الآخر، لنبلغ إلى وجه الله. الآخر ليس، أبدًا، غاية في حدّ ذاته! نحن نحبّه، لأنّ الرّبّ الإله جعل طريقنا إليه تمرّ بالإخوة. لهذا السّبب، نحن نحبّهم، ولا بدّ لنا من أن نحبّهم. لكن، نحن لا نتوقّف عندهم! نحن نعبر من خلالهم، لنصل إلى وجه الله. وقد أدرك، في الحقيقة، الرّهبانُ النّسّاكُ، قديمًا، هذا الأمر جيّدًا، حين قالوا قولاً يبدو، للوهلة الأولى، غريبًا. قالوا: “الغربة أهمّ من الغرباء“. وكانوا يقصدون بالغربة الغربةَ عن كلّ ما هو في هذه الدّنيا. طبعًا، نحن نحبّ النّاس، نحن نحبّ الغرباء، نحن نحبّ كلّ النّاس؛ لكن، في آن معًا، نجعل بيننا وبينهم مسافة؛ نختار هذه الغربة، لأنّ الرّبّ الإله يأتينا، عمليًّا، كغريب. حين نتحرّر من ثقل ذواتنا، ومن ثقل أهوائنا، ومن ثقل ما هو من هذا الدّهر، وننطلق إلى وجه الله في هذه الغربة الكاملة عمّا هو لنا كبشر، وعمّا هو في عالمنا؛ إذ ذاك، في هذه الغربة، في هذه العتمة الكاملة، ينبلج نور الله لنا؛ لندخل فيه! وهو نور يفوق ضياءً كلّ ما في هذا الدّهر من أنوار. إذًا، “وجهك، يا ربّ، أنا ألتمس” (مز27: 8).
آمين.
* عظة حول لو6: 1- 10 في السّبت 15 تشرين الأوّل 2011