المحبّة الحقيقيّة*
اﻷرشمندريت توما بيطار
يا إخوة، تعلمون أنّ إحدى الوصايا العشر، قديمًا، كانت “أَكرِم أباك وأمّك” (مر10: 19). الرّبّ يسوع، في إنجيل اليوم، لا يتكلّم على إكرام الأب والأمّ، بل يتكلّم على شيء آخر. “مَن أحبّ أبًا أو أمًّا أكثر منّي، فلا يستحقّني“. في كلّ حال، على الإنسان أن يُكرم والديه. لكنّ المحبّة، هنا، لها معنًى آخر.
إذا كان الإنسان يحبّ أبوَيْه، فهذا معناه أنّ عليه أن يطيعهما. المحبّة تعبّر عن نفسها بالطّاعة. الّذي أطيعه هو الّذي أحبّه. لهذا السّبب، حين كان الرّبّ يسوع يعلّم، وجاءت أمّه وإخوته، وقيل له: “أمّك وإخوتك في الخارج“، قال لهم: “مَن أمّي وإخوتي؟! الّذي يسمع كلام الله هو أخي، وأختي، وأمّي” (مر3: 31- 35). “الّذي يسمع” بمعنى الّذي يطيع. نحن، وفق الوصيّة الّتي يُسلمنا إيّاها الرّبّ يسوع، لا يليق بنا أن نطيع أحدًا، في الدّنيا، أكثر من الرّبّ يسوع. لذلك قيل: “ينبغي أن يُطاع الله، لا النّاس” (أع5: 29). محبّة النّاس بصورة عامّة، ومحبّة الوالدَين بصورة خاصّة، ينبغي أن تنبعا من محبتّنا لله. نطيع الله، نحبّه؛ ومن هذه الطّاعة وهذه المحبّة تنبع محبّتنا لكلّ النّاس. لهذا، الوصيّة الأولى كانت: “أَحِبَّ الرّبّ إلهك من كلّ قلبك، ومن كلّ نفسك، ومن كلّ قدرتك“، والوصيّة الثّانية، الّتي أتت بعدها، والّتي يُفترَض أن تخرج منها هي: “أَحِبَّ قريبك كنفسك” (مر12: 30- 31). إذا لم يحبّ الإنسان اللهَ من كلّ القلب، ومن كلّ النّفس، ومن كلّ القدرة؛ فلا معنى، أبدًا، لمحبّته لقريبه؛ ولا يستطيع، أبدًا، أن يحبّ قريبه محبّة حقيقيّة. يكون موهومًا، إذا تكلّم على محبّة يتعاطاها مع النّاس. إذًا، لكي تستقيم الأمور ينبغي أن تبدأ بمحبّتنا الكاملة لله، بسعينا الكامل لمحبّة الله، بسعينا الكامل لطاعة الله.
وإذا تكلّمنا على الطّاعة، كان هذا معناه أنّ علينا أن نعرف الوصايا؛ لأنّ الطّاعة تكون بمعرفة الوصايا، وبالسّلوك فيها. لهذا السّبب، قال الرّبّ يسوع: “مَن يحبّني، يسمع كلامي” (يو14: 23). “يسمع كلامي” بمعنى أنّه يتعلّم وصاياي؛ ومن ثمّ، يسلك فيها، يعيش بحسبها. أحيانًا كثيرة، الآباء والأمّهات، والنّاس عمومًا، قد يطلبون منّا أشياء لا يرضى عنها الله. مثلاً، إذا طلب منّي أبي أن أكذب، أيجوز لي أن أكذب؟! لا، أبدًا! لماذا؟! لأنّ الله ينهى عن الكذب. وإذا طلبت منّي أمّي، مثلاً، أن أسرق، أأسرق؟! لا، أبدًا؛ لأنّ الرّبّ يسوع ينهى عن السّرقة. إذًا، علاقتي بوالدَيَّ، وعلاقتي بالنّاس عمومًا، لا يمكن أن تستقيم، إلاّ إذا كنتُ سالكًا في محبّة الله، إلاّ إذا كنتُ مطيعًا لله، إلاّ إذا كنتُ سالكًا في وصاياه. وما يسمّيه النّاس، في العادة، “محبّة“، إذا لم يكن في إطار هذه المحبّة لله الّتي وصفتها؛ فإنّه لا يكون محبّة، أبدًا. حتّى لو قال الزّوج إنّه يحبّ زوجته، مثلاً؛ أو إذا قالت الزّوجة إنّها تحبّ زوجها؛ أو إذا قال الأهلون إنّهم يحبّون أولادهم؛ لا تكون محبّتهم، في الحقيقة، محبّةً، بكلّ معنى الكلمة، إذا كانت خالية من محبّتهم لله. ما نسمّيه، إذ ذاك، “محبّة” ما هو إلاّ محبّة لأنفسنا في الآخرين. الأهلون، مثلاً، في الكثير من الأحيان، يحبّون أولادهم بمعنى أنّهم يحبّون أنفسهم فيهم؛ لذلك، يريدون من أولادهم أن يتصرّفوا بطريقة معيّنة ترضيهم، وأن يعملوا ما يرضيهم، وأن يتخصّصوا، مثلاً، في الجامعات، في الموادّ الّتي ترضيهم. الأهلون، إذ ذاك، تحت ستار المحبّة، يسيطرون على أولادهم، يتملّكون عليهم. وهذه ليست محبّة، أبدًا! على العكس، هذه المحبّة مزيّفَة؛ وهي، في العادة، تأسر الأولاد، وتأسر النّاس عمومًا. الّذي أتوقّع منه أن يرضيني في كلّ أمر؛ فهذا، أوّلاً، لا أحبّه في ذاته؛ وثانيًا، أكون في سعيﹴ لأسره لذاتي، أعمل على أسره لنفسي! المحبّة الحقيقيّة تحرّر. إذا ما قيل، مرّاتٍ كثيرة، “أولادكم ليسوا لكم“؛ فهذا صحيح! عمليًّا، الكلّ هو لله، ونحن ليس لنا شيء، على الإطلاق. فإذا تعلّم الإنسان أن يحبّ الله في كلّ إنسان آخر، إذا تعلّم الإنسان أن يحبّ الله في كلّ أمر: في عمله، في خدمته، في اهتمامه بالنّاس… إذا كان همّه، أوّلاً وأخيرًا، أن يقدّم الله على كلّ شيء آخر، أن يقدّم مجد الله على مجده هو، إذا كان مستعـِدًّا لأن يَمّحي من أجل أن يَظهر اللهُ في هذه العلاقة، أو في هذه المحبّة للآخرين؛ إذ ذاك، تكون محبّته محبّة أصيلة؛ وإذ ذاك، تكون علاقته بالآخرين علاقة أصيلة. غير صحيح أنّ القرابة بين النّاس تكون قرابة طبيعيّة، أي بحسب الدّم. هذه لا قيمة لها، أبدًا. قريبي ليس مَن ينتمي إليّ بالدّم. قريبي هو مَن أصنعه أنا بنفسي! أنا أجعله قريبًا لي! قد يكون بعيدًا جدًّا عنّي! قد أكون لا أعرفه! لكن، إذا التقيتُه، إذا التقيتُ إنسانًا غريبًا، إنسانًا في الشـّارع، وتحرّك قلبي تجاهه، وكان يمسك بيده، مثلاً، وصفةً طبّيّة، ويبدو أنّه لا يملك مالاً ليشتري الدّواء الّذي يحتاج إليه؛ إذا تحرّكتُ أنا، وتصرّفتُ باعتبار أنّي قريب لهذا الإنسان، قريب إليه بالمسيح، لا بالدّم؛ إذا تكلّمتُ إليه، إذا أخذتُه واشتريتُ له الدّواء، مثلاً، بكلّ نيّة صافية، بكلّ استقامة قلب؛ فإنّي، إذ ذاك، أكون قد اكتسبتُ قريبًا! أكون قد صنعتُ قريبًا لنفسي! قد تقولون لي: “لكنّ النّاس يكذبون، ويمثّلون؛ وإذا كنتُ أنا لأَِتصرّف بهذه الطّريقة؛ فقد أكون ساذجًا“. ربّما يكون الإنسان، أحيانًا، ساذجًا، إذا تصرّف بطريقة يُقدِم فيها على تبنّي حاجات الآخرين في المسيح، وعلى جعلهم أقرباء له. طبعًا، أنا لا أقول، أبدًا، بالضّرورة، إنّ علينا أن نصدّق كلّ ما نسمعه من الآخرين. إذا أُعطينا هذه السّذاجة النّابعة من طيبة القلب، وتصرّفنا ببساطة قلب، والتزمنا حتّى النّاسَ الّذين يكذبون علينا في حاجاتهم، ويدّعون أنّهم محتاجون، وهم ليسوا، بالضّرورة، محتاجين؛ إذا كنّا، ببساطة قلوبنا، نُقبل عليهم، ونعاملهم كأقرباء لنا؛ فمن جهتنا نحن، الرّبّ الإله يحسبنا قد جَعَلـْنا هؤلاء النّاس أقرباء لنا. أمّا هذا الإنسان نفسه، من جهة الله، فإنّه يكون كاذبًا، وسوف يُطالَب. في كلّ حال، على كلّ واحد منّا أن يعمل ما في استطاعته. قد يكون الإنسان، أحيانًا، حذِرًا، بعض الشـّيء؛ فلا بأس! لكن، إذا كان الإنسان لـِيكون حذِرًا بعض الشـّيء، فلا يليق به أن يُعرِض عن حاجات النّاس. طبعًا، بإمكاننا، دائمًا، أن نتذرّع بأنّ النّاس كسالى، أو يكذبون، أو ما إلى هنالك من ذرائع. هذا يعطّل، في الحقيقة، عمل الله في حياتنا. صحيح، ينبغي أن نميّز. لكن، علينا، في آن معًا، أن نكون منعطـِفين على النّاس، أن ننتبه للنّاس. أحيانًا كثيرة، قد نلتقي إنسانًا محتاجًا ونظنّه إنسانًا عاديًّا. لكنّ هذا الإنسان قد يكون مُرسَلاً من عند الله ليمتحننا. هذا حَدَثَ كثيرًا في سـِيَرِ القدّيسين. حين يقرأ الإنسان سـِيَرَ القدّيسين، يلتقي أقوامًا كثيرين، ويلاحظ أنّهم كانوا يلتقون سواهم، ويكونون مرسَلين من عند الله.
إذًا، علينا أن نكون منتبهين، علينا أن نكون حذِرين. على كلّ واحد منّا أن يفتح قلبه لله، أن يطلب من الرّبّ الإله أن يعطيه بصيرة حسنة؛ حتّى يميّز العلامات الإلهيّة، حتّى يتحرّك قلبه باتّجاه الّذين يشاء الرّبّ الإله له أن يعينهم، وأن يجعلهم أقرباء له. طبعًا، هذا الموضوع مرتبط بنقاوة القلب، مرتبط بالجـِدِّيـَّة في الحياة الرّوحيّة، مرتبط بالطّاعة العميقة للرّبّ الإله. إذا كان الإنسان ليكون، فعليًّا، بصورة عميقة، مطيعًا لله؛ فإنّ الرّبّ الإله يعطيه بصيرة حسنة؛ فيعرف أن يميّز، ويعرف أن يذهب مباشرة إلى القوم الّذين يشاء الرّبّ الإله له أن يذهب إليهم، وأن يعينهم، وأن يجعلهم أقرباء له. إذًا، هذه عمليّة لا نحسبنّها سهلة وبسيطة. هذه عمليّة تتطلّب جهدًا: تتطلّب، في الدّرجة الأولى، أن يتعاطى الإنسان وصيّة الله بجدّية كبيرة؛ وثانيًا، أن ينتبه لِما يجري معه، في كلّ يوم؛ حتّى لا يضيّع على نفسه فرصًا يحظى فيها ببركات عظيمة من عند الله. اسمعوا هذه القصّة. إنسان كان مسافرًا على فرسه؛ وفي الطّريق، التقى فجأةً إنسانًا مُلقًى على الأرض وكأنّه ميت. فتوقّف على الفور، ونزل عن حصانه، واقترب من الإنسان الّذي كان مطروحًا أرضًا، فرآه ميتًا. وكان هذا الإنسان عريانًا. يبدو أنّ اللّصوص نالوا منه، وجرّدوه من ثيابه. الثّياب، في تلك الأيّام، كانت لها قيمة أكثر ممّا لها اليوم. فماذا فعل؟! أخذ رداءه، وغطّى به هذا الإنسان الميت، ثمّ تابع طريقه إلى بيته. ومضى عليه أسبوع. وذات يوم، كان يعمل في حديقته، فإذا به، وهو يعمل، يُصاب بوخز شوكة في رجله. أحسّ بها، لكنّه لم يُعـِرها أيّ اهتمام. في اليوم التّالي، تورّمت رجله، وأخذت الأمور تتفاقم، بالنّسبة إليه. ذهب إلى الطّبيب، فلم ينفعه في شيء. أعطاه أن يجعل عليها زيتًا وبعض الأعشاب، لكنّه لم ينتفع. وما إن مرّ أسبوعان على الحادث حتّى حكم الأطبّاء بضرورة قَطـْع الرِّجل، وإلاّ يُصاب هذا الإنسان بـ“الغرغرينة“، أي “الأُكال“؛ لأنّ العظم كان قد أُصيب. وقرّر الأطبّاء أن يأتوا في اليوم التّالي ليقطعوا رِجله. في تلك اللّيلة، لم ينم هذا الإنسان؛ لأنّه كان يبكي، ويصلّي، ويسترحم الله، قائلاً: “أعنّي يا ألله! إذا فقدتُ رِجلي، فقدتُ عملي؛ وإذا فقدتُ عملي، فكيف سأعيل عائلتي؟!”. وقد بكى كثيرًا. ثمّ، من التّعب، غفا. وفجأة، حضره، في الحلم، إنسانٌ، واقترب منه، فيما كان هو يئنّ من الألم لأنّ رِجله كانت تؤلمه. اقترب منه، وقال له: “يا هذا، قم!”، فتطلّع، وهو في الحلم، في وجه هذا الإنسان، وقال له: “كيف أقوم من سريري وأنا متألّم؟!”، فقال له: “انظر في وجهي جيّدًا!”، فتطلّع فيه، فقال له: “أما عرفتني؟!”، فأجابه: “لا“، قال له: “أتذكر ذاك الإنسان الّذي مررتَ به، وكان ميتًا على قارعة الطّريق، وغطّيته بردائك؟! ذاك الإنسان هو أنا. وقد أرسلني الرّبّ الإله إليك لكي تُشفى رِجلك“. ثمّ اقترب إليه، ومسّ رِجله. وصحا هذا الإنسان من النّوم؛ فشعر بأنّ رِجله كانت في حال جيّدة. حاول أن يحرّكها، فتحرّكت؛ فقام من سريره، مشى قليلاً هنا وهناك؛ ففرح فرحًا عظيمًا! شعر بأنّه قد شـُفي فعلاً من مصيبته. ثمّ، في الصّباح الباكر، نزل إلى عمله كأنّ شيئًا لم يكن، وكان الأطبّاء قد جاؤوا وهم يرومون أن يقطعوا رِجله؛ فوجدوه قد شـُفي تمامًا.
أخبركم هذه القصّة لأقول لكم إنّ أحدًا منّا لا يعلم ماذا ينتظره كلّ يوم، وكيف يمتحنه الرّبّ الإله كلّ يوم. لذلك، علينا، دائمًا، أن ننتبه؛ لكي نتعلّم كيف نكون شفّافين، وحسّاسين لوصيّة الله، وعمله، وروحه. فبقدر ما نقترب من الله، نقترب من النّاس؛ وبالمقدار عينه ننتبه لأمور لا ينتبه لها، في العادة، العاديّون من النّاس. هذا مهمّ جدًّا، لئلاّ يضيّع أحد منّا فرصًا يعطيه إيّاها الرّبّ الإله لكي يتبرّك، لكي يتقدّس. الله يروم، دائمًا، قداستنا. يشاء أن نتقدّس، يشاء أن نتبرّك. وهو يعطينا هذه الفرصة في كلّ حين، لا بل في كلّ لحظة، في الحقيقة! كلّ لحظة نمرّ بها هي لحظة لله! لحظة لنغتذي بها من نعمة الله، ومن حضوره، ومحبّته! الله يريد أن يعطينا نفسه بالكامل، بالكلّيّة. هو أعطى الرّوح القدس بلا حساب! لكن، علينا نحن أن ننتبه، دائمًا، لكي ننتفع من عطايا الله الّتي لا تُقدَّر. إذ ذاك، تكون محبّتنا لله محبّة أصيلة. وفي النّتيجة، تكون محبّتنا للآخرين محبّة أصيلة، أيضًا.
فمَن له أذنان للسّمع، فليسمع.
* عظة حول متّى10: 37- 42؛ 11: 1 في السّبت 10 أيلول 2011