الإيمان والثقافة بحسب اﻷب جورج فلوروفسكي
اﻷب أنطوان ملكي
من أبرز مقالات الأب فلوروفسكي واحدة عنوانها “الإيمان والثقافة“، وهي محطة مهمّة لا بدّ من التوقّف عندها خلال التعرّف على فكر هذا المعلّم. هذه المقالة كغيرها من مقالاته هي نتاج تحليل لاهوتي وفلسفي. فقد تبدو معالجة فلوروفسكي للثقافة في بعض الأحيان غامضة ومترددة لكن على القارئ ألاّ ينسى أن الأسئلة المطروحة هي ردود على الحركات الفلسفية التي أثّرت باللاهوت في الشرق والغرب. والمقالة المذكورة هي ردّ لاهوتي مشحوذ بالبحث الفلسفي. ما ينقص هذه المقالة لناحية وضوح تحديد الثقافة سببه إدراك فلوروفسكي للتحديات التي طرحتها الحضارة على الكنيسة منذ البدايات والرؤية الضرورية للردّ على هذه التحديات.
يظهر جلياً عدم ثقة فلوروفسكي بتيارين فلسفيين أساسيين كان لهما تأثيرهما على فهم الثقافة وقبولها. بالنسبة له، هذان التياران، وهما المثالية الألمانية والفلسفة الوضعية، أبطلا حرية الإنسان. فكلاهما ساهما في تقديم أساس ماورائي وبالتالي دائم للثقافة حَمَل الإمكانية على أن يحدّ أو يحذف الإبداع الفردي والسيادة الإلهية.
فيما المثالية الألمانية مثّلت عالم المُثُل الأفلاطوني الثابت والأبدي والذي يحفظ ماورائية الناموس الطبيعي، فإن الفلسفة الوضعيّة برفضها الماورائي والفائق، قدّمت الأساس للعلم لكي يصير قانونها الذي منه تأتي كل تعريفات الظواهر الاجتماعية والطبيعية. فبالنسبة للوضعيين، كما يعبّر عنهم أوغسط كانت (1798-1857) لقد حصل تغيّر تصاعدي في النظرة إلى التاريخ والحقيقة ويمكن اقتفاء أثره من اللاهوتي إلى الماورائي إلى الوضعي. فاللاهوت سعى إلى تفسير الظواهر الطبيعية بالإشارة إلى كائنات روحية بينما الماورائيات حوّلت هذه الكائنات إلى قوى وجواهر (جمع جوهر) تحمل النموذج المثالي لكل وجود. لذا يعبّر روبرت باك بأن الفكر الوضعي يحجز نفسه بالمعلومات المستخرجة من الاختبار ويرفض كل تفكّر متعالٍ، ماورائي أو مجرّد. فالمعلومات المقتطفة من الاختبار العلمي منها تُستَخرَج القوانين التي تحكم كل الظواهر.
في هذا رأى فلوروفسكي أن التيارين يخضِعان الإنسان وحريته لقوانين محددة. وهو إذ تعرّف جيداً إلى تأثير هذه التيارات على نظرية المعرفة وفلسفة العلم أكّد على استقلالية التخصصات التاريخية وانتقد بشكل حاد الافتراضات القطعية والمادية التي أُخِذَت من عالم العلوم الطبيعية وطُبِّقَت في المسائل الروحية والفكرية.
من جهة أخرى، يرد فلوروفسكي على المذهب العملي الذي، بحسب ديوي، هو النظرية التي تحدد عمليات المعرفة وموادها من خلال الاعتبارات العملية أو الهادفة، ما يعني استحالة تحديد المعرفة من خلال الاعتبارات النظرية أو التأمّلية والفكرية المجرّدة. إلى هذا، يشير ديوي إلى مساهمة داروين من خلال تركيزه على أفضلية التحوّل على الثبات وأفضلية الصيرورة على الكينونة. بالنسبة للعمليين ما من أشكال أبدية وما من قوانين ثابتة للطبيعة وما من بُنى اجتماعية أو ثقافية دائمة. في مختلف الأحوال، المعرفة بالنسبة للعمليين ينبغي تفحصها. هذا يؤدّي إلى وجوب التثبّت من الفرضية التي تنوقّع النتائج من خلال الاختبار العلمي. ولكن على خلاف الوضعيين، فإن الاختبار العلمي عند العمليين يشير إلى ما أسماه فلوروفسكي النسبية المنطقية. فبالنسبة للعمليين، حتّى عندما يقدّم الاختبار حلاً لمسألة اجتماعية ما فإن الحلّ ليس مطلقاً. على خلاف الوضعيين، لا يعطي العمليين الكلمة الأخيرة للاختبار العلمي لأن العلم والاختبار مستمران.
عرفت روسيا في مطلع القرن العشرين، عبر فلاسفتها الأكاديميين، تململاً ورفضاً لمختلف هذه المدارس الفلسفية وهذا الخط حمله معهم المهاجرون. فلوروفسكي كان من أوائل الذين علّموا في ضحد هذه التيارات. ففيما يتعلّق بالثقافة، رأى فلوروفسكي أن ليس لها أقنوم بذاتها وبالتالي لا تحمل أي علامات للثبات التاريخي والاجتماعي وبالتالي الماورائي. إن إصرار فلوروفسكي على حرية الشخص لم يتقدّم على الفلسفة والثقافة والإيديولوجيا الحتمية لا بل كان بمثابة ثورة عليها. فالظاهر أنه رأى الثبات في العلاقات الشخصية (περιχωρησις) بين أقانيم الثالوث وفي العلاقة اللامتناهية بين الإله والإنسان والتي تحققت في تجسّد الكلمة ونزول الروح القدس.
إن ما قدّمه فلوروفسكي في موضوع الإيمان والثقافة يقدّم تحدياً مستمراً للمسيحي الأرثوذكسي طالما أن دينامية العلاقة بين الإيمان والثقافة قائمة. الثابت في ما قدّمه فلوروفسكي هو التوتّر المبدِع أحياناً والمستَمَد من حضور الكنيسة في العالم، هذا التوتّر الذي يظهِر نفسه في كيفية استجابة الكنيسة للعالم. فالكنيسة الأرثوذكسية قدّمت موقفين وما زالت تقدمهما. الموقف الأول يلتزم العالم ويستعمل ثقافة العالم ليقدّم الإنجيل. ضمن هذا التوتّر البنّاء تطوّرت تدريجياً الثقافة والحضارة المسيحيتان. الموقف الثاني هو في التيارات التي ظهرت عبر تاريخ المسيحية وانسحبت من العالم معتبرة أن الثقافة لا تلائم كمال شخصية الإنسان وما هي إلا خرقة خارجية يحتاجها الإنسان في بعض المناسبات لكنها لا تنتمي إلى جوهر الوجود المسيحي.
إن أهم تحدٍ في تعليم فلوروفسكي هو الاعتراف بمسؤولية الكنيسة في الرد على تبدّل (mutability) الثقافة، رداً لاهوتياً من خلال إعلان حقيقة الإنجيل الثابتة والخلاصية في كل زمان بالشكل الذي يلائمه.