الغاية من وجود الإنسان– 2
من قناع الشخصية الاجتماعية المعاصرة إلى الشخص في المسيح عند القدّيس غريغوريوس بالاماس
الشيخ أفرام الفاتوبيذي
نقلتها إلى العربية رولا الحاج
تنقيح راهبات دير سيدة كفتون
الإنسان المعاصر وشخصيّته الإجتماعيّة
مهما تتغيّر الأزمنة سياسيًّا وثقافيًّا واجتماعيًّا، يبقى الناس في الجوهر على حالهم، وتبقى صورة الله فيهم متعذّر محوها وقد غلب عليها القتام. بعد سقوط آدم وحوّاء، أمسَت الخطيئة والأهواء الشرّيرة قيد المحاربة أو مسيطِرة على الانسان، وفقًا لحالة الناس بين متيقّظٍ محارب أو خاضع لغوايتها مسرع إلى إرضائها مشجّع لها. وأعني بهذه الأهواء حبّ اللذة، والمجون، والغرور، والكبرياء، والكراهية، والحقد، والغضب، والإنفعال، والإدانة، والطمع، والجشع، والشراهة، والنفاق. ومع ذلك، لم نلقَ في أيّ وقت من الأوقات قبولاً اجتماعيًّا وتشريعًا للخطيئة كما هو الحال في أيّامنا هذه.
لعلّ أهمّ إنعكاس للظروف الماضية هو ظهور “الفرد“. للمرّة الأولى في التاريخ، اكتسب الأفراد قيمتهم الخاصّة، وحقّهم الخاصّ بالوجود، واستقلالهم الخاصّ. وللمرّة الأولى، بلغوا هذا القدر من الأهميّة والشأن بحيث تفوّقوا على الجماعة، وعلى المجموع العامّ من المؤسّسات الوراثيّة والقيم الجماعيّة الثقافيّة، وبالطبع على الكنيسة1. كثيرون يدّعون أننا نعيش في مجتمع معاصر يتميّز بالتفكّك والتخمة ونسبيّة القيَم وغياب التعقّل ورفض الحياة الاجتماعيّة والرغبة المتشائمة في انتهاء التاريخ والعالم، بصرف النظر عن استقلاليّة الفرد الموروثة من روح الحداثة. كان الشعار الأساسيّ للحداثة جملة نيتشه المعروفة “الله مات“. ومع أننا قد نشهد “عودة إلى الله” في الحقبة المعاصرة، كما نشهد تجديدًا للعواطف الدينيّة وإحياءً لها، إلاّ أنّ شعارات مثل “عليك أن تتمتّع” و“كلّ شيء مسموح” هي التي تهيمن وتسود. ويظهر من خلال الأنظمة التوفيقيّة في الفلسفة والسياسة أوعلم الاجتماع والدين في أيّامنا أنّ الناس مجرّد وحدات بيولوجيّة لا أكثر. ففي هذه الحقبة وهذا والمجتمع المعاصر، يقتدي الناس بالنجم الإعلاميّ والممثّل، بينما كان العالِم هو القدوة في العصر الحديث، والقدّيس في العصور التقليديّة. كان محور جاذبيّة الإنسان في العصور التقليديّة الروح، وفي العصر الحديث والعقل ، وفي أيّامنا هذه الجسد. اليوم، يريد الإنسان المعاصر أن يكتسب المعلومات، بينما طلبَ الإنسان الحديث المعرفة، والإنسان التقليديّ الحكمة.
إنّ أخلاقيّات علم الأحياء الخاضعة للعولمة في أيّامنا والمعبّرة عن تنوّع غير أخلاقيّ معاصر هي من عمل أشخاص يعطون الصلاحيّات لأنفسهم، وهم فارغون، منغلقون بإحكام في غرورهم، عاشقون للمتعة ومتشائمون. ورغم دهائهم، فهم لا يعرفون ما هو الشخص، فلا استغلّوا إمكاناتهم الحقيقيّة التي تتجاوز إلى حدّ بعيد حدود الحياة على الأرض، ولا اكتشفوا الأبعاد الأبديّة التي تخصّنا وجوديًّا نحن البشر. لذا نلحظ من خلال هذه المقارنات الموجزة أنّ الناس اليوم في تخلُّف، وقد استخفّوا بقيمة حياتهم ومعناها. بكلام آخر، لقد اكتسب الناس اليوم قناعًا وهويّة شخصيّة اجتماعيّة شَرِسَين كلّ الشراسة. وإنّما التخلّص من هذا القناع وتحويله إلى وجه بشريّ يتطلّب جهادًا مريرًا.
وعلى الرغم من أنّ المسيحيّين الأرثوذكسيّين هم “غُرَبَاءَ وَنُزَلاَءَ“2 في هذا العالم، حتّى ولو أنّ “سِيرَتَهُم هِيَ فِي السَّمَاوَاتِ“3، فما زالوا يحيَون في العالم على مرّ التاريخ. لا يمكنهم أن يسخروا ممّا يحصل في المجالات السياسيّة والإجتماعيّة والثقافيّة، على النطاق العالميّ، لأنّ هذه الأمور كلّها تؤثّر على حياتهم. لهذا نرى أنّ الناس المستعبَدين للأهواء والمشوَّشين إزاء معنى الحياة في هذه الأيّام بحاجة أمسّ من قبل إلى التّحرّر من هذه الحالة الشاذّة والمقزّزة والهائجة.
التشديد على الشخص في التقليد الهدوئيّ النسكيّ
إنّ العلاج الموصوف من أجل استتباب حالتنا الطبيعيّة، حيث نستعيد ذلك “الجمال الأوّل والبعيد المنال“4، يكمن في“الخبرة الهدوئيّة” التي يشير إليها القدّيس غريغوريوس بالاماس كـ“فنّ الفنون“5. وتُدعى طريقة العيش بهدوء هذه “هدوئيّة“، “hesychasm” في مصطلح الآباء. ليست الهدوئيّة نزعة لاهوتيّة ظهرت في القرن الرابع عشر، مُتّخِذَةً القدّيس غريغوريوس بالاماس نصيرها الأساسيّ، بل هي الطريق التقليديّة للتّأله والقداسة6. تُحسَب الهدوئيّة جوهر التقليد الأرثوذكسيّ، وهو التقليد الذي يصون خبرة الروح القدس واستمراريّة العنصرة. فهذه الأخيرة تتوسّع تحت إشراف التقليد، ولكن تُعيقُها الشكليّات والمبادئ المحافظة عند مَن لا يعرفها.
ليس الرهبان والّذين ابتعدوا عن العالم وحدهم يَعيشون الهدوئيّة. فالهدوئيّة هي حالة داخليّة، إنها “سكنى متواصلة في الله ونقاوة الذهن“. الهدوئيّة هي الطريقة لظهور عالم القلب، أي مركز وجودنا الذي يمكن تسميته “الشخصَ” فينا. إنّها الطريقة الوحيدة التي تمكّن الناس أن يولَدوا روحيًّا من جديد، بحيث يبرز أقنومهم الشخصيّ. فمن دون هذا التدريب الهدوئيّ، لا معنى لعيش أسرار الكنيسة، لأنّه يمكن أن يقود إلى الهلاك بمقدار ما يؤول إلى الخلاص.
على الناس أن يتخلّصوا من الشخصيّة الاجتماعيّة اللابسة قناع الأهواء، ويصبحوا أشخاصًا ذات وجهٍ بشريّ. ويجب أن تصبح تنقية القلب من الأهواء أولويّتهم في الحياة. في هذا الجهاد، يجب ألاّ يحاولوا التزام مناقب خارجيّة، بل عليهم خوض الصراع بطريقة تتمحور حول المسيح، مركّزين أفكارهم عليه. فإذ يتطعّمون في جسد المسيح، أي الكنيسة، لا سيّما من خلال أسرار المعموديّة والإعتراف والإفخاريستيّا، يصبحون أقنومًا كنسيًّا7 – عمليًّا لم يصيروا أشخاصًا بعد – ويخوضون عمل التوبة بكلّ ما فيهم من إرادة. يشير القدّيس غريغوريوس بالاماس إلى أنّ التهيئة للتوبة والبدء بها هو اللوم الذاتيّ والإعتراف وتجنب الشّر8. ولتكتمل التوبة، يجب أن تجتمع هذه العناصر الثلاثة. إذا صلّى الناس بانسحاق ولوم ذاتيّ أمام الله ووعدوا بالامتناع عن الخطيئة، من غير أن يمارسوا سرّ الاعتراف، فتوبتهم وجهادهم باطلان. يشير القدّيس غريغوريوس إلى أنّ: “الّذين يخطئون أمام الله، مهما يمتنعوا بعد ذلك عن الخطيئة، ويوازوها بأعمال توبة، لا يشعروا بالمغفرة في نفوسهم إلاّ إذا قصدوا أحد الّذين أعطاهم الله سلطة لمغفرة الخطايا ونالوا منه الغفران“9. بهذه الطريقة، يخوضون “جهادًا شرعيًّا” وينتبهون إلى عدم تعزيز الأهواء عبر الخطايا الإراديّة أو الاستسلام للأفكار الشرّيرة، لأنّ الأهواء حركة غير طبيعيّة من حركات الروح. وعندما لا تعمل طاقات الروح، أي الرغبة والعاطفة والعقل، بشكل طبيعيّ بل بخلاف الطبيعة، تنمو الأهواء الموافقة لها. وتتمّ التنقية من هذه الأهواء بواسطة التمرّس على الفضائل المناسبة، ووفقًا لبالاماس، يبدأ الشفاء من الرغبة10. إذًا نضع حدودًا للرغبات بدلاً من الإستسلام للملذّات والجشع، ونطبّق المحبّة على مشاعرنا بدلاً من الخبث والغضب، واليقظة والصلاة على العقل بدلاً من قلّة الإنتباه والجهل11.
تنقية الأهواء من خلال الصلاة القلبيّة
يغذّي المؤمنون طاقتهم العقليّة بصلاة يسوع: “أيّها الربّ يسوع المسيح، إرحمني“. عندما يتعاقب اسم المسيح في ذهن المؤمن، يزوّدهم باستنارة إلهيّة فيميّزون الأفكار التي تحرّض على الخطيئة الطوعيّة ويكونون قادرين على قتلها منذ الولادة12، أي قبل أن تتخذ شكل صورٍ محرّضة. ذلك أنّ الأهواء، ما لم يتمّ تفعيلها، تموت تدريجيًّا بمؤازرة النعمة الإلهيّة، أو تتحوّل كما شرح بالاماس. عندما تبدأ عمليّة إماتة الأهواء أو تحوّلها، يؤول المؤمنون إلى حالة التأمّل، وهناك، عند “عرش النعمة، أي القلب“13، يكتشفون قوّة أخرى كامنة فيهم، قوّة المعرفة المباشرة14. ثمّ يحدث اتّحاد العقل بالقلب. ولعلّ ذهننا هو الموضوع الرئيسيّ في الأنثروبولوجيا النسكيّة، كما أنّ تمييزه هو الأصعب بالنسبة لغير الروحانيّين، أي الدنيويّن15. كثيرون من الآباء يحيطون الذهن بالوصف، ويحسبونه عمومًا قوّة الروح أو عينها. إلاّ أنّ القدّيس بالاماس يعرّف عن الذهن وعن وظائفه بطريقة فريدة دقيقة تكشف المكنونات، حيث إنّه يرى الذهنَ كمادّة مكتفئة ذاتيًّا وناشطة جدًّا16. والذهن يقصّر في وظيفته الأساسيّة وتذهب قيمتُه عندما ينحدّ بوظيفة الإدراك العقليّ، نتيجة الروح الدنيويّة المتمركزة في الدماغ17 الّتي تنشّطه. إنّ ذهننا له جوهر وطاقة. إنّ طاقة المعرفة المباشرة، المشتّتة نحو الخارج من خلال العواطف، والمختلطة في الدّاخل بالمنطق، يجب أن تعود إلى جوهر الذهن المتمركز في القلب، أي إلى العضو الجسديّ الأوّل18. وتتمّ هذه العودة بالصلاة.
عندما يواظب المسيحيّون في هذه الحالة على الصلاة من خلال التوبة، يرسل لهم الله موهبة الصلاة القلبيّة. وعندما يجد العقلُ القلبَ ويسكن فيه، كما لو أنّه موضع صلاة مريح، يمكننا القول إنّ الإنسان يصلّي مباشرةً، من القلب، بنقاءٍ– والمصطلحات متشابهة. عندما تنشط الصلاة في القلب بفعل قوّة الإدراك المباشر، يصبح المرء في حالة الصلاة غير المنقطعة، وبالتالي نطبّق وصيّة القدّيس بولس أن “نصلّي بلا انقطاع“19. فالّذين نالوا موهبة الصلاة غير المنقطعة يستطيعون تلاوة صلاة القلب، أي ذكر الربّ يسوع في القلب، أثناء القيام بأعمالهم مع الآخرين، أو العمل أو الدرس، وفي المبدأ يتابعون حياةً عاديّة وطبيعيّة. كما يمكن أيضًا أن يتمّ هذا الأمر في “العالم“. ويدلّ اكتشاف قوّة المعرفة المباشرة هذه على خبرة التواصل مع الله. فهذه القوّة هي الحبل السريّ الذي يصل المؤمن بالنعمة ويغذّيه روحيًّا.
ومع القوّة الملموسة للصلاة القلبيّة، يختبر الناس الهدوء الصفاء، ويبدأون يعيشون تحريرهم من الأهواء الشريرة، وهذه هي الحريّة الحقيقيّة. وتعزّز ذكرى الله الشوق الإلهيّ ومحبّة الإنسان لقريبه وتزيدهما. فكما يشدّد بالاماس في عظاته، محبّة الآخرين هي نتيجة محبّة الله، وإنّ فحص الذات الحقيقيّ يؤول إلى علاقات اجتماعيّة ملأى بالاتضاع والمودّة ويشجّعها. وفي حالة الاستنارة الدائمة والكاملة بعد فترة طويلة من الإنسحاب أو التواري وفقًا لتدبير الله في تدريبنا20– وهي أعظم استيعاب ممكن لموهبة النعمة الإلهيّة، تكتسب كلّ قُوانا الروحيّة والجسديّة وظيفتها الطبيعيّة، كما رسمها الله.
يختبر أشخاص كهؤلاء النعمة كالنور، كشعلة ناعمة في قلوبهم. ويسود السلام الرائع والعذوبة في أرواحهم وأجسادهم. إنّ الموقفان الأساسيّان في تعليم القدّيس غريغوريوس بالاماس، الذي رفض الأنثروبولوجيا والنظريّة الأفلاطونيّة الجديدة كما عبّر عنها برلعام، هما أنّ “الجسد تبنّى بطريقة ما النعمة الإلهيّة الناشطة في عقلنا“21 وأنّ “قوى الروح والجسد مشتركة“22. ويمنحهم النورُ غير المخلوق، الذي لم يشاهدوه بعد، معرفةً مذهلة23، أكيدة ولا يمكن دحضها، وغالبًا ما يكون فكرهم أسير “الرؤى” الرائعة مثل الكشف عن أسرار الله الفائقة24. وليس استنارة العقل نتيجة دراسة أو تعليمات، بل مشاركة شخصيّة في معرفة الله غير المخلوقة.
إنّ الّذين يجاهدون، ويستمرّون في توبتهم، ويعتمدون على صلاة يسوع النقيّة، يهيّئون قلوبهم ليتمكّنوا من تلقّي رؤيا النور غير المخلوق، و“قوّة الروح الإلهيّ… إلى حدّ توقّف كلّ نشاط ذهنيّ“25، حيث “يتأمّلون مجد طبيعتهم المقدّسة، متى وجدهم الله أهلاً لقبول الأسرار الروحيّة“26، كما حسب تعبير القدّيس بالاماس، وليس عندما يرغبون هم بها. ومع مشاهدة النور غير المخلوق، يختبر المسيحيّون حقيقة التألّه، أي مشاهدة الله المباشرة27، إلاّ أنّ هذه المشاهدة لا تنتهي، بل هي في تقدّم مستمرّ. لهذا السبب “مشاهدة الوميض شيء، فيما مشاهدة النور أمر آخر“28. وفقًا للقدّيس غريغوريوس بالاماس، إنّ التألّه أو تمجيد الإنسان أمر يتخطّى العقل البشريّ، ولا يمكن شرحه بطريقة منطقيّة، ولا يمكن وصفه حتّى من الّذين يختبرونه29. وليس جوهر الله الخالص وحده يتخطّى الفهم، بل أيضًا القوى غير المخلوقة، حتّى ولو شارك فيها الناس بطريقة ما.