الغاية من وجود الإنسان– 3
من قناع الشخصية الاجتماعية المعاصرة إلى الشخص في المسيح عند القدّيس غريغوريوس بالاماس
الشيخ أفرام الفاتوبيذي
نقلتها إلى العربية رولا الحاج
تنقيح راهبات دير سيدة كفتون
ضرورة الجهاد النسكيّ للّذين يعيشون في العالم
يجدر بنا أن نذكر هنا بعض إرشادات هذه المنارة الأرثوذكسيّة، وهي مأخوذة من عظتين لمناسبة عيد تجلّي المسيح. “علينا أن نؤمن، كما علّمنا أولئك الّذين أنارهم الله واختبروا هذه المسائل… بناءً على تعاليمهم، هيّا نمضي قدمًا نحو بريق ذلك النور“1. يتضح هنا أنّه يطلب منّا التقدّم نحو ذلك النور، يعني رؤيا النور غير المخلوق، “البهاء الذي من خلاله يتواصل الله والّذين يستحقّونه“2. هذه الرؤيا، التي هي خبرة النعمة الإلهيّة، ليست من الكماليّات في حياتنا، بل هي هدف وجودنا. إن استنفدنا قوانا على المستويات المتدنّية من الحياة الروحيّة ، حيث نبلغ علاقة مع الله لا تتعدّى العقل، نبقى في الأمور الخُلُقيّة والفكريّة. ويتابع بالاماس قائلاً: “عندما نحبّ جمال المجد الذي لا تشوبه شائبة، نطهّر بذلك بصيرة أرواحنا من الأفكار الدنيويّة، طاردين كلّ ما هو متعة وجمال غير دائمَين“3. “سوف ننزع أرديتنا الجلديّة، التي هي طريقة تفكيرنا الأرضيّة والدنيويّة، وسنقف على الأرض المقدّسة، أي الجهاد من أجل الطهارة وتوجيه نظرنا نحو الله. عندما نحصل على ضمانة كهذه، يأتي نور الله إلينا ونستنير ونصبح خالدين في مجد شمس الإله الثالوث وضيائه4. ومن جهة أخرى، إذا تابعنا نحو الطريق الرحبة، فمهما تبدو في البدء عذبة وجذّابة، إلاّ أنها تسبّب الألم الأبديّ لأنها تكسو الروح بأردية الخطيئة القبيحة“5. وإن لم نلبس أردية المجد الإلهيّ، لن نتمكّن من حضور “العرس السماويّ“، بل سوف نُساق إلى “النار والظلمة الخارجيّة“6.
ما يهمّ ذكرُه هو أنّ القدّيس غريغوريوس لم يلقِ بهذه المواعظ، الدّاعية إلى إزالة الأفكار الدنيويّة وتطهير القلب وتسديد خطواتنا نحو الله، لمجموعة من الرهبان، بل لأهل تسالونيكي، المتزوّجين وغير المتزوّجين، ليشير إلى أنّ هذه هي الطريق التي يجب أن نسلكها جميعًا لنبلغ “بالإحساس وبما يتجاوز الإحساس، النورَ الإلهيّ الفائق الوصف، غير المدرك، غير المادّيّ، وغير المخلوق، والمؤلِّه، والسرمديّ، ذا الطبيعة الإلهيّة، ومجد الألوهيّة، وروعة الملكوت السماويّ“7.
في حياة القدّيس غريغوريوس بالاماس أيضًا حادثة تتعلّق بما سبق وذكرناه مسبقًا. عندما كان في إسقيط فيريا Veria، دار حديث مشوّق بينه وبين ناسكٍ فاضل يُدعى أيّوب، في ما يخصّ ممارسة الصلاة القلبيّة للعائشين في العالم. وفيما حثَّ القدّيس المسيحيّين على تلاوة الصلاة بينما كان لأّيوب رأي آخر، إلى أن ظهر له ملاك الرّبّ وأكّد أنّ تعاليم غريغوريوس من وحي الله، وهي ضروريّة من أجل لاهوت الكنيسة الرعويّ8.
التألّه، هدف الوجود البشريّ
وفقًا للآباء، فإنّ التأله أو التمجيد ليس حدثًا روحيًّا، بل حالة وجوديّة. فالطبيعة الإنسانيّة المخلوقة متحّدة، و“معجونة“، بالله الثالوث، من خلال القوى المخلوقة ولكن ليس في الجوهر9. “كان التألّه، منذ البداية، رغبة الوجود البشريّ الباطنية. وعندما حاول آدم أن يختلسه عبر انتهاك وصيّة الله، فشل ووجد الإنحلال والموت بدلاً من طموحه. إلاّ أنّ محبّة الله، من خلال تجسّد ابنه، أعطتنا القدرة على التأله مجدّدًا“10.
الأشخاص الّذين لا يُسلّمون بتعليم القدّيس غريغوريوس بالاماس الهدوئيّ، في تعبيره عن التجربة الروحيّة الحقيقيّة الكامنة في الأرثوذكسيّة، أي الطريق لإيجاد الشخص في الإنسان، لا يُظهِرون وجهة نظر أرثوذكسيّة للكنيسة. فالهدوئيّة فعلٌ وليست جمود11. إنها حالة روحيّة داخليّة. في البدء، تتطلّب صراعًا مضنيًا مع الأهواء، ولكن يعقبه حياة روحيّة حقيقيّة واتّحاد بالمسيح في عالم القلب، حيث يبرز الإنسان، أي الأقنوم. عندئذ يقتني الناس صلاةً أقنوميّة، صلاة من أجل خلاص العالم بكامله، ويعيشون باتّحاد وحبّ بعضهم لبعض ولله، وذلك عبر “طمأنينة حقيقيّة” يصفها بالاماس بأنّها “الكمال ما بعد الكمال“12. وفي المرحلة الأخيرة من التألّه، الّذي “يتجاوز تعبير الكلام“، يتمتّعون ويشاركون في الغبطة الإلهيّة، براحة وسكون.
يعيش الناس اليوم حياتهم بحيث ليس من وقت للصلاة “ليكونوا هادئين ويعرفوا الله“13. فمع وسائل التواصل والتنقّل الحديث، يمكننا أن نكون في اتّصال مباشر مع كثيرين من الناس، وفي وقت أقلّ من قبل بكثير. نعرف كثيرين من الناس ونتواصل وإيّاهم، ولكننا في النهاية لا نعرف أنفسنا. وتُعزى خيبة الأمل هذه، وهذا الفراغ الوجوديّ، وهذه الوحدة التي يشعر بها الناس اليوم بشكل كبير إلى أنّنا نجهل كيف نصلّي، ولا نكرّس وقتًا للصلاة في النهار ولا في الليل. فوجودنا ينمو من خلال الصلاة، وبها نحتضن العالم بأسره. الصلاة مفقودة من العالم، ولهذا السبب هو الآن في حالة مثيرة للشفقة.
قيمة الإنسان
رغم أنّ الناس مخلوقون ومحدودون، يمكنهم أن يتواصلوا مع الله غير المخلوق وغير المحدود من خلال الصلاة. يتمكّن الناس المخلوقون، من خلال قوى الله غير المخلوقة، أن يحصلوا على غير المخلوق، على الحياة الإلهيّة، ليصبحوا مثل الله بالنعمة، ولكن ليس تمامًا في الجوهر. ويمكن لكلّ إنسان تحقيق هذا الاتّحاد، هذه العلاقة الشخصيّة مع الله، لأنه في شخص المسيح، اتّحدت الطبيعة الإلهيّة الكاملة بالطبيعة البشريّة الكاملة وغير القابلة للتجزئة وغير المختلطة أقنوميًّا. ونرى أنه كما قال الشيخ صوفروني المغبوط، فإنّ الله لا يعامل شعبه كأجسام أو عبيد، بل كأشخاص حقيقيّين14، لأنّه بين الله وبيننا تماثل15. يمكننا أن نصبح أشخاصًا، لأننا خُلقنا على صورة الكلمة الإلهيّة، أي المسيح، وهو شخصٌ. ولا يمكننا أن نصبح أشخاصًا وننزع “أقنعتنا الشنيعة“ إلاّ عندما نتّحد عمليًّا بالله الثالوث. فالكنيسة، في حالتها المواهبيّة، هي شركة أشخاص حقيقيّين أزليّين.
إنّ اللاهوت الإختباريّ يشير إلى الطريق التي يجب أن نتبعها لنجد الشخص الحقيقيّ، ويصونها، وهو ما لا يمكن للاّهوت الأكاديميّ القيام به. يتكلّم كثيرون من الناس اليوم عن الشخص، ولكن بطريقة الثقافة والفلسفة الدينيّة والأكاديميّات16، أفضل ما تصل إليه هو صورة معدَّلة عن “القناع المقيت” بحيث يصبح “قناعًا عقلانيًّا” أو “شخصنة” للإنسان المعاصر بحيث نُلبسُه رداء اللاهوت الأرثوذكسي من الخارج، ولكن بالتأكيد لا يصير شخصًا. فمن دون الجهاد النسكيّ، أي من خلال النظريّة الإختباريّة وحدها، لا تتحقّق الحياة الروحيّة الأرثوذكسيّة ولا يمكن للشخص أن يبرز. كما قال القدّيس بولس: “لأَنْ لَيْسَ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ النَّامُوسَ هُمْ أَبْرَارٌ عِنْدَ اللهِ، بَلِ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ بِالنَّامُوسِ هُمْ يُبَرَّرُونَ“17. يشدّد الآباء على الواقع أنّ التأمّل الحقيقيّ يأتي كمكافأة على الممارسة الحقيقيّة، “ممارسة التأمّل هي المدخل“، وليس العكس. هذا ما اعتاد الشيخ المغبوط أفرام الكاتوناكيّ أن يقوله: تنبع الصلاة من الطاعة، واللاهوت ينبع من الصلاة. والشيوخ المباركون الموهبون المعاصرون، مثل الشيخ صوفروني، والشيخ بايسيوس، والشيخ بورفيريوس، والشيخ أفرام الكاتوناكي، والشيخ يعقوب تساليكيس، والشيخ سمعان أرفانيتيس، والشيخ أمفروسيوس، هم أكثر الأمثلة الملموسة لأشخاص حقيقيّين وأزليّين.
وفقًا لكثيرين، إنّ الروح الدهريّة التي تهدّد الكنيسة، وصبغ الأرثوذكسيّة بأشكال خارجيّة ومناقبيّة وتقشّفيّة زائدة من جهة، وإخضاعها لنماذج عقلانيّة وأنظمة فكريّة محضة وغير سليمة من جهة أخرى، كلّها ظواهر اجتماعيّة تميّز هذا العصر وهو زمن ما بعد المسيح. وهذه لا يمكن مكافحتها إلاّ من خلال اللاهوت الاختباريّ، والشركة الحقيقيّة مع “غير المخلوق“، واكتشاف الشخص الحقيقيّ في الإنسان. فاللاهوت والتعليم عن “الشخص“ في الإنسان هما ظاهرة فريدة وحصريّة لا يمكن اختبارها إلاّ عبر التقليد الأرثوذكسيّ، وليس عبر الفلسفة وعلم النفس ولا أيّ عقائد مسيحيّة أخرى.