الثوب الذهبي
عن اليرونديكون الصغير
تعريب الأرشمندريت أفرام كرياكوس
أطلع الله نهاره على مدينته القسطنطينية، مرتديةً نور العصور الذهبية الذائعة الصيت. وهي تُظهر ضبابها في عمق الأفق بكنائسها الرومية العظيمة والقصور والحدائق الحالمة مع القلاع والمتاريس مع رايات النصر. مدينة عرفت الجمال والفخامة أكثر من أي مدينة أخرى في العالم، وأكثر من كل شيء عرفت الإيمان. وقد كان لله فيها مختارون كثيرون.
بين هؤلاء متواضع من المتواضعين هو الكاهن مركيانوس، ضمّته يد الله منذ الطفولة. هذا قد سمع صوته فقرّر أن يعيش لله ولمحبّته فقط. فانتشر صيته في البلاد كلّها وطال أماكن بعيدة. كان، كما يقال،إنسان لم يملك شيئاً خاصاً به لأنه كان يشعر دائماً أنه يوجد آخرٌ يحتاج لهذا الشيء أكثر منه. هو كان أباً لكل الفقراء والمرذولين. اهتمّ أن يكرّس سحابة نهاره كلّه للإحسان والمحبّة.
مع شروق نهار الأحد، أتى مركيانوس بخطوة سريعة في الأزقّة إلى كنيسة القدّيسة أنستاسِيّة (خالدة) وكانت هيكلاً جليل الوقار حيث خدم ككاهن سنوات عديدة. وكان اليوم يوماً عظيماً، يوم تدشين الهيكل. كان عليه إذا أن يهتم بترتيب كلّ شيء. بخطوات رشيقة وصلاة في الشفاه كان يجول بين أقواس المدينة وعقودها وشوارعها. كان الطريق ما يزال مقفراً. وصل إلى أمام الرواق الغربي ودخل إلى الساحة الكبيرة المربعة الشكل ذات البركة الجميلة. من هنا كان يظهر سور الكنيسة. كان الجوّ شتوياً قاسياً على المدينة والوقت فجراً والريح الباردة تعصف بتواصل. لفّ الأب مركيانوس جبّته عليه جيدّاً بحركة سريعة لكنه شعر للحال بالأسى وقال بصوت منخفض:
– “أذكر يا ربُّ الفقراءَ اخوتك الصغار هؤلاء”
عندما وصل إلى الدرج الكبير، تاهت نظرته بعظمة المنظر. وحالما همّ بالعبور سمع أنّاتٍ وتأوّهات قريبة منه. فتحيّر مركيانوس ورسم إشارة الصليب وقال:
– “يا ربّ ارحم. مَن يمكن أن يكون هذا في الساعة الحاضرة؟”
ثم قوي صوت التأوّهات. كانت الظلمة لم تزل تخيّم ولم يكن يرى حسناً.
– “مَن هناك؟” قال بصوت عالٍ.
– “الرحمة يا أبانا فرّحك الله بكهنوتك”. أجاب صوت كئيب. لقد كان يجلس هناك عند الدرج الكبير شحّاذٌ مسكين متقوقع ومرتجف من البرد.
– “آه يا أخي”، قال هذا مركيانوس وهو مضطرب متحيّر، وتابع: “يجب أن أساعدك، إلا أنه ليس في عبّي شيء لك”. ووضع يده في جبّته لعلّه يجد شيئاً فلم يجد. فكّر أن يطلب منه الانتظار هناك عند الدرج ريثما في نهاية القدّاس يكون قد وجد شيئاُ ما. إلاّ أن هذا يكون متأخراً جداً.
– “ساعدني يا ربّ ماذا أفعل؟” هذا ما تمتم به مركيانوس.
بعد لحظة فكّر الكاهن أن يفعل شيئاً غير اعتيادي. في الحال فتح الكنيسة وركض إلى غرفة الأدوات الكنسية حيث يرتدي الكهنة ثيابهم الكهنوتية لإتمام الخدمة الإلهية الليتورجيّة. خلع جبّته وارتدى حلّته الكهنوتية.ثم خرج إلى سور الكنيسة وأعطى الشحّاذ جبّته قائلاً:
– “ليس عندي شيء آخر أُعطيك إيّاه، خذ هذا. أنا لست بحاجة إليه. لأني الآن سأقوم بالقدّاس الإلهي خذها إنّها لك”.
تعجّب الشحّاذ من هذه الطيبة والصلاح، وقبّل يد المحسن إليه وذهب ممتلئاً فرحاً.
مرّ للوقت على جانبي الطريق جموع الناس ترتدي ثيابها الاحتفالية. ثم أتى المسؤولون بثيابهم الحريرية والمخمليّة ثم المرافقون وأخيراً الإمبراطور. كلّ شيء كان في الكنيسة ذا طابع احتفالي. بجانب الإمبراطور جلس البطريرك. وكانت الكنيسة تشعشع بالأنوار. آلاف القناديل حوّلت الكنيسة إلى مركب يسير نحو السماء.
فجأة تحوّلت أنظار الجميع إلى هيكل الكنيسة حيث كان مركيانوس. كلّ مرّة كان يظهر من الباب الملوكي بدا كأنه يرتدي حلّة ذهبية، رغم إشراق النهار وبهائه، لم تكن تلائم كاهناً عادياً وبسيطاً. بعد قليل جاءت الأحاديث والهمسات وشوشت الترتيل.
– “أنظر يا صديقي ألا يستحي مركيانوس من هذه البدلة التي يرتديها؟”، “ما هذه البدلة التي يرتدي ؟” قال أحدهم.
– “من يظن أنه يكون؟ آخر كاهن في القسطنطينية ويرتدي حلّة أفخم من حلّة البطريرك!” قال آخر.
شعشعت الكنيسة كلّها من بريق ثياب مركيانوس الكهنوتية.
– “يجب أن يُقال لهذا الكاهن أن يرتدي ثياباً أكثر تواضعاً وأقل فخفخة يا صاحب القدّاسة”، همس أحدهم في أذن البطريرك. انزعج البطريرك وتضايق مما سمع. كان يعرف مركيانوس. كان كاهناً متواضعاً وجدّياً. إلاّ أنه لم يستطع أن يقل شيئاً بخصوص تصرّفه اليوم. أخيراً قرّر أن يؤنبه بشدّة عند نهاية القدّاس.
بعد توزيع القربان، أخذ البطريرك مركيانوس على انفراد.
– “لم تتصرّف اليوم كما يليق يا مركيانوس. ما هذه البدلة التي ترتديها؟ أي مثال سيرى فيك فقراء مدينتنا؟ على الكاهن أن يكون بسيطاً يا بنيّ”.
ارتبك الكاهن الصالح. ألقى نظرة خاطفة على ثيابه التي يرتديها وابتسم. إلاّ أنه أجاب باحترام:
– “عن أية بدلة يتكلّم قداستكم؟ إن كنتم تعنون هذه التي أرتديها فهي نفسها منذ سيامتي. أنت أعطيتني إياها منذ خمس وعشرين سنة”.
عندها غضب البطريرك وقرّر أن يعاقبه.
– “وهذا ماذا يكون؟” صاح البطريرك. وحالما مسك بيده الثوب، وجد أنها البدلة القديمة التي كان مركيانوس يرتديها منذ سنوات. العجّب الأول كان عظيماً، أما الثاني فأعظم: رأى البطريرك أن رجل الله مركيانوس لم يكن يرتدي الجبّة تحت ثيابه الكهنوتية القديمة. فسأل متحيّراً من الذي عرّاك من ثيابك يا مركيانوس؟” حينها تناول الكاهن المُحسن للبشر الإنجيل بين يديه وأراه للبطريرك قائلاً:
– “هذا هو الذي عرّاني يا صاحب القدّاسة”
حينئذ عانق البطريرك الكاهنَ مركيانوس ممتلئاً تأثراً وقال له والدمع في عينيه:
– “يا بنيّ لو عاش الكهنة كلّهم والناس كلّهم كما تعيش أنت لما كنا بحاجة لكلام أحد بل لكان مثالهم فقط كافياً”.