عزلة الإنسان المعاصر
الأب ستيفان فريمن
نقلها إلى العربية الأب أنطوان ملكي
قد لا يبدو الاستقرار في مكان واحد أمراً صعباً كمثل النذور الرهبانية أي الفقر والعفة والطاعة. لكن في الواقع إنه الأصعب. فشيطان نصف النهار الذي يحزن الرهبان (والعلمانيين) هو رغبة الإنسان بترك مكانه الخاص والخروج للزيارات حيث تتجلّى النميمة وغيرها من الشهوات الأكثر سوءاً. الاستقرار في مكان واحد هو المعركة الأكثر صعوبة والتي ظهرت في أكثر أشكالها تطرفاً في الشرق مع القديسين العاموديين، أي الذين عاشوا على العامود، كمثل القديس سمعان الذي تخطى علو عاموده العشرة أمتار
في العالم المعاصر، الاستقرار هو سلعة نادرة…. في وقت ما كان الذهاب إلى السوق بمثابة رحلة تتضمّن الكثير من اللقاءات بالمعارف والأصحاب، أمّا اليوم فكل شيء تغيّر. كل هذا قد يثير الاهتمام من وجهة نظر اجتماعية إلا إنّه أثّر في حياتنا بشكل عميق. في الماضي كان الأمر الأكثر شيوعاً أن يلتقي شاب من منطقة ما بفتاة من المنطقة نفسها، أو أن يدلّوه عليها، فيتعارفان ويتزوجان وينشآن بيتاً وأولاداً في الجماعة التي نشآ هما أنفسهما فيها، بالقرب من الأقرباء والأصدقاء وشبكة العلاقات التي أحاطت بهما ورعتهما (أو ضايقتهما). بالمقابل كانت نسبة الطلاق والجريمة منخفضة جداً في أغلب الأماكن. الجماعات المستقرة تميل نحو إيجاد عائلات راسخة وهذا ما تعززه شبكات العلاقات. هذا الثبات النسبي في الحياة هو الشكل الذي خبرته الكائنات البشرية في معظم تاريخا
في القرن الحادي والعشرين، الشكل الأكثر شيوعاً هو أن يلتقي شاب ما بفتاة في الجامعة أو في العمل، يتزوجان، وينتقلان إلى مكان عملهما. في الشرق كما في الغرب، تنحصر العائلة في البيت الذي يُزار في الأعياد. ونضيف إليه في الشرق المكان الذي فيه مقبرة الأجداد والآباء. أما شبكة المعارف فبالكاد تتخطّى زملاء العمل. هذا يقودنا إلى عزلة الإنسان المعاصر. قد تكون الإنترنت قد زادت من تواصلنا ولكن بشكل افتراضي، يقوم إلى حد كبير على إرادتنا. على سبيل المثال، إن لم أرغب بنشر أي شيء فلا يمكن لأحد أن يلزمني بذلك. على عكس الماضي حيث كان إن قرع بابي زائر عليّ أن أفتح. جماعة الإنترنت ليست جماعة طبيعية. لا يمكن للناس أن يتلامسوا أو أن يسمعوا بعضهم البعض يضحكون (بالرغم من وجود الpoke في الفايسبوك أو “هاهاها” أو السميلات “smilies”). أنا أنشر صورة فيعرف الآخرون شيئاً مما أبدو عليه، أو أنشر تسجيلاً فيعرفون شيئاً من صوتي. لكنهم لا يعرفونني متحدثاً. إلى هذا، يعرف الآخرون ما أريدهم أن يعرفوه وليس ما بإمكانهم معرفته، هذا إذا كان الناس صادقون في ما ينشرون، أي أن ينشروا صورهم كما هم وليس كما يشتهون أن يكونوا
لقد فقد الإنسان المعاصر استقراره، والأغلب لأسباب اقتصادية، ومعه خسر ثمار الاستقرار أي الجماعة الفعلية التي تقوم على إجماع بسيط بإرادة العيش معاً وهذا ما يجعل الحضارة حضارة. وهذه الحضارة تتجلّى في فنون الإنسان وممارساته اليومية وثقافته. ما هي حضارة الإنسان غير المستقرّ: الجريمة والطلاق والعنف، وتتجلّى كلها في إنتاجه الفني وألحان أغنياته وكلماتها، وحتّى في ألعاب أولاده
الإنسان بحاجة إلى الاستقرار وعليه هو أن يصنعه بخياراته. النمو الجماعي كما النمو الشخصي لا يتحقق بسهولة في التنقل
الكنيسة الأرثوذكسية هي مثال مميّز عن الاستقرار والثبات. بإمكاننا أن نقرأ ما كُتِب منذ قرون ونفهمه، حتّى أنّ الكثير منه ما زال ينطبق على زماننا، كالكتاب المقدس وكتابات الآباء. العلاقة مع كل ما “عتيق” و”تقليدي” في هذه الكنيسة يساهم في زرع الاستقرار. من هنا أيضاً يأتي دور آخر تؤدّيه الرهبنة وهو المساهمة في تنمية الاستقرار بكونها مثال للعلمانيين
هناك استقرار يأتي ضمن ذاك الجزء من الحياة، استقرار لا يمكن للإنسان أن يوجده بل يمكنه أن يخضع له. يستطيع الإنسان الأرثوذكسي أن يسعى لتجرّع معنى هذا الكلام كل يوم… فالاستقرار قصير الأمد. فقط عندما ينخرط الإنسان في جماعة أكبر ضارِبة في الماضي، يبدأ بالإحساس بالاستقرار. وما من استقرار في مدينة ما يقارِع استقرار التقليد ذي الألفي سنة. العيش في جيرة ملكوت الله حيث القديسون يعرفون أسماء الجميع ويشجعونهم ويعضدونهم
فليعطِنا الرب نعمة البلوغ الاستقرار فيه