المستعطي العجيب
عن اليرونديكون الصغير
تعريب الأرشمندريت أفرام كرياكوس
يمتدح الجميع الأنبا أغاثون و يعترفون بفضائله.
“هكذا كما أقول لك: يختلف الأنبا أغاثون عن الباقين”، كان يردد الشيخ أبراميوس والشيخ يعقوب يسمعه يقول بإعجاب وحماس:
“أول البارحة”، تابع الشيخ أبراميوس، “كنتُ قد ذهبت لأشتري السلال من المتوحّدين ووجدتُ الشيخ بين الزوّار الحجّاج والرهبان. في البداية استغربتُ، من هذا الذي يتكلّم ؟فقالوا الأنبا أغاثون. إلاّ أنه لا يشبه الأنبا أغاثون. لا يمكن أن يكون الأنبا أغاثون بهذه البساطة والسذاجة. إلاّ أنه كان هو الشيخ بنفسه. ثيابه بسيطة وجهه مشرق نوراني كالماء البلّوري الذي تتموّج وتتراقص أشعة الشمس عليه. أقواله حلوة كالعسل، كانت تنثر السكينة والطمأنينة من حوله. وأشاع الصمت في كلّ مكان. كان يتكلّم عن المحبّة وبطلان العالم. كان لصوته لهفة الإنسان الذي عرف كيف يحبّ. كان يجلس هناك أيضاً راهب شاب جميل الطلعة مسروراً. هذا طلب الإذن أن يسأل بتواضع كبير.
“قل لنا أيها الشيخ كيف يمكن أن نظهر هذه المحبّة لأخينا؟”
للحال أشرق الأنبا أغاثون بالنور الذي فاض على الآخرين واستولى عليهم وأجاب:
“المحبّة يا بنيّ هي أن أجد أبرصاً فأعطيه جسدي وآخذ الذي له”.
“كلمات الشيخ هزّتنا هزّاً لم يستطع أحد أن يقول شيئاً”. قال هذا الأنبا أبراميوس وصمت.
“في حياتي كلّها لم أسمع أمراً كهذا”، قال يعقوب.
ثم تابع الأنبا أبراميوس مدمّعاً: “لي سنوات عديدة أزور النسّاك إلاّ أني لم أرَ مثل هذا الإنسان إطلاقاً. إنسان يعطي حتى حياته لاخوته”
“المجد والشكر لله لأنه يوجد في أيامنا أيضاً هكذا بشر”، أضاف يعقوب.
“نعم المجد لله آلاف المرّات”، أردف الشيخ أبراميوس.
“لقد أطلنا في الحديث كثيراً والشغل لا ينتظر طاب نهارك”، قال هذا يعقوب ونهض للمغادرة…
هكذا انفصل الصديقان وأخذ كلّ منهما طريقه.
عبر الوقت وحلّ منتصف النهار. ووصل من الجانب الشمالي للمدينة الذي يطلّ على البرّية بعض المتوحّدين الفقراء ليبيعوا سلالهم في السوق المركزية. كان الأنبا أغاثون من بينهم. أتى صامتاً محمّلاً بالسلال المشغولة بإتقان. كانت هذه عمل الرهبان اليدويّ. كانوا يبيعونها في المدينة وبالأموال القليلة التي يحصلون عليها كانوا يعتاشون ويدبّرون إحتياجاتهم.
دخل الشيوخ إلى المدينة وكان الناس يحيونهم بطلب بركتهم “بارك، باركوا…” أخذ كل منهم مكانه وكان الأنبا أغاثون آخرهم.
هناك حيث وقف، ظهر فجأة شيخ عجوز فقير، لم يكن قادراً حتى على المشي. قال بحسرة وتنهد للشيخ أغاثون: “لا تغادرني وحدي يا أنبا دعني هنا قريباً منك. ليس لي أحد في العالم يهتمّ بي. فقط سأجلس هنا بقربك ولن أضايقك إطلاقاً”
“من كل قلبي، أهلاً بك”، أجابه الشيخ ورتّب سلاله قريبا ًمنه. بعد قليل بدأ الناس يشترون سلال الشيخ أغاثون، طالما أنها كانت مشغولة بعناية ومحبة.
نطّ الشحّاذ وتحشّر به قائلاً: “كم من المال صار معك؟”
“ثلاث قطع نقدّية”، أجابه الأنبا أغاثون ببساطة. من دون أن يتضايق من إزعاج الشحّاذ الغريب وحشريته.
“كمية جيدة!”، قال الشحّاذ وتابع “اشترِ لي بعض الخبز. لي أيامّ بدون أكل”.
“أهذا فقط ما يزعجك؟” قال الأنبا، وذهب ليتمّم رغبته بالفعل. بعد قليل كان الشحّاذ يأكل خبزاً ساخناً من أيدي الشيخ. عبر الوقت وكان الأنبا أغاثون يتابع بيع القفف التي ما زالت عنده.
“كم من النقود صار معك يا أنبا؟” سأل الشحاذ فجأة.
“أعتقد أيضاً ثلاث قطع نقدية”، أجاب الشيخ بطيبة قلب.
“ألا تشتري لي بعض الفاكهة وقطعة حلوى مما في السوق؟”
“من كلّ قلبي”، أجاب الشيخ وذهب للحال ليشتري فاكهة وحلويات للشحاذ الغريب.
بعد وقت قصير، كان الشحاذ يأكل آخر قطعة من الحلو والشيخ يحضّر نفسه للعودة إلى كوخه، من دون أن يكون حزيناً لإعطائه المال كلّه الذي كان لديه في سبيل محبّة أخيه القريب. بل هو قد صنع كل هذا برغبة وحماس غريبينبالرغم من أنه سيمّر عليه زمن لن يكون عنده قطعة خبز.
“هل ستعود الآن؟” سأله الشحاذ المستعطي.
“يجب أن أعود إلى البرّية. نعم”، أجابه الشيخ.
“هناك أمر سأطلبه منك. خذني من هنا واذهب بي إلى الطريق الرئيسية ومن هناك اذهب أنت إلى البرّية”، قال الشحاذ ثانية.
“فليكن مباركاً”، أجاب الأنبا أغاثون وانحنى ليحمل الشحّاذ على كتفه.
لم تستجب قدماه له، فهو تعبٌ جداً منذ الصباح الباكر منذ أن انطلق.
بعد أن مشى بالشحّاذ الغريب حاملاً إياه على كتفه، وصل إلى الطريق الرئيسية التي تؤدّي إلى البرّية وحضّر نفسه لترك الشحّاذ، فجأة ملأ صوتٌ سماوي المكان قائلاً:
“لتكن مباركاً على الأرض وفي السماء”
ووُجد ملاك بلباس أبيض مكان الشحّاذ، يطفح بالنور والنعمة الإلهية. أتى مرسلاً من عرش الله ليختبر قلب المتواضع أغاثون. فإن الله يكلّل إنسان الصبر ويمنحه نعمته الغزيرة.