إعداد راهبات دير مار يعقوب الفارسي المقطع – دده، الكورة
المسامحة
منذ سنوات عدّة التحق الأخ جبرائيل بأحد الأديار، وبدأ حياته الرهبانيّة بجدّيّة وحماس. أخذ هذا الأخ يتقدّم، يومًا بعد يوم، في الفضيلة، فكان الأوّل في الطاعة والوداعة و…
لاحظ رئيس الدير، يومًا، الأخ جبرائيل يمرّ كلّ يوم سبت بعد صلاة الغروب على قلالي إخوته الرهبان يطلب منهم المسامحة قائلاً: “باركوني واغفروا لي” فكان يسمع ردّ الرهبان له: “ليباركْك الله ويغفر لك”، فظنّ، للوهلة الأولى بأنّ الأخ جبرائيل ارتكب ذنبًا ما، وهو يطلب المسامحة عليه.
ولكن، ولمّا تكرّر الأمر لأسابيع وشهور، استدعى الرئيس الراهب المجاهد، وسأله:
– أراك، يا بنيّ، تمرّ على قلالي الرهبان بتواتر تطلب منهم المغفرة، فهل أخطأت إليهم؟ وإن كان قد حصل ذلك، فلماذا لم تعترف لي به؟
– كلا، يا أبي، فأنا، بمعونة الله وصلواتك، حريص جدًّا ألاّ أزعج إخوتي الرهبان بتصرّفاتي أو بأقوالي.
– ولكن، لماذا، إذًا، تقوم بهذا العمل كلّ يوم سبت فقط؟
– سامحني، يا أبي، لقد سبق لي أن قرأت في كتاب روحيّ قديم وجدته صدفة في مكتبة الدير، أنّ كلّ يوم سبت بعد صلاة الغروب تجتمع الملائكة الحارسون أمام عرش الله لتقدّم تقارير عن تصرّفات البشر، فيأتيّ كلّ ملاك حارس، ويسجد أمام العرش الإلهيّ حيث يجلس الربّ يسوع المسيح الديّان، ويبلّغه أعمال الناس. فيفرح الربّ بالأعمال الصالحة ويبارك عامليها، ويحزن للأعمال السيّئة، آملاً أن يتوب مقترفيها، لئلاّ يُحكَم عليهم يوم الدينونة الرهيب مع الأشرار، وتصير الجحيم نصيبهم إن لم يتوبوا.
ولذلك، تراني، يا أبي القدّيس، أسامح الآخرين على أقلّ الهفوات الصادرة منهم، وأطلب، أنا أيضًا، مسامحتهم لي على زلاّتي تجاههم لأفلت من دينونة الله الرهيبة والقضاء الأبديّ.
أحكام الله
حدث، يومًا، أن ابتهل شيخ قدّيس إلى الله لكي يكشف له السرّ التالي: لماذا معظم الصدّيقين والأتقياء فقراء يشقون ويُظلَمون، فيما العديد من الخطأة والظالمين أغنياء يتنعّمون؟ وكيف تُترجم أحكام الله هذه؟
وإذ أراد الله أن يكشف له سؤل قلبه سمع صوتًا يقول له أن “اذهبْ إلى العالم وسوف ترى تدبير الله”.
لم يتباطئ الشيخ في طاعة الصوت الإلهيّ، بل قام، وغادر، للحال قلاّيته باتّجاه العالم. فوجد نفسه يسلك طريقًا واسعًا يعبره الناس بكثرة، وكان هناك مرج فسيح وصنبور ماء عذب. اختبأ الشيخ في جوف إحدى أشجار المرج مترقّبًا منتظرًا.
وبعد هنيهة مرّ بالمكان رجل غنيّ، فترجّل عن حصانه وجلس ليأكل. ثمّ أخرج كيس نقود يحوي مائة ليرة ذهبيّة وأخذ يعدّها. ولمّا انتهى من عدّها أعادها إلى الكيس على أن يضعه بين طيّات ثيابه حيث كان أوّلاً عندما يفرغ من طعامه. وفي هذه الأثناء سمع صوتًا يناديه، فأسرع بسرعة البرق، وامتطى جواده من جديد وانطلق في طريقه مخلّفًا وراءه ذهبيّاته الثمينة.
لم يمضِ زمن قليل حتّى مرّ بالموضع نفسه عابر سبيل آخر، هذا وجد كيس النقود موضوعًا على الأرض، فالتقطه وحثّ خطاه مبتعدًا.
وبعد ذلك أتى رجل ثالث، وكان فقيرًا متعَبًا ينوء تحت حمل ثقيل يحمله على منكبيه، وهو يسير على قدميه متمهّلاً. فجلس، هو أيضًا، هناك ليرتاح. وفيما هو يخرج خبزة يابسة ليأكلها، جاء الغنيّ ووقع عليه قائلاً بغضب: “أسرع وأعطني النقود التي وجدتَها”. فأجاب الفقير بيمين معظّمة بأنّه لم يجد شيئًا من هذا القبيل. حينئذ ابتدأ الغنيّ يضربه بسِير الحصان الجلديّ. وبضربة على أمّ رأسه أصاب منه مقتلاً، فأرداه صريعًا، ثمّ شرع يفتّش ثياب الفقير وأغراضه كلّها، ولمّا لم يعثر على شيء ذهب والندم يتأكّله.
أمّا الأب الشيخ الذي كان يشاهد كلّ شيء، فأخذ ينتحب مدمّى الفؤاد من جرّاء القتل الجائر، متوسّلاً إلى الربّ: “يا ترى ما هي مشيئتك، يا ربّ، وكيف يحتمل صلاحك هذا الأمر؟!!”. وللحين حضره ملاك خاطبه قائلاً: “لا تحزن، أيّها الشّيخ، لأنّ جلّ ما يحصل إنّما يحصل بحسب مشيئة الله وتدبيره من أجل التأديب والخلاص. اعلم أنّ الذي أضاع المائة الذهبيّة هو جار لذاك الذي وجدها. هذا الأخير هو صاحب بستان يساوي مائة ليرة ذهبيّة، وقد أخذه منه الغنيّ الجشع بخمسين، فقط، وبطريقة غير قانونيّة. وبما أنّ البستانيّ الفقير توسّل إلى الربّ أن يأخذ العدل مجراه، فشاء الله أن ينال مطلبه مضاعَفًا إذ حصل على مائة بدلاً من خمسين.
أمّا ذاك الذي قُتل ظلمًا، فكان ارتكب جريمة قتل هو نفسه في الماضي، فإذ أراد الله أن يخلّصه ويطهّره من خطيئة القتل، بما أنّه كان قد قام بأعمال حسنة قد أرضت الله، دبّر أن يُقتل هو ظلمًا لتخلص نفسه.
أمّا الجشع الطمّاع الذي سبّب القتل، فقد كان مزمعًا أن ينتهي أمره في الجحيم بسبب محبّته للفضّة. لذا سمح الله أن يقع في خطيئة القتل لكي تتوجّع روحه، فيطلب التوبة والرحمة. وها هو الآن قد ترك العالم وذهب يطرق باب أحد الأديار ليترهّب ويعيش حياة الانسحاق والندم ويبكي على خطاياه.
أمّا أنت، فعُدْ، الآن، إلى قلاّيتك، ولا تكثر من فحص أحكام الله لأنّها بعيدة عن الكشف والتنقيب”.
إنّنا نحن معشر البشر نحاول أن نبحث عن أمور لا تُحدَّد تفوق قدراتنا. فحيث يضع الله نقطة مثلاً، لا نستطيع نحن أن نستبدلها بعلامة استفهام. وكخاتمة فلنسمع القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم يدعونا قائلاً: “الأحزان تولّد الصبر، ومحبّة الله تعرف مقدار تحمّلنا للأحزان. العناية الإلهيّة لا تُفسَّر واهتمامه بنا لا يُدرَك. إنّ أحكام الله عميقة جدًّا وبعيدة عن الاستقصاء”.