الشيخ يوسف الفاتوبيذي
نقلها إلى العربية الأب أنطوان ملكي
واحدة من أسمى وأفذّ الصفات الإلهية، أو السلطات، أو القوى، هي العدالة. يمنح الله مخلوقاته العدالة وفقاً لاحتياجاتهم لكي يسلكوا بشكل منظّم ويتربّوا. يغذّي الله الكون ويضبطه بطريقتين. الأولى هي قواه الخلاّقة: “لأَنَّهُ قَالَ فَكَانَ. هُوَ أَمَرَ فَصَارَ” (مزمور 9:33). الطريقة الثانية هي سلطته الحافظة وعنايته التي تجمَع الكون وتعضده وفقاً لغاية كل كائن. لذا، العدالة الإلهية تمنح العناية الضرورية لكل كائن حتّى ينجح في الهدف الذي خُلِق من أجله. بهذه الطريقة، تُحفَظ الطبيعة في التوازن. في كل مرة يهتزّ هذا التوازن لأي سبب من الأسباب تعيد العدالة الإلهية القسطاس وبالتالي يستمرّ ضبط الخليقة أو بالأحرى يتوسّع بما يتوافق مع الإرادة الإلهية.
بعد سقوط المخلوقين العاقلَين، أي الملاك والإنسان، الأمر الذي جذب الباقي من الخليقة نحو الفساد، صارت القوى الإلهية ظاهرة وبالتحديد العدالة الإلهية، التي تصلِح إفرادياً أو جماعياً تلك العناصر التي لا تطيع الوصية، كما كان في نية الخالق في الأصل. العدالة الإلهية تثبّت كل المخلوقات في الترتيب وما من عاملٍ يمكن أن يُفرَض عليها ويغيّر مخططها. هكذا هو الأمر في ما يختصّ بغير الماديات. بالنسبة للكائنات العاقلة وبشكل خاص الإنسان، تُطبّق العدالة الإلهية بشكل كامل، ما عدا بعض حالات التدبير الإلهي حيث تتمّ بأشكال مختلفة بما يتلاءم مع مصلحة كل إنسان. تطبيق العدالة الإلهية متنوّع جداً وقليلون فقط، بشكل خاص المستنيرون، هم الذين يفهمون معاييرها. حذَرُ الرسول بولس يقنعنا بهذا: “لأَنَّنَا لَوْ كُنَّا حَكَمْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا لَمَا حُكِمَ عَلَيْنَا، وَلكِنْ إِذْ قَدْ حُكِمَ عَلَيْنَا، نُؤَدَّبُ مِنَ الرَّبِّ لِكَيْ لاَ نُدَانَ مَعَ الْعَالَمِ.” (1كورنثوس 31:11-32). لأن الله يضبط العالم بعصمة وبطريقة إلهية، تتدخّل العدالة الإلهية كثيراً لكي تعيد تنظيم الأمور وتردّها إلى النظام، لأنّها كانت بلا خطأ عند لحظة خلقها.
إن لم تعِد العدالة الإلهية التوازن، سوف ينشأ الانطباع بأنّ خلق العالم هو سبب الخطأ وليس انحراف الإنسان وسوء تصرفه. العدالة الإلهية، كونها كاملة وعلى المثال الإلهي، كما غيرها من الصفات الإلهية، معروفة بأن لها قوتان: الواحدة هي قوة التناغم والتوازن والأخرى هي الاستمرارية العملية للمحبة الإلهية الكاملة. بالرغم من أننا ننتهك مكانتنا وواجبنا، لا يسحب الله محبته وعنايته التدبيريتان اللتان تسببان التماسك، إذ بحسب الرسول بولس، الصفات الإلهية لا تتغيّر.
يظهر تطبيق العدالة الإلهية بطرق كثيرة. كاتب المزامير والآباء القديسون، كونهم اختبروا الشكل العملي للحرب الروحية، يخبروننا الكثير عن هذا الموضوع. إذا كان الإنسان منتبهاً يمكنه تلافي فرضَ العدالة الإلهية في حياته. عليه أن يصلح تجاوزاته من خلال التوبة والمحبة للعمل الشاقّ المناسب للذة التي نشأ التجاوز منها. “اِلْتَفِتْ إِلَيَّ وَارْحَمْنِي، لأَنِّي وَحْدٌ وَمِسْكِينٌ أَنَا” (مزمور 16:25)، “رُكْبَتَايَ ارْتَعَشَتَا مِنَ الصَّوْمِ، وَلَحْمِي هُزِلَ عَنْ سِمَنٍ” (مزمور 24:109)، “إِنِّي قَدْ أَكَلْتُ الرَّمَادَ مِثْلَ الْخُبْزِ، وَمَزَجْتُ شَرَابِي بِدُمُوعٍ” (مزمور 9:103)، “كَأَنَّهُ قَرِيبٌ، كَأَنَّهُ أَخِي كُنْتُ أَتَمَشَّى” (مزمور 14:35)، “اِسْتَمِعْ صَلاَتِي يَا رَبُّ، وَاصْغَ إِلَى صُرَاخِي” (مزمور 12:39)، “هأَنَذَا بِالإِثْمِ قد حُبِل بي، وَبِالْخَطِيَّةِ ولدتني أُمِّي” (مزمور 5:51).
إذا خالف الإنسان ناموساً أخلاقياً أو طبيعياً في حياته الخاصّة أو ضد بيئته، فهو يسبب ذنباً مضاعَفاً، بحسب قوانين التدبير الشامل التي من خلالها يضبط الله الكون وينمّيه. إحدى المخالفات هي التسبب بأذى طبيعي غير معقول للأشياء بسبب الإهمال أو قلّة الاهتمام. طريقة أخرى لدى الجزء الأهوائي فينا هي في تلقّي الاكتفاء غير الطبيعي من اللذة، التي تسمّى انحرافاً. تتدخل العدالة الإلهية في كلا الحالتين لتعيد التوازن.
هذا بالتحديد هو نوع العدالة الإلهية الذي عناه الربّ عندما قال: “إِلَى أَنْ تَزُولَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ لاَ يَزُولُ حَرْفٌ وَاحِدٌ أَوْ نُقْطَةٌ وَاحِدَةٌ مِنَ النَّامُوسِ حَتَّى يَكُونَ الْكُلُّ” (متى 18:5). إذا “كُلُّ تَعَدٍّ وَمَعْصِيَةٍ نَالَ مُجَازَاةً عَادِلَةً” (عبرانيين 2:2) فماذا نحتاج أيضاً لنؤمِن بأن العدالة الإلهية لا تُرشى. قول مأثور خاصٌ جداً من آبائنا حول هذا الموضوع هو التالي: “إذا كنت لا تريد أن تعاني، تعلّمْ عدم الإساءة”. إن العين الناظرة كل شيء، عين العناية الإلهية الشاملة لخليقته تعمل مع عدالته الشبيهة به المعصومة، حتّى ولو بدا الأمر غير قابل للفهم.