الأرشمندريت جورج كابسانيس
نقلها إلى العربية الأب أنطوان ملكي
نحن عادةً نصف البشر بأنّهم مخلوقات عاقلة ومستقلّة. هذه صفات صحيحة لكنّها لا تنقل الطبيعة البشرية بكمالها. من خلال الخبرة الليتورجية، نحسّ بأن الناس هم مخلوقات ليتورجية أكثر من أي شيء آخر. لقد خُلِقوا ليخدموا ويقدّموا أنفسهم والعالم إلى الله بامتنان وتمجيد وعبادة، ليتّحدوا مع الله ويتقدّسوا ويعيشوا من خلال هذه التقدمة – التضحية – الخدمة المتواصلة.
العقلانية والاستقلالية وغيرها من الصفات أعطيَت لنا لهذا السبب، حتى نضع أنفسنا في هذه العلاقة الليتورجية مع الإله المثلّث الأقانيم. في هذا الصعود الليتورجي، يسلك الناس على أنهم في “الصورة” ويُرفعون إلى “المثال”. الحياة في الملكوت كانت ليتورجية إلهية. إلى جانب الملائكة، خَدَمَ آدم وحواء الثالوث القدوس. بالسقوط في مركزية الأنا خسرا إمكانية تقدمة ذواتهما والعالم إلى الله بطريقة إفخارستية وبالتالي المشاركة في الخدمة المشتركة في الفردوس. بنفيهما أنفسهما من ليتورجيا الفردوس، وجدا نفسيهم على الأرض من دون الوظيفة الليتورجية. كفّت “الصورة” عن العمل. بعض آثار وشرارات وظيفة ما قبل السقوط بقيت في داخلهم وهي حرّكتهما إلى بناء المعابد وتقديم الضحايا لله.
في أفضل الأحوال، هذه العبادة كانت شظايا، ظلاً أو نموذجاً. لم تحمل البشر إلى الشركة الكاملة مع الله والاتحاد به. لم تعطِنا الروح القدس. لم تخلّصنا من الموت. مع هذا، قد شجّعت فينا الرغبة بالليتورجيا المسيحانية الحقيقية. هذه الرغبة والرؤية مَنَحَتا الأمل للبشر الذين كانوا يقطنون في الظلمة وظلال الموت. لم تستطع محبة الآب السماوي أن تتركنا من دون خدمة ليتورجية. بتدبيره الإلهي، صار الكلمة جسداً. يسوع المسيح، الكاهن الأعظم، بدأ خدمة العهد الجديد المشتركة. لم يكن ممكناً تأسيس ليتورجية العهد الجديد إلا على يد المسيح، لأن المسيح وحده كان القادر على تقديم ذاته والعالم كلّه بشكل كامل إلى الإله المثلّث الأقانيم. لقد كان في العهد القديم أناس قدّموا ضحايا أيضاً، لكن لم يكن هناك قرابين. يسوع المسيح كان الضحية المُثلى وفي الوقت نفسه الشخص الأمثل لتقديم الضحية، الضحية التي لا عيب فيها، حمل الله الرافع خطية العالم.
البشر، والعالم أيضاً، من دون الليتورجيا، صاروا غير مقدسين وسقطوا تحت سلطة الشيطان والموت. بموته على الصليب وقيامته، افتدانا المسيح من هذه العبودية، حررنا ومنحنا فرصة الاشتراك في خدمة العهد الجديد المشتركة، أي أن نقدّم ذواتنا لله، لنشكر الله ونمجّده. بكوننا مقرَّبين ومقرِّبين كلّ شيء مع المسيح لله، نحن نخدم كبشر، أي على “صورة الله”. نصير بشراً حقيقيين.
ليتورجيا العهد الجديد تسمو كثيراً على الليتورجيا في الفردوس. فالآن الكاهن الأعلى هو ابن الله بذاته. والدة الإله والقديسون يشتركون ومعاً يمجدون الثالوث الكلي قدسه بأصوات لا تصمت وتماجيد لا تفتر. كلّ أرثوذكسي معمّد يموت ليعيش يشترك في هذه الخدمة المشتركة. في هذه الليتورجيا المشتركة يجد الناس طبيعتهم الحقيقية وراحتهم الفعلية، وشخصهم الحقيقي الذي على صورة الله. خارج هذه الليتورجيا المشتركة، يكون الناس كائنات عاقلة أو كائنات اقتصادية (Homo Sapiens or Homo Economicus) كما يراهما المجتمع الاشتراكي، لكنهم ليسوا حكّام الخليقة، ولا حتّى نقطة التماس بين العالم المخلوق والعالم غير المخلوق ولا هم على صورة الله.
ليتورجيا العهد الجديد الإلهية بدأت مع تجسد الكلمة وتستمر إلى المستقبل البعيد مع الكاهن الأعظم. كل قداس إلهي يُقام على الأرض هو اشتراك في الزمن في هذه الليتورجية الأبدية غير المحدودة بزمان. “مع هذه القوات المغبوطة، أيها السيد المحب البشر، نهتف أيضاً نحن الخطأة ونقول: قدوس أنت حقاً وكليً القداسة…” كل كاهن أو أسقف يقيم قداساً على مذبح أرضي “يمارس وظيفة المسيح الكهنوتية في الكنيسة” (قانون قرطاجة). ليس له كهنوت خاص به بل هو يشترك في كهنوت المسيح الوحيد. خطيئتنا العظمى اليوم هي أننا بلا دور ليتورجي. نحن لا نقدِّم ولا نُقَدَّم إلى الله وإلى إخوتنا البشر. في وقت ما كان وصف إنسان ما بأنه غير ليتورجي إهانة. أما اليوم فبسبب قلة إيماننا وقساوة قلوبنا صارت قلّة الإيمان صفة طبيعية بينما غير الطبيعي والعجيب هو أن يمارس الناس دوراً ليتورجياً.
حتّى عندما “يذهب” الناس إلى الكنيسة، من الصعب تبيان ما إذا كانوا يمارسون الليتورجيا، أي أنهم يشتركون في سرّ الإفخارستيا الكوني وسر الكنيسة، ما إذا كانوا يفهمون القداس الإلهي ليس كواجب ديني واجتماعي وحسب بل كتقدمة وضحية لله، بالمسيح. من الممكن لشخص ما أن يقيم القداس الإلهي ككاهن بينما في الجوهر هو خارج الليتورجيا لأنّه لا يقدّم نفسه وكلّ الأشياء لله. هؤلاء المسيحيون خارج الليتورجيا، كهنة وعلمانيون، لا يحيون من حيث المبدأ. بحسب الرؤيا “أَنَّ لَكَ اسْمًا أَنَّكَ حَيٌّ وَأَنْتَ مَيْتٌ” (1:3).
الناس الذين يقدّمون “التي لك مما لك، عن كل شيء ومن أجل كل شيء” يخدمون الله بحق وبفرح. إنهم أناس يعرفون أنّ كل ما لديهم هو منحة من الله. إنهم يؤمنون بأن لا شيء لهم من عندهم ليقدّموه، بل كل شيء هو من الله ومنه يأخذون ويقدّمون إليه، إلى جانب ذواتهم وعالمهم وعلاقتهم بالعالم. إنهم لا يحتفظون لأنفسهم بشيء عن أنانية، إنّما يقدّمون أنفسهم من دون تحفّظ، يعطون كلّ شيء لكي يأخذوا لا شيء، يموتون ليحيوا، ويمنحون كلّ شيء في المسيح ومن أجل المسيح، عن كل شيء (دائماً) ومن أجل كل شيء (من أجل هبة الله). هكذا حياة الناس، حتّى بعد القداس وخارج الكنيسة، تصير خدمة وتقدمة وعلاقة وتضحية وشركة وشكراً. تتحوّل الحياة بكليّتها إلى حياة إلهية إنسانية.
إن ليتورجيا الأحد ذات الساعتين تمتد إلى أربع وعشرين ساعة. كأرثوذكسيين، عندما نتحدّث عن الحياة الليتورجية، لا نعني تقدمتنا الليتورجية القصيرة في الكنيسة، بل حياتنا بالكامل، التي تبدأ بالنشاطات الليتورجية في الكنيسة وتصير ليتورجية واحدة وعبادة واحدة. المسيحيون الأرثوذكسيون ليسوا منفصمين. لا يحيون حياة ليتورجية في الكنيسة وأخرى غير ليتورجية في الخارج. إنهم يقضون في الكنيسة ما استطاعوا من الزمن (في القداديس والخِدَم) حتى يصيروا قادرين على العيش خارج الكنيسة بطريقة أقرب ما تكون إلى الروح، إلى جو القداس الإلهي وخلقيته. من خلال العبادة في الكنيسة، تترسّخ الحياة الإلهية الإنسانية فيهم وتصير قادرة على تغيير كل أوجه حياتهم اليومية.
إذاً، إذ تتغلغل الحياة الليتورجية في المسيحيين، يسلكون في وحدة الإيمان والحياة، الإلهي والبشري، المخلوق وغير المخلوق، الحي والراقد، الحاضر والمستقبل، شخصهم والآخرين. هذه الوحدة يختبرها الشعب الأرثوذكسي طالما تكون حياته كنسية. ما زال يوجد إلى اليوم شعب تقليدي أرثوذكسي وجماعات تسلك في هذه الوحدة. مركز كلّ الحياة في التجمّعات الأرثوذكسية التقليدية (قرى وأحياء) كان الكنيسة الرعية، على غرار ما هي الكاثوليكو (الكنيسة الرئيسية) في الأديار. الولادة، الموت، العمادة، الزواج، المدرسة، العمل، العلاقات الاجتماعية، الأفراح والأحزان وكل تعابير الحياة الاجتماعية كانت مرتبطة بالليتورجية والكنيسة. في النهاية، هذه تصير الكنيسة. أعمال الحياة اليومية تجد وحدتها وترتيب أسبقيتها ضمن القداس الإلهي. بقدر ما يبعِد الشعب الأرثوذكسي نفسه عن أصوله الأرثوذكسية وعن تقليده الإلهي الإنساني المحيي، يضعف الارتباط العضوي بين الأعمال المختلفة والليتورجية الإلهية، لهذا يكفّ الشعب عن العمل بنحو لائق، أي أنهم يفشلون في توحيد الناس أو مساعدتهم على العيش كصُوَرٍ لله.
إن الأعمال المتنوّعة خارج الليتورجيا المقدّسة تفكّك الشخص البشري. هذا واضح في وظيفة الحياة الأساسية أي الإنجاب. ضمن الليتورجية المقدّسة والكنيسة تتحوّل هذه الوظيفة الجوهرية وتُبارَك بالنعمة وتساهم نحو ملء الشخص البشري. خارج الكنيسة، تصير هذه الوظيفة أَمَةً للأنانية، إلغاءً للشخصية وعذاباً. يتمرمر الناس اليوم من هذه الخبرة.
الأديار الأرثوذكسية المشتَرَكة هي نماذج لكيفية عمل الشعب والجماعات. المركز هو الكنيسة الرئيسية. كل المباني والقلالي منظمة حول الكنيسة. نقطة البداية في الحياة المشتركة هي الاحتفال اليومي بالقداس الإلهي. الهدف هو عبادة الله وتقديم كلّ الحياة للمسيح. هكذا تكون الحياة مشتركةً، الإيمان والمحبة كونيَّين، يُغلَب الموت وكلّ شيء يصير جديداً ويُعطى دورٌ مختلف في تكيّف غريب ومناسب جداً. عندما تترسّخ في الأرثوذكسيين روح الشركة الرهبانية الليتورجية، التي هي روح الأرثوذكسية الليتورجية، يُحفَظون من النزعة الباطلة نحو الدهرية. بالجوهر، الدهرية هي مسعى لتنظيم الحياة خارج الليتورجيا والكنيسة.
لا يستطيع الأرثوذكسيون إلا أن يعيشوا ليتورجياً. القداس الإلهي والعبادة ليسا “مناسبات” ولا مجرّد جزء من برنامجهم، بل هما بالمقابل الطلقة المطعِّمة حياتهم التي تحوّلهم، المركز، الأساس، البداية والنهاية. فقط من خلال “التي لك مما لك” في القداس الإلهي يصير الناس ذواتهم، أي صوراً لله.
* كلمة ليتورجيا في اليونانية متعددة المعاني فهي تعني القداس، الخدمة، الكهنوت والوظيفة.