روبرت جاسترو**
نقلها إلى العربية الأب أنطوان ملكي
يوجد اليوم ثلاث خطوط من البراهين: حركات الكواكب وقوانين الديناميكا الحرارية (thermodynamics) وقصة حياة النجوم. هذه كلّها تشير إلى نتيجة واحدة، وكلها تعبّر عن أنّ للكون بداية. قلّة من العلماء يسلّمون ويتجرؤون على السؤال: “ماذا أتى قبل البداية؟” آدموند وايتاكر، عالم فيزياء بريطاني، كتب كتاباً عن الدين وعلم الفلك الحديث عنوانه “بداية العالم ونهايته” وفيه قال: “ما من أساس للافتراض بأن المادة والطاقة تواجدتا قبلاً وأنهما فجأة دُفعَتا إلى العمل. إذ ما الذي يميّز تلك اللحظة عن كل اللحظات الأخرى في الأزلية؟” يستنتج وايتاكر: “إن التسليم بأنّ الخلق كان من العدم هو أكثر بساطة: الإرادة الإلهية تكوّن الطبيعة من اللاشيء”. آخرون كانوا أكثر جرأة وسألوا: “مَن كان المحرّك الرئيسي؟” المنظّر البريطاني آدوارد ميلن كتب مقالة في الرياضيات حول النسبية اختتمها بقوله: “في ما يتعلّق بالسبب الأول للكون، في إطار التوسّع، الأمر متروك للقارئ ليضيف، لكن صورتنا غير مكتملة من دونه (الهاء هنا تعود إلى الله without Him – المترجم)”.
لكن آراء الكثيرين من علماء الفيزياء والفلك هي أكثر قرباً إلى موقف أوغسطين الذي سأل نفسه عمّا كان الله يفعله قبل خلقه السماء والأرض، وأجاب “كان يخلق الجحيم للبشر الذين يسألون أسئلة من هذا النوع”. بالحقيقة، بعض العلماء أصحاب الشهرة بدؤوا يشعرون بالضيق من الكون المتمدد الذي عبّر عنه أنشتاين سابقاً. كتب آدينغتون في 1931: “أنا لا أجد هدفاً شخصياً أسعى إلى تحقيقه في هذا النقاش”، لكن “فكرة وجود بداية ما مكروهة عندي… أنا ببساطة لا أؤمن بأن نظام الأمور الحالي بدأ بضربة مفاجئة… الكون المتمدد منافٍ للعقل… غير معقول… إنه يبثّ فيّ البرد”. كتب عالم الكيمياء الألماني والتر نيرنست: “إنكار عدم محدودية الزمن هو خيانة لأسس العلم”. لاحقاً، فيليب موريسون من معهد ماساتشوستس للنكنولوجيا (MIT) قال في أحد أفلام BBC حول علم الكونيات: “أجد صعوبة في قبول نظرية البيغ بانغ؛ أميل إلى رفضها”. ألن سانداج، من مرصد بالومار، وهو الذي برهن انتظام امتداد الكون إلى نحو عشرة بلايين سنة ضوئية قال: “إنه لاستنتاج غريب… لا يمكن أن يكون صحيحاً”. هناك حلقة غريبة من الشعور والعاطفة في هذه التفاعلات. إنها تأتي من القلب بينما يُتوقَّع أن تكون الأحكام من الدماغ. لماذا؟
أظنّ أنّ جزءاً من الجواب هو أنّ العلماء لا يتحمّلون فكرة وجود ظاهرة طبيعية لا يستطيعون تفسيرها، حتى في فترة غير محددة وبتمويل غير محدود. هناك نوع من الدين في العلم؛ إنه دين شخص يؤمن بوجود نظام وتناغم في الكون، وكل حَدَث يمكن شرحه بطريقة عقلانية على أنه نتاج بعض الأحداث السابقة؛ كل نتيجة يجب وجود سبب لها؛ لا مكان لسبب أوّل. كتب أنشتاين: “العالم مسكون بحس السببية الشاملة”. هذا الإيمان الديني لدى العالم ينتهكه اكتشاف وجود بداية للعالم بشروط لا تسري عليها قوانين الفيزياء المعروفة، وكنتيجة لقوى أو أسباب لا يمكننا اكتشافها. عندما يحدث ذلك يفقد العالم السيطرة. إذا تفحّص الآثار تصيبه الصدمة. كالعادة، تحت الصدمة، ردة فعل العقل هي تجاهل الآثار، هذا ما يُسمّى في العلم رفض التكهّن، أو تتفيه أصل العالم بتسميته بيغ بانغ وكأن الكون كان مفرقعة نارية.
فلننظر في ضخامة المشكلة. لقد برهن العلم أن العالم انفجر في لحظة ما. السؤال هو ما السبب الذي أدّى إلى هذه النتيجة؟ مَن أو ما الذي بثّ المادة والطاقة في الكون؟ هل خُلِق الكون من اللاشيء أو تمّ تجميعه من مواد سابقة؟ لا يستطيع العلم الإجابة على هذه الأسئلة لأنّه، بحسب علماء الفلك، في لحظات وجود الكون الأولى كان الكون مضغوطاً إلى درجة غير عادية، ومستهلَكاً من حرارة نار تفوق الخيال البشري. في تلك اللحظة، المفروض أنّ الصدمة أبادت كل جسيمات الأدلة التي يمكن أن تسفِر عن فكرةٍ ما توضح سبب الانفجار العظيم. إن عالماً كاملاً غنياً بالبنية والتاريخ ربّما كان موجوداً قبل أن يظهر كوننا؛ ولكن إذا وُجِد لا يستطيع العلم أن يخبّر أيّ نوع من العوالم كان. قد يوجَد تفسير متين لولادة كوننا من انفجار لكن العلم لا يستطيع تحديد هذا التفسير، إن وُجِد. إن سعي العلماء نحو الماضي ينتهي في لحظة الخلق. هذا تطور غريب للغاية، لا يتوقعه أحد، إلا اللاهوتيين الذين يقبلون دائماً كلمة الإنجيل: “في البدء خلق الله السماء والأرض”، ما أضاف إليه القديس أوغسطين: “مَن يستطيع فهمَ هذا السر أو شرحه للآخرين؟” هذا غير مُتوَقَع. لقد نجح العلم استثنائياً في تعقب سلسلة السبب والنتيجة ارتجاعياً في الزمن، فكان بمقدورنا ربط ظهور الإنسان على هذا الكوكب بعبور عتبة الحياة، وتصنيع المكونات الكيميائية للحياة في نجوم انقضت منذ فترة طويلة، وتشكّل تلك النجوم من السحب البدائية، وتوسع سحابة الغازات الأم وتبريدها من كرة النار الكونية. الآن، نود أن نتابع هذا التحقيق بالعودة في الزمن إلى أبعد من ذلك، ولكن العائق أمام المزيد من التقدم يبدو مستحيلاً. لا يتعلّق الأمر بسنة أخرى من العمل أو بعشر سنوات، ولا بنظام مقاييس آخر أو نظرية أخرى. في هذه اللحظة، يبدو وكأنّ العلم لن يكون قادراً على رفع الستار عن سر الخلق. بالنسبة للعالِم الذي عاش إيمانه بقوة العقل، تنتهي القصة وكأنها حلم مزعج. لقد تسلّق جبال الجهل وهو على وشك أن يغزو أعلى قمة؛ وفيما يسحب نفسه على الصخرة الأخيرة، تستقبله جماعة من اللاهوتيين الذين كان يجلسون هناك لعدة قرون.
* Robert Jastrow, God and the Astronomers, Chapter 6: “The Religion of Science”
** روبرت جاسترو (1925 – 2008) هو عالم فلك أميركي، عالم فيزياء ودارس في الكونيات (cosmologist). كان من علماء الناسا (وكالة الفضاء الأميركية) المميزين، كاتباً شعبوياً ودارساً للمستقبل (futurist). لقد عبّر عن آراء مهمّة حول الخلق. فهو مع كونه “لاأدري وغير مؤمن”، لكنّه كان يرى أنّ “الستار المطروح على سرّ الخلق لن يرفعه الجهد البشري، أقلّه في المستقبل المنظور” بسبب “نتائج البيغ بانغ التي هي محرقة أتلفَت كلّ مدوّنات الماضي”. في مقابلة مع المسيحية اليوم (Christianity Today)، قال جاسترو “يجد علماء الفلك اليوم أنّهم لوّنوا أنفسهم في زاوية لأنّهم أثبتوا، من خلال أساليب خاصة بهم، أن الكون بدأ فجأة من فعل خلقٍ يمكن أن نردّ إليه بذار كل نجمة وكل كوكب وكل كائن حيّ في هذا الكون وعلى هذه الأرض. وقد وجدوا أنّ كل هذا تمّ كنتاج لقوى لا يتمنون أن يكتشفوها. ما أسميه أنا أو أيُّ شخص آخر وجودَ قوى فائقة الطبيعة تعمل، هو الآن على ما أرى حقيقة مبرهنة علمياً.”
اقتباس آخر من روبرت جاسترو: ” ليس لدى العلماء دليل على أن الحياة لم تكن نتيجة لفعل الخلق، ولكنّهم مُحرَّكون بطبيعة مهنتهم للسعي إلى تفسيرات لأصل الحياة تقع داخل حدود القانون الطبيعي” (The Enchanted Loom: Mind in the Universe, (1981), p. 19.).