المسيحيّ والالتزام
الأب نقولا مالك
« كَانَ لإِنْسَانٍ وَلَدَانِ. فَقَصَدَ أَوَّلَهُمَا وَقَالَ لَهُ: يَاوَلَدِي، اذْهَبِ الْيَوْمَ وَاعْمَلْ فِي كَرْمِي! فَأَجَابَ: لاَ أُرِيدُ. وَلَكِنَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ نَدِمَ وَذَهَبَ. ثُمَّ قَصَدَ الرَّجُلُ وَلَدَهُ الثَّانِي وَقَالَ لَهُ مَا قَالَهُ لِلأَوَّلِ. فَأَجَابَ: لَبَّيْكَ يَاسَيِّدِي! وَلَكِنَّهُ لَمْ يَذْهَبْ. فَأَيُّ الاِثْنَيْنِ عَمِلَ بِإِرَادَةِ الأَبِ؟» فَقَالُوا: «الأَوَّلُ!» فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ العشّارِينَ وَالزَّوانِيَ يَسْبِقُونَكُمْ إِلَى مَلَكُوتِ اللهِ.(مت 28:18- 31).
* رُبَّ مسيحيٍّ يسأل: ألا يكفي أن أكونَ مسيحيًّا مستقيمَ العقيدة؟ فيُغنيني فكريَ المستقيمُ عَنِ التَّمَسُّكِ بِتَفاصيلِ الصَّومِ والصَّلاة والعبادة؟
أو: أَنا مُلْتَزِمٌ طُقُوسَ الكنيسةِ وتقاليدَها، فهلْ يَنقُصُني شيءٌ بَعد؟ أَلَسْتُ مؤمنًا كاملاً؟
أو: أنا أقومُ ببعضِ الأعمالِ الخيريّة، وأتجنّبُ الأُمورَ السَّيِّئة. فما حاجتي إلى النّقاشاتِ اللاهوتيّة الّتي تسبِّبُ الصُّداع. أَفَلَيسَ الدِّينُ “معاملة”؟
* مِنَ جِهة، يجبُ أن نؤكِّدَ على أنَّ المسيحيَّةَ دِيانةُ حَياة.. عَيش.. تطبيق. وليست دِيانةَ تَرَفٍ فِكريّ. ولو أنّ التَّرفَ الفكريَّ يُنشئُ ديانةً حقيقيّةً، لكانتِ الوثنيَّةُ خَيرَ ديانة، لأَنّها أنجبت فلاسفةً عُظَماء. فصحيحٌ أنَّ التَّصديقَ شَرطٌ أساسيٌّ لِقَبُولِ البِشارة، وتالِيًا الإيمان، وتالِيًا تَبَنِّي التَّعالِيم والعقائد؛ إلاّ أنَّ هذا كُلَّهُ لَيسَ مِن بابِ الغَرَقِ في النَّظَرِيّات على حِسابِ الحَيِّزِ العَمَلِيّ.
فالرَّبُّ الّذي قال: “فَمَن آمَنَ واعتَمَدَ يَخلُصُ، وَمَن لم يُؤمِنْ يُدان”، لم يَقصدْ بهذا الكلامِ الإيمانَ النَّظَرِيّ؛ لأنَّهُ أيضًا القائل: “ليسَ كُلُّ مَن يقولُ لي يا رَبُّ يا رَبُّ يدخلُ ملكوتَ السَّموات، بَلِ الّذي يعملُ مشيئةَ أبي الّذي في السَّموات” (مت 21:7). وهو الّذي شَبَّهَ الّذي يسمعُ أقوالَهُ ويعملُ بها بإنسانٍ حكيمٍ بنى بيتَهُ على الصَّخر (مت 24:7).
وَبُولسُ الرَّسولُ الّذي تَوَجَّهَ إلى أهلِ روميةَ بدعوةٍ مُلِحَّةٍ للإيمانِ، مُرَكِّزًا على أهَمِّيَّتِهِ الكُبرى، وَمُستَشهِدًا بِما وَرَدَ في سِفرِ التَّكوين: “فآمَنَ إبراهيمُ فَحُسِبَ لَهُ ذلكَ بِرًّا” (رو 3:4)، هُوَ نفسُه القائلُ، في الرِّسالةِ عينِها: “المَجدُ والكرامةُ والسَّلامُ لِكُلِّ مَن يَفعَلُ الخَير” (رو 10:2).
ويعقوبُ أخو الرَّبِّ الَّذي عَلَّمَنا في رِسالَتِهِ أَنَّ “طِلْبَةَ البارِّ تَقتَدِرُ كثيرًا في فِعلِها” (يع 15:5)، أَوضَحَ لَنا، في الرِّسالةِ عَينِها أَنَّ الإِيمانَ بِدُونِ أعمالٍ مَيت” (يع 19:2).
وَبِاختِصار، نُكَرِّرُ أَنَّ المسيحيَّةَ هِيَ دِيانَةُ حَياةٍ، على حَدِّ تَعبيرِ رَبِّنا: “أمّا أنا فقد جئتُ لتكونَ لَكُم حياةٌ، بَلْ لِتَكُونَ لَكُمْ أَوفَر” (يو 10:10)، “وأمّا هذه فقد كُتِبَتْ لِتُؤمِنُوا بأنَّ يسوعَ هُوَ المسيحُ ابنُ الله، ولكي تكونَ لكُم إذا آمَنتُم حَياةٌ باسمِهِ” (يو 30:20).
* مِن بَعدِ هذا الكلام، نَقُولُ إنَّ الأَساسَ في عَيشِ المسيحيَّةِ هُوَ المَحَبَّة: مَحَبَّةُ اللهِ لَنا، الَّتي نَسعى، بِقَدْرِ طاقَتِنا، لاِستِيعابِها والجَوابِ المُوافِقِ لَها، عَن طَريقِ التَّعبيرِ الفِعليّ عَن محبَّتِنا لله.
فاللهُ عَبَّرَ عَن محَبَّتِهِ لَنا: بالخَلقِ، وبإرسالِ الأنبياء، وَبالتَّجَسُّد، وَبِخَوضِ الآلامِ والصَّلب.
مِنْ هُنا كانَ الالتِزامُ المسيحيُّ عمليَّةَ تَجاوُبٍ مَعَ مَحبّةِ الله، لا مُجَرَّدَ واجباتٍ أَو فُرُوض، وَلا مِن بابِ اللَّياقةِ الاجتماعيّة، أَوِ المُقايَضَةِ القانونيّة.
الالتزامُ المسيحيُّ أقوى مِن كلِّ ما ذُكِرَ، لأَنَّهُ يَنطَلِقُ مِن مَبدَإِ المَحَبَّةِ الّتي تُسَبِّبُ الحَياة، وهذِهِ المحبَّةُ أقوى مِنَ الموت “فَمَن يَفصلُنا عن مَحَبَّةِ المسيح؟ أَشِدَّةٌ؟ أَم ضِيقٌ؟ أَم جُوعٌ؟ أَمْ عُرْيٌ؟ أَم خَطَرٌ؟ أَمِ اضطِهادٌ؟ أم سَيفٌ؟ وَكَما كُتِبَ: إِنَّنا مِن أجلِكَ نُماتُ النَّهارَ كُلَّهُ، وَقد حُسِبْنا مِثلَ غَنَمٍ لِلذَّبح. لكِنَّنا في هذِهِ كُلِّها تَشتَدُّ غَلَبَتُنا بالّذي أَحَبَّنا. فَإِنِّي لَواثِقٌ بِأَنَّهُ لا مَوتٌ وَلا حَياةٌ، وَلا ملائكةٌ وَلا رئاساتٌ، وَلا قُوّاتٌ، وَلا أشياءُ حاضرةٌ وَلا مُستقبَلَة، وَلا عُلُوٌّ وَلا عُمقٌ، وَلا خليقةٌ أُخرى تَقدرُ أن تفصلَنا عن محبَّةِ اللهِ الّتي في المسيحِ يَسُوعَ رَبِّنا” (رو 35:8-39).
* مدى الالتزام المطلوب:
في سائرِ أُمُورِ الحياةِ نحنُ نلتزِمُ بِدِقَّةٍ. مَثَلاً: مَعَ الطَّبيب.. مَعَ الزُّمَلاءِ.. مَعَ الجِيران… فَلِماذا لا نلتزمُ مَعَ الرَّبِّ بِالأَوْلى؟!
عليكَ أوَّلاً أن تُحَدِّدَ موقِفَكَ مِنَ المسيح: “أَتُحِبُّني؟” (يو 15:21). فإذا كانَ جوابُكَ إيجابًا، لا يُمكِنُكَ أن تُحِبَّ بَعضَ الحُبِّ، بل عليكَ أن تُحِبَّ المسيحَ فَوقَ كُلِّ شيء، وَقَبلَ كُلِّ شيء. والّذي يمنعُكَ مِن هذا الالتزام الكامل هُوَ انشِغالُكَ بالدُّنيا: بِشَهَواتِها..
معرفةُ الحقّ الّذي في المسيحِ ليست شيئًا نَظَرِيًّا، بل هِيَ قُوَّةٌ فائقة، قوّةٌ مُحَرِّرة، يَفُوقُ سُلطانُها قُوَّةَ الفعلِ والمنطقِ والإرادةِ والطَّبْعِ والعادة. فَقُوّةُ الحقّ الّذي نَنالُهُ مِن المسيحِ هِيَ قُوَّةُ حَياةٍ تتحدّى الموت.
بِهذه القُوَّةِ واجَهَ الشُّهَداءُ الموتَ، مُستمدِّينَ القوّةَ مِن معرفةِ الحقِّ الّذي في المسيحِ الّذي أَحَبُّوه. وَلَمْ يَدْرِ مُعَذِبُوهُم أَنَّ الحَقَّ الّذي فِيهِم حَرَّرَهُم مِن كُلِّ ارْتِباطاتِهِم بالدُّنيا، وَمِنَ الخَوفِ مِنَ الموت، فَكانَ دَمُهُم شَهادَةً لِصِدْقِ اخْتِبارِهِم الرُّوحِيّ.
فَلْنَلْتَزِمْ حَياةَ المسيح، طالِبِينَ المَجْدَ الّذي مِن عِندِه، وَمُفَضِّلِينَ إيّاهُ على مَجدِ النّاس.
حديث في رعيّة بشمزّين، الجمعة 23|2|2007