نيقولاوس، مطران ميسوغيا ولافريوتيكي
نقلها إلى العربية الأب أنطوان ملكي
في أحد الآباء القديسين، كتب الميتروبوليت نيقولاوس، مطران ميسوغيا ولافريوتيكي، رسالة رعائية مفيدة ومتزنة، حول اللقاء الذي تمّ بين بطريك القسطنطينية وبابا روما بمناسبة العيد الخمسين لرفع الحرم بين الأرثوذكس والكاثوليك.
إلى كهنة الرعايا الورعين والشعب التقي في أبرشيتنا المقدسة
أيها الآباء والإخوة
لقد أنهينا لهذه السنة موسم الفصح وها نحن الآن ننتظر العنصرة. إن نفوسنا تتنقّل بين فرح قيامة السيد ورجاء نعمة الروح القدس. “المجد لله على كلّ شيء“. أتمنّى للجميع نعمة المعزّي الغنية… وكما هو الحال دائماً، توتر الانقسامات بيننا يتبعه تحدي الوحدة والجهود المشتركة، حتّى أننا معاً نواجه انقضاض حياتنا اليومية التي لا تطاق…
إلى هذا، لقد خُتم الأحد الماضي حدثٌ ذو وجه كنسي: اللقاء بين بطريركنا المسكوني برثلماوس وبابا روما فرنسيس في أورشليم، أمام القبر المقدس، بعد خمسين سنة من رفع الحرم. لقد غطّت وسائل الإعلام الحدث وتكلّمت عن المحبة والمصالحة والمسامحة والفهم المتبادَل والتقدم في العلاقات بين الكنائس. بعض الأصوات الأخرى تحدّثت عن خيانة الإيمان والتسوية والولاء لمبادئ العصر الجديد والتوفيقية العالمية.
لأن كلاً من هذه الأشياء قد يعبّر بحد ذاته عن جزء من الحقيقة، لكنها معاً قد تكفّن أسرارها أو تقود أفكارنا وحسّنا الإيماني في الاتجاه الخاطئ، شعرتُ على ضوء مسؤوليتي الروحية بالحاجة إلى التواصل معكم كوني أسقف هذه الأنحاء.
مَن يستطيع أن يجادل بأن المحبة والمسامحة والمصالحة هي مفاهيم مضادة لحقيقة الإنجيل؟ ما الفائدة من المحافظة على الحرم لقرابة الألف سنة، وقد حُرِم المجتمع وقُطِع من جسد كنيستنا المقدسة ملايين من الغربيين على مدى القرون إلى اليوم؟ من جهة أخرى، كيف يمكننا أن ننكر الانقسام الرهيب في القرن الحادي عشر والذي أدّى إلى الانتشار غير المسؤول للعقائد والتعاليم الهرطوقية التي صارت متجذّرة في مجمل حياة المسيحية الغربية وفي آخر الأمر شوّهت وجه المسيح مدمرة روح الإيمان ومسببة انهيار معنى السر؟ كيف يمكننا أن ننكر النتيجة التي هي انحطاط الإيمان إلى حد قبول آراء مسيحية متنوّعة، حيث استُبدِل مجتمع الله بعاملين اجتماعيين، والكنيسة صارت ديناً، واللاهوت صار تخميناً، والإعلان الإلهي صار حججاً كلامية من دون أي مقاومة جوهرية؟
لا نظلم الحقيقة إذا قلنا أن الغرب بعد قطع الشركة مع كنائس الشرق، وفي الجوهر انفصاله عن الجسد الكنسي، تغرّب واقتيد بشكل لا يمكن تلافيه إلى الضلالات، ومزّق الإيمان في كلٍ من اعترافه وخبرته وأضعَفَ عملَ النعمة، لأنّه استبدلها بالجهاد الأخلاقي. هذا ما قاله قديسون أمثال غريغوريوس بالاماس ومرقس أفيانيكوس (أسقف أفسس) اللذين جاهدا كثيراً لكي يجلبا إلى النور الاختلافات بين الأرثوذكسية (الرأي المستقيم) والبابوية ذات الرأي الفاسد (cacodoxy).
إن البرهان على أن الغرب ما زال إلى اليوم يسبح، بشكل لا شك فيه، في بحر من الأخلاقيات الفاسدة والخديعة والمعتقدات الهرطوقية، هو أنه يجد صعوبة في فهم القديسين اللاهوتيين المذكورين أعلاه، كما في فهم الأرثوذكسية، ما ينتج عنه أن تواصلَنا مع الغرب يتطلّب حوارات لا تنتهي ولا تحسم أيَّ أمر. لهذا مسؤوليتنا الأولية هي في أن لا نواجه وندين تراثهم ذا الرأي الوخيم، بل بمحبة وألم واتّضاع أن نعترف بالإيمان الأرثوذكسي ونفعّله في داخلنا.
ما يفصلنا في الجوهر أيها الإخوة الأحباء ليس تأكيد الأولوية ولا نتائجها التاريخية الحزينة كالحملات الصليبية، ولا حتى الجراح العميقة المسببة من خديعة الاتّحادية (Unia) المنظّمة، ولا حتى الأنواع المختلفة من الممارسات الليتورجية والأسرارية. بالطبع، كل هذه الأمور هي مخالفات عظيمة وقد سببت جراحاً عميقة، لكن يمكن حلّها في كنيستنا. لهذا السبب، مبادرات المسامحة في هذالاتّجاه هي مباركة بالتأكيد طالما لا تتعارض مع استقامة الخُلُق والعقيدة الأرثوذكسيين.
أسوأ ما في الأمر هو أن مفاهيم مثل السرّ، النعمة، التواضع، المحبة، الحقّ، واللاهوت صارت عبارات مجرّدة من معناها الروحي وجُفِّف محتواها، وقد أنزِلَت إلى مجرّد عبارات دهرية ذات غطاء ديني. وبالنتيجة، شوّهت هرطقة الغرب وجهَ المسيح وجعلت وجه الإنسان بشعاً. كيف لنا أن نتجاهل هذه الأمور؟ نحن لا نتجاهلها ولا ينبغي أن نتجاهلها. مع هذا، إلى جانب كل هذه الأمور يوجد حقيقة مأساوية. خطأ الغرب الفاجع يتمّ تحويله إلى الشرق. لقد فقد الغرب إيمانه. الشرق ما زال إلى اليوم يتمسّك بالإيمان الأرثوذكسي، لكنني أتساءل إلى أي مدى نحن نعيشه؟ وإذا كانت حياتنا غريبة عن إيماننا، نكون ربّما أسوأ منهم لأنهم فقدوه عن جهل. فبدل الصراخ بنبرات هجومية ضد الغرب، ربّما ينبغي أن نوبّخ أنفسنا؟ بالحقيقة، ما نفع الدفاع عن إيمان ليس مثبّتاً في حياتنا؟ أي منفعة هي في توبيخ الآخر الذي وُلِد وتربّى بتلك الطريقة، حين لا نوبّخ تناقضنا؟
قد تكون الحاجة بشكل رئيسي في العلاقات بين المسيحيين، ليس إلى توبيخ ضلال الغرب بلا هوادة، ولا من جهة الأخرى إلى الاندفاع في إظهار علاقات وديّة غير ناضجة، بل بالأحرى إلى الاعتراف الصريح بالإيمان الأرثوذكسي وتوجيه الدعوة المتواضعة للغربيين إلى هذا الإيمان. في نهاية المطاف، قد يحيا الغربيّ الإيمانَ بشكل أفضل من شخص حافظ عليه ولم يعِشه في حياته اليومية، فهم يجهلون الخُلُق (الروحية) والتعليم لكنهم قد يكونون جديّون في البحث عن الحقيقة. ما نحتاجه هو الوحدة في التواضع بالنسبة لنا نحن الأرثوذكسيين والاعتراف بمحبتنا للعالم وغير الأرثوذكسيين.
قبل لوم الآخرين على أخطائهم علينا أن نتوب على قلّة شهادتنا. إن لم يرَ الآخرون الفرقَ في حياتنا كيف لهم أن يتعرفوا على عقائدنا؟ إن لم يعترف الغرب باتّضاعٍ بانحرافاته العقائدية وحاجته للعودة إلى ملء الحق، ومن الجهة المقابلة إن لم يحيَ الشرق الأرثوذكسي بركةَ ثروته اللاهوتية التي هو مسؤول عنها، ولا يميّز الحاجة إلى التوبة عن شهادته غير المنسجمة مع لاهوته، فلن يكون للحوارات والصلوات غير الناضجة واللقاءات المشتركة أي صفةٍ سوى الدهرية في التخاطب، فيما هي تعمّق الالتباس وتبعد كلاً منا عن الحق الخلاصي.
أيها الإخوة، “اِسْهَرُوا. اثْبُتُوا فِي الإِيمَانِ. كُونُوا رِجَالاً. تَقَوَّوْا. لِتَصِرْ كُلُّ أُمُورِكُمْ فِي مَحَبَّةٍ.” (1كورنثوس 13:16-14).
مع الدعاء والمحبة الوافرة في الرب
نيقولاوس، مطران ميسوغيا ولافريوتيكي