مقاربة روحية لشبكات التواصل الاجتماعي *
الأب أنطوان ملكي
في السنوات العشر الأخيرة اعتدنا على أن تكون محاضراتنا حول شبكات التواصل الاجتماعي والإنترنت مليئة بالأرقام والنسب المئوية والإحصائيات: كذا بالمئة عندهم وكذا يستعملون وكذا تعرضوا لهذا وكذا اختبروا ذاك وغيره. اليوم صارت هذه الشبكات تعمل ثورات: من اسبوعين تويتر في تركيا، ثورة مصر، دور الشبكات في تجنيد الأصوليين… واليوم هذه الشبكات جلبت البسمة إلى الكثير من البيوت: التواصل مع الشيوخ والمغتربين، الأشخاص الذين انقطعنا عنهم لزمان طويل وغيره
اليوم في نيسان 2014 عدد مستعملي شبكات التواصل الاجتماعي (فايسبوك وتويتر وغيرها…) 3 مليار إنسان من 7 مليارات. أمام هذه الأرقام لم يعد للإحصائيات أي معنى: كم واحد يستعمل فايسبوك وكم واحد يستعمل تويتر، كم واحد يستعملها على الكومبيوتر وكم واحد على التليفون، هذه كلها نتركها للدراسات التي نادراً ما تتطرق إلى الأمور الروحية.
المهم اليوم هو تأثير هذه الشبكات: صار لدينا نمط جديد من الحياة ومن العلاقات. أزور شخص فيستقبلني فيما هو يفقص على هاتفه، ألبّي دعوة عشاء وما أن أعود إلى البيت حتى يكون أهل بيتي، وكل ضيعتي، يعرفون كم لقمة أكلت لأن أحد الموجودين كان يعمل streaming على اليوتيوب أو غيره. كل موضوع الخصوصية صار مختلفاً اليوم نقرأ خواطر على الفايسبوك لا نتخيّل سماعها وجهاً لوجه ولا حتّى في جلسة اعتراف. الناس صارت جاهزة لنشر عواطفها وأحاسيسها على شبكات التواصل الاجتماعي. البعض يزعلون إذا ما عملنا لهم like وغيرهم يأخذ مواقف إذا عملنا share لشيء ما أو لم نعمل لغيره.
من جهة أخرى، اليوم صار هناك علوم خاصة بالإنترنت وبالشبكات هناك internet science، ومنه يتفرّع علوم كثيرة سوف أحكي عن واحد فقط منها هو علم النفس السيبراني cyberpsychology وهو علم يهتمّ بدراسة ومعالجة التأثيرات النفسية الناتجة عن استعمال الانترنت وشبكات التواصل الاجتماعي: اليوم هناك مراهقون يُصدَمون، يتعرّضون للعنف، وحتّى ينتحرون، لأنهم لم يحصلوا على ما يرغبون به من likeأو لأن غيرهم حصل على أكثر منهم. حادثة قتل في المكسيك. سوف نعود إلى هذا العلم.
أمام هذا الواقع، ضروري أن نقف ونتأمّل. هنا يجب أن نصرخ بصوت عالي كلنا أهل ورعية وحركة وكشاف ومجتمع وبلدية: هل علينا أن نقبل بذلك؟ هل نحن محكومون بقبول هذا؟ الرسول بولس يقول: “أمّا الروحي فيحكم في كل شيء، وهو لا يُحكم فيه من أحد” ( اكو 2 : 15 ) .
نحن أناس روحيون لأننا لبسنا الروح القدس في المعمودية ولا يليق أن نتعاطى الأمور فقط على حدود العلم العالمي أو الطب النفسي أو علم الاجتماع. لهذا، عندما نحكي عن مقاربة روحية يعني أننا مهتمون بالتأثير الروحي أي تأثير شبكات التواصل الاجتماعي على حياة المؤمن الروحية.
هنا سوف يأتي مَن يقول لنا: نحن نستعمل شبكات التواصل الاجتماعي لتوزيع الأخبار لنشر المعلومات لإيصال النشرات. البعض يصله كل صباح على هاتفه آية إنجيلية تكون لليوم، البعض مشتركون بالسنكسار اليومي والإنجيل اليومي، يستمعون إليه أو يقرؤونه، البعض الآخر يسمع عظات، غيرهم يحضر قداديس، وآخرون يستمعون إلى تراتيل أو يحضرونها أو غيرها، هناك مجموعات تسأل أسئلة وكهنة يجيبون، هناك شبكات نطلب عليها صلوات وغيرها نسترشد فيها وغيرها…
كل هذه الأمور قد تكون مفيدة وقد لا تكون. وبقدر ما تتقدّم التكنولوجيا سوف تزداد هذه الخدمات وتتّسع رقعة استعمالها من حيث عدد المستعملين وعدد المساهمين من الأفراد، كهنة ورهبان وعلمانيين، أو المؤسسات كالأديار والفرق والمطرانيات ومكاتب التعليم الديني ومنها الحركة والكشاف وغيرهم.
هنا ضروري أن نشير إلى أكثر من خطر يأتي من هذه الممارسة: 1) الاكتفاء بهذه الممارسات 2) غياب المرجعية (كل ديك على مزبلتو صيّاح).
لكن هل هذه هي الحياة الروحية؟ يحدد الآباء الحياة الروحية بأنها الطريق إلى الله، طريقة الحياة التي توصل إليه، عن طريق التطهر، الاستنارة والتألّه. والحياة الروحية لا يسلكها إلا المصلّي. والصلاة ليست عملية استماع ولا هي عملية حفظ كلمات أو تكرارها. إنها دخول الكلمات إلى العقل والسكن فيه إلى أن تنزل إلى القلب وتصير صلاة قلبية. المصلّي الحقيقي هو مثل إنسان مأخوذ بفكرة ما كلّما تذكّرها يهف قلبه. إنها عندما يصير ذكر الله هذه الفكرة التي لا تفارق ذهننا وتسبب استدعاء اسمه في قلبنا بشكل دائم. لهذا لا يمكن أن تتم الصلاة بالاستعجال. يجب أن تأخذ وقتها.
هنا سوف أعود إلى علم النفس السيبراني لأرى أهم أعراض إدمان شبكات التواصل الاجتماعي
- قضاء 4 ساعات أو أكثر باليوم في استعمالها
- إدخال الهاتف أو الكومبيوتر إلى الحمام
- أول عمل وآخر عمل في اليوم هو تفحص الشبكة
- الاستغناء عن نشاطات العائلة والزملاء والأصحاب (العزلة)
- القلق والتلهّف عند انقطاع الانترنت أو تعذّر الوصول إلى الهاتف (التعلّق – الاعتماد – التبعية)
- الإحساس بالمرض الجسدي عند انقطاع الانترنت أو تعذّر الوصول إلى الهاتف
جدير بالذكر أن هذه الأعراض لا تنطبق على مَن هم دون ال18 فقط ولا تتوقف عند طبقة اجتماعية أو وضع عائلي أو غيره. وهنا يصح التساؤل: إذا كان المدمن يقضي 4 ساعات فالذي يقضي ساعتين ماذا يكون؟
هنا يجب أن نسأل: أنتوقّع من الذي لا يترك التليفون من يده أن يصلّي؟ أيقدر الذي يدخل الهاتف إلى الحمام أن ينقل الصلاة من عقله إلى قلبه؟ حيث تكون كنوزكم تكون قلوبكم. هؤلاء كنوزهم في هذه الآلة وبالتالي قلوبهم.
قال الرب يسوع “قد سمعتم أنهُ قيل للقُدَماءِ لا تزنِ. وأما أنا فأقول لكم إن كل من ينظر إلى إمرأَةٍ ليشتهيها فقد زنى بها في قلبهِ.” مع المسيح لم تعد الخطيئة بالجسد فقط بل أيضاً بالفكر والنية والقول. القديس مكاريوس يؤكّد ومعه علم النفس أن الخطيئة تأتي غالباً من الذاكرة. لهذا نحن نصلي في البروجيازميني “أما عيوننا فلتنفر من كل منظر شرير وآذاننا فلا تطرقها أقوال بطالة“. ما الذي يراه ويسمعه الذي يقضي ساعات على هذه الشبكات؟
في الماضي كان بين الإنسان والتجربة (كالأفلام الإباحية أو القمار أو النميمة أو غيرها) مسافة كبيرة لكن اليوم هي فقصة زر ليس إلا. فما الذي يتعرّض له مَن يقضي ساعات أطول على الشبكات؟
ملاحظات ختامية
ضروري أن نفهم في تعاطينا مع موضوع الشبكات الاجتماعية بأن الشيطان ليس متفرجاً: ” لأنَّ إبليسَ خَصمَكُمْ كأسَدٍ زائرٍ، يَجولُ مُلتَمِسًا مَنْ يَبتَلِعُهُ هو“ (1بطرس 8:5). لذا مهم أن يكون الإنسان متيقظاً وعلى نفسه أولاً إذ ما من أحد فوق التجارب: ” إذًا مَنْ يَظُنُّ أنَّهُ قائمٌ، فليَنظُرْ أنْ لا يَسقُطَ.“ (1كو 12:10). ولا بدّ من اكتساب التمييز خاصةً في تحديد الخطأ من الصحيح وفي معرفة ما ينبغي عمله من غير ذلك: «كُلُّ الأَشْيَاءِ تَحِلُّ لِي، لكِنْ لَيْسَ كُلُّ الأَشْيَاءِ تُوافِقُ. كُلُّ الأَشْيَاءِ تَحِلُّ لِي، لكِنْ لاَ يَتَسَلَّطُ عَلَيَّ شَيْءٌ» (1كورنثوس 12:6). وهذا التمييز نفسه هو الذي يحمي الإنسان من الغرور الذي قد يجعله يقترب من الشر ظاناً انه فوق الوقوع، لكن ينبغي الانتباه بأنّ مجرد الخلطة مع الشرير هي شريرة: الاحتكاك بالشر مضرّ: ”إذ كانَ البارُّ، بالنَّظَرِ والسَّمعِ وهو ساكِنٌ بَينَهُمْ، يُعَذّبُ يومًا فيومًا نَفسَهُ البارَّةَ بالأفعالِ الأثيمَةِ“ (2بطرس8:2).
* محاضرة ألقيَت في رعية كوسبا خلال الصوم الكبير 4102