حوار بين الشيخ أبيفانيوس من دير والدة الإله الممتلئة نعمة/ أثنيا*
وبين أحد الملحدين
إعداد راهبات دير يعقوب الفارسي المقطع، دده – الكورة
كان الأب أبيفانيوس، ذات صباح، جالسًا يتحاور مع أحد الملحدين في قلاّيته حين جاء من يخبرهما بأنّ شوارع أثينا امتلأت من صور الزعيم الصينيّ ماوتسي تونغ مع كتابة تحتها تقول: “المجد للعظيم ماو“. فالتفت الشيخ إلى الشابّ، وقال له: “نعم، يا ولدي، لا يوجد في أيّامنا هذه ملحدون، فقط، بل عابدو أصنام، عابدو أشخاص، ينزلون المسيح عن عرشه، ليضعوا مكانه أصنامهم. نحن نقول: “المجد للآب والابن والروح القدس“، وهؤلاء يقولون: ‘المجد للعظيم ماو’. ولك أنت أن تختار بين الاثنين“.
+ الملحد: وأنتم أيضًا، أيّها الشيخ، تتناولون مخدِّر للأذهان، والفرق الوحيد هو أنّكم تطلقون عليه اسم المسيح، والآخر يسمّيه الله، وثالث يدعوه بوذا الخ…
+ الشيخ: المسيح، يا ولدي، ليس مخدِّرًا. المسيح هو الخالق، خالق الكون برّمته. هو الذي يسوس بحكمة كلّيّة الأشياء كلّها. هو الذي يمنح الحياة للجميع. هو الذي أتى بك إلى هذا العالم، ومنحك الحرّيّة التامّة، حتّى إنّه سمح لك بأنّ تشكّ به، وأن تجحده أيضًا.
+ الملحد: ولكنّ هذا لا يعني أنّ ما تؤمنون به هو صحيح وحقيقة، فهل لديك براهين على صحّة إيمانكم؟
+ الشيخ: أنت تعتبر أنّ كلامي هو مجرّد وهم أو حكايات، أليس كذلك؟
+ الملحد: بالتأكيد.
+ الشيخ: هل لديك أنت براهين على ذلك؟ أي هل تستطيع أن تبرهن لي بأنّ ما أؤمن أنا به هو ضلال وكذب وخداع؟
+ الملحد: …
+الشيخ: أنت لا تجيب لأنّه لا براهين لك. أنت تعتقد أنّها خرافات. أمّا أنا، فإن تكلّمت على إيماني، إنّما أتكلّم على الله. أنت ترفض إيماني، ولا تستطيع، بالوقت عينه، أن تبرهن صحّة إيمانك وحقيقته. ولكن يجب أن أوضّح لك أمرًا مهمًّا، وهو أنّ إيماني ثابت لا يستطيع أحد أن ينزعه منّي، لأنّه مؤسَّس على أمور تفوق الطبيعة.
+ الملحد: بما أنّك تتكلّم على الإيمان، فماذا تقول على إيمان البوذيّين أو غيرهم، فهم، أيضًا، يتكلّمون على الإيمان، ولهم تعاليم سامية في الأخلاق، فهل إيمانكم أفضل من إيمانهم؟
+ الشيخ: إنّك بسؤالك هذا تضع مقياسًا مهمًّا للحقيقة، لأنّ الحقيقة واحدة ووحيدة، إذ لا يوجد حقائق عدّة. ولكن من يملك الحقيقة؟ هنا السؤال الأهمّ والأكبر. ليس المهمّ، هنا، أيّ إيمان هو الأفضل أو الأسوأ. المهمّ، هنا، أيّ إيمان هو الإيمان الحقيقيّ. أقبلُ بأنّ بعض الأديان تعلّم تعاليم أخلاقيّة سامية، ولكن من البديهيّ القول بأنّ تعاليم المسيحيّة الأخلاقيّة تفوقها بلا قياس ولا حدود. نحن لا نؤمن بالمسيح من أجل تعاليمه الأخلاقيّة، ولا من أجل عبارته المشهورة: “أحبّوا بعضكم بعضًا“، ولا من أجل مواعظه وبشارته عن السلام والعدل والحرّيّة والمساواة. نحن نؤمن بالمسيح لأنّ حضوره على الأرض كان مرافقًا لحوادث وأمور تفوق على الطبيعة ما يعني أنّه الله.
+ الملحد: أنا أوافق على أنّ المسيح كان فيلسوفًا عظيمًا وأحد الثوّار الكبار، ولكن لا تجعل منه إلهًا.
+ الشيخ: يا ولدي، لقد اندثرت، على ممرّ الأجيال، أسماء الملحدين كلّهم. إنّ حسكة السمك التي وقفت في حلقهم، ولم يستطيعوا بلعها كانت بأنّ المسيح هو الله. معظم هؤلاء كانوا يتوجّهون إلى الله قائلين له: “لا تقل إنّك الإله المتجسّد، بل قل بأنّك إنسان بسيط، ونحن مستعدّون لأن نجعلك إلهًا. فلماذا تريد أن تكون إلهًا متجسّدًا وليس إنسانًا متألِّهًا؟ نحن مستعدّون لتأليهك، وبأن نكرز بك أنّك أعلى من كلّ البشر، وإنّك الأكثر قداسة، والأكثر خُلقًا، والأكثر نبلاً، الذي لا يُغلَب، الفريد المميّز بين البشر، أفلا يكفيك هذا كلّه؟“.
لقد أرعد أرنست رينان كبير الملحدين قائلاً إلى المسيح: “الآف السنين قد مرّت، وسنون، أيضًا، ستعبر، والعالم ما يزال يعلّيك. أنت حجر زاوية الإنسانيّة، حتّى إنّه إن أراد أحد أن يمحو اسمك من العالم، سيبدو وكأنّه يزعزع الزاوية. سوف لن تكفّ الأجيال عن أن تعترف بأنّه لم يولد بين بني البشر من يفوقك ويتجاوزك، ولكنّك، مع كلّ هذا، لست إلهًا“.
المشكلة هنا إمّا أن يكون المسيح الإله المتجسّد، وعندئذ سيكون سببَ الأخلاق الأفضل والقداسة الأسمى والنبل الأكمل للإنسانيّة، أو إنّه ليس إلهًا متجسّدًا، ولكنّه، بالحقيقة، لا يستطيع أن يكون غير ذلك. بل على العكس إن كان المسيح ليس إلهًا، عندئذ سيكون العالم أكثر شؤمًا وأكثر مرارة وأكثر كراهية على مدى تاريخ الإنسانيّة.
+ الملحد: ماذا تقول؟!!
+ الشيخ: نعم، أقرّ بأنّ كلامي ثقيل، ولكنّه الحقيقة كاملةً. ماذا يقول كبار رجال العالم عن أنفسهم، أو ما هي الصفة التي يطلقونها على أنفسهم؟ طبعًا المقدرة والعظمة. ولكن انظر إلى عظماء الكتاب المقدّس منذ عهد إبراهيم مرورًا بموسى ووصولاً إلى السابق وبولس يقولون عن أنفسهم بأنّهم تراب ورماد. بينما الحال معاكس بالنسبة إلى يسوع، لأنّه، وبما أنّه أعلى من الكلّ، يقول عن نفسه إنّه بلا خطيئة (يو 8: 46)، ويعطي لنفسه صفات سامية، فيقول: “أنا نور العالم” (يو 8: 12)، “أنا الطريق والحقّ والحياة” (يو 14: 6)، كما تنبّأ لتلاميذه بالعذاب والسجن والضرب، وبأنّهم سيُضطهدون من أجل اسمه، وبأنّ كلّ “من يثبت إلى المنتهى يخلص“، وبأنّ“كلّ من ينكره ينكره هو أيضًا” (متّى 10: 17).
والآن، أسألك، هل تجاسر أحد أن يطلب من الآخر أن يحبّه أكثر من حياته نفسها؟ وهل تجرّأ أحد أن يبرّأ نفسه من كلّ خطيئة؟ وهل أعلن أحد بأنّه هو الحقيقة المطلقة الكاملة. لا أحد على الإطلاق. فقط الإله يستطيع أن يقول كلامًا كهذا. تخيّل، مثلاً، أن يتكلّم ماركس هكذا، ألا يعتبره السامعون مجنونًا، ولن يوجد، تاليًا، من يتبعه؟ فكّر، أيضًا، بالآلاف الذين ضحّوا بحياتهم من أجل المسيح، فإن كانت بشارة المسيح كذبًا وضلالاً، فهل كانت تضحية الكثيرين من أجله ستستمرّ قرونًا؟ ثمّ أيّ رجل مهما كان عظيمًا ومقتدرًا وحكيمًا يستحقّ أن يقدّم أحد نفسه من أجله؟ لا أحد طبعًا. فقط إن كان إلهًا. ثمّ قل لي هل قال أحد عن نفسه أنا نور العالم؟ وأيّ شخص يطلب من تابعيه هذه التضحية سيكون الرجل الأكثر تطلّبًا في التاريخ، وهكذا يكون المسيح الرجل الأكثر ضراوة كي يتقبّل هذه الآلاف من التضحيات على ممرّ القرون، وتاليًا، تكون هذه التضحيات كاذبة لأنّها تُقدَّم لرجل كاذب. ولكنّ هذه التضحيات المستمرّة تبرهن على ألوهته للملحدين والجاحدين لاسمه.
+ الملحد: إنّ كلّ ما قلته مؤثّر جدًّا، ولكنّه لا يتعدّى عن كونه أفكارًا فقط، أو، بالأحرى، تاريخًا. ولكن ماذا عن ألوهيّة المسيح؟
+ الشيخ: لقد قلت لك سابقًا بأنّ ألوهيّته تكمن في تلك الحوادث الخارقة التي تفوق طور الطبيعة التي أجراها عندما كان على الأرض. المسيح لم يكرز بالأقوال، فقط، وإنّما قرنها بفعل العجائب أيضًا. لقد جعل العميان يبصرون، والشلّ يمشون، وأشبع من سمكتين وخمسة أرغفة خمسةَ آلاف رجل وامرأة وولد. أمر الرياح وعناصر الطبيعة، فأطاعته. أقام الموتى، ومن بينهم صديقه العازر بعد أربعة أيّام من موته. ولكنّ الأعجوبة الأكثر عظمة وأهمّيّة كانت قيامته هو نفسه.
إنّ المسيحيّة ترتكز على حدث القيامة، وهذا لا أقوله أنا، بل الرسول بولس (1كو 15: 17)، لأنّه إن لم يقم المسيح، كلّ شيء باطل، لا بل ينهار. ولكنّ المسيح قام، الأمر الذي يبرهن على أنّه إله الحياة والموت. إذن هو إلله.
+ الملحد: هل رأيت أنت هذا كلّه؟ وإن كان لا، فكيف تؤمن به؟
+ الشيخ: كلا. أنا لم أرَ، ولكنّ آخرين رأوا. إنّهم الرسل. لقد عاش الرسل هذا وعاينوه، ثمّ كتبوا لنا شهادتهم بدمهم، وكما تعلم أن شهادة الحياة والدم هي أسمى شهادة وأصدق حقيقة.
قدِّمْ لي برهانًا بأنّ ماركس مات ثمّ قام، وبأنّه قدّم حياته تضحية وشهادة لمبادئه، وأنا سوف أعتقد بكرامته.
+ الملحد: إنّ آلاف الملحدين تعذّبوا وماتوا من أجل مبادئهم وعقيدتهم، فلماذا، إذًا، لا تعتنقون الإلحاد؟
+ الشيخ: أنت قلته بنفسك. الملحدون ماتوا من أجل مبادئهم، ولكنّهم لم يموتوا من أجل وقائع جرت. من السهل جدًّا أن يتسرّب الضلال إلى أيّ مبدأ كان. قد تموت من أجل مبدأ، ولكنّه أمر آخر أن تموت من أجل وقائع. الرسل لم يموتوا من أجل مبدأ أو فكرة اعتنقوها، ولا لأنّهم سمعوا: “أحبّوا بعضكم بعضًا“، ولا لأجل تعاليم أخرى مسيحيّة. مات الرسل شهادةً لأحداث تفوق الطبيعة قد حدثت. وعندما نقول وقائع أو أحداث نعني حوادث جرت أمامنا وأحسسنا بها وأدركناها عن كثب.
يقول باسكال جملة في غاية الجمال والعمق معًا: “إنّ مع الرسل جرت ثلاثة أمور: إمّا خُدعوا، أو أنّهم خَدعوا، أو أنّهم قالوا الحقيقة“. ولنأخذ، الآن، الافتراض الأوّل، “قد خُدعوا“: لا يمكن أن يُخدع الرسل لأنّهم كلّ ما علّموا به لم يتلقّوه من آخر، بل من الربّ نفسه. هؤلاء كانوا شاهدي عيان، وشاهدي سماع. بالإضافة إلى أنّهم لم يكونوا خياليّين ولا نفسانيّين بالنسبة لحادثة القيامة مثلاً، بل على العكس كانوا مرتعدين خائفين مشكَّكين. والإنجيل المقدّس مليء بحوادث شكوكهم وخوفهم. ثمّ أسألك: من هم الرسل قبل أن يدعوهم الربّ؟ هل كانوا أصحاب أمجاد ومراتب، أو فلاسفة، أو ذوي مراكز وثروات، أو ذوي طموح بأن يغزو العالم بتخيّلاتهم وفلسفتهم؟ كانوا أشخاصًا أمّيّين صيّادين بسطاء، والأمر الوحيد الذي كان يشغلهم هو تأمين بعض السمك لعائلاتهم. ولهذا، فبعد صلب المسيح، بالرغم من كلّ ما سمعوا وشاهدوا، رجعوا إلى سفنهم وشباكهم.ولكنّهم بعد العنصرة، وعندما تقبّلوا نعمة الروح القدس صاروا معلّمي المسكونة.
الافتراض الثاني، “هل خَدعوا؟” أو بقول آخر هل كذبوا علينا؟ ولكن لماذا يخدعوننا؟ وماذا كانوا سيجنون من وراء كذبهم أو خداعهم؟ مالاً؟ مراتب؟ مجدًا؟ لكي يكذب أحدنا، فإنّه ينتظر فائدة ما يرجوها من وراء كذبه. لقد كرز الرسل بالربّ المصلوب والقائم، والأمر الوحيد الذي جنوه من هذه الكرازة كان التعب والضربات والشقاء والجوع والعطش والعري وأخطار اللصوص والسجن وأخيرًا الموت. أتراهم تحمّلوا هذا كلّه من أجل الكذب؟ لا شكّ إنّ كلّ من يفكّر هكذا أنّه أحمق.
بقي الافتراض الثالث “بأنّهم قالوا الحقيقة” وهنا يجب أن أشدّد لك على أمر هامّ ألا وهو أنّ الإنجيليّين هم الذين كتبوا لنا التاريخ الحقيقيّ الصادق. لقد كتبوا الحوادث كما جرت وحسب، ولم يكن لهم فيها أيّ رأي أو حكم، فهم لم يمدحوا أحدًا ولا أدانوا أحدًا ولا ذمّوا أحدًا. لقد تركوا للحوادث أن تتكلّم عن نفسها.
+ الملحد: ألا يمكن أن يكون موت المسيح موتًا ظاهريًّا أو كاذبًا؟ لقد كتبت الصحف والجرائد بأنّ أحد الهنود مات ودُفن وقام بعد ثلاثة أيّام، فماذا تقول عن هذا؟
+ الشيخ: لا بدّ أن أذكّرك بقول المغبوط أغسطينوس: “ملحدين أنتم ولستم مشكِّكين. أنتم سريعي التصديق. تقبلون بكلّ ما هو بعيد الاحتمال وغير منطقي ومتضادّ، لكي ترفضوا حدوث العجائب“. كلا، يا ولدي، لم يتظاهر المسيح بالموت. فشهادة بيلاطس البنطيّ ومجمع اليهود الذين ختموا القبر تؤكّد ذلك. المسيح مات فعلاً وحقيقة.
ثمّ إنّ الإنجيل يخبرنا أنّه في يوم القيامة بالذات رافق المسيح تلميذيّ عمواس التي تبعد عشرة كيلومترات عن أورشليم، فهل تعتقد أنّ المسيح بحاجة إلى أن يتظاهر بالموت بعد كلّ ما عاناه؟ وهل من الممكن لميت ذي ثلاثة أيّام أن يتحدّث مع تلميذيّ عمواس بوعي كامل ونباهة تامّة، وكأنّه لم يتلقَّ أيّ عذاب ولم يعانِ أيّ ألم؟ وأمّا بشأن هذا الهنديّ، فأرجو أن تحضره إلى هنا لكي نذيقه الضربات وتهشّم العظام ونسقيه خلاً ومرًّا ونضع على رأسه إكليلاً من شوك، ونضربه بالعصيّ ونفتح جنبه بحربة، ثمّ ندفنه، وإن قام (وهنا ضحك الشيخ) صحيحًا معافىً يكون لنا في شأنه كلام آخر.
+ الملحد: وهل توجد شهادة عن كلّ ما قلت من خارج جماعة التلاميذ، أي شهادة من مؤرّخين آمنوا بقيامة المسيح؟ إن وُجدت شهادة كهذه أؤمن أنا أيضًا.
+ الشيخ: يا لك من بائس. أنت لا تعلم ماذا تسأل. إن وُجدت شهادة كهذه سيكون الإيمان بقيامة المسيح إرغاميًّا، وتاليًا سترفضون هذه الشهادة كما ترفضون شهادة يوحنّا وبطرس… أسألك كيف يمكن لشخص أن يؤمن بقيامة المسيح ولا يصبح مسيحيًّا؟ أنت طلبت منّي أن أورد لك أسماء مؤرّخين، ولكنّي لن أورد لك سوى الرسل، لأنّهم هم المؤرّخين الحقيقيّين. ومع ذلك سأذكر لك واحدًا لا ينتمي إلى جماعة الرسل: إنّه بولس، فبولس لم يكن، فقط، من تلاميذ المسيح، بل كان مضطهدًا لكنيسة المسيح وتلاميذه، ألم يكن راضيًا على قتل استفانوس؟ ألم يجرّر نساء ورجالاً يؤمنون بالمسيح؟ ألم يذهب إلى دمشق بحجّة القضاء على كلّ من يؤمن بالبشارة الجديدة؟
+ الملحد: ولكنّهم يقولون بأنّ بولس الرسول أُصيب بضربة شمس، ولذلك كان يتوهّم كلّ ما حصل له.
+ الشيخ: إن كان ما تقوله صدقًا، كان يجب على بولس أن يهذي بموسى وإبراهيم وليس بالمسيح الذي كان يعتبره مضلِّل الشعب وخدّاعًا. تُرى هل تهذي امرأة مؤمنة ببوذا، أم بالقدّيس نيقولاوس والقدّيسة بربارة اللذين تتكلّم معهما باستمرار؟
ويجب أن أقول لك بأنّه تلفتنا في حياة بولس ثلاثةُ أمور: أوّلاً، المفاجأة، مفاجأة تحوّله من عدم الإيمان إلى الإيمان، فهو لم يأتِ إليه بواسطة شفيع أو وسيط. الأمر الثاني، إيمانه الشديد الخالي من الشكّ والتأرجح. وثالثًا، الإيمان مدى الحياة. فهل تظنّ أنّ هذه الأمور الثلاثة يستطيع أن يقبلهم إنسان مصاب بضربة شمس؟ إنّ هذه الأمور لا تفسَّر بهذه الطريقة، فإن استطعت اشرحْها لي، وإلاّ فاقبلْ الأعجوبة الحاصلة. ويجب أن تعلم أنّ بولس الرسول كان رجلاً بارعًا متفوِّقًا مثقّفًا، ولم يكن شخصًا لا يدري ماذا يحصل معه أو له.
ويجب أن تعلم أيضًا، أنّه عندما قال المسيح على الكنيسة “بأنّ أبواب الجحيم لن تقوى عليها” (متّى 16: 18)، كان تابعيه اثني عشر رجلاً صيّادًا. ومنذ ذلك الوقت مرّت آلاف السنين، ودُمِّرت أمبراطوريّات، وانهارت ممالك، وبطلت فلسفات، وتبدّلت علوم كثيرة، ولكنّ كنيسة المسيح بقيت ثابتة لم تتزعزع على الرغم من الاضطهادات المريعة التي هزّتها. ألا تعتبره هذا كلّه أعجوبة؟!
وأخيرًا ذكر القدّيس لوقا في إنجيله بأنّ العذراء مريم زارت أليصابات والدة السابق مباشرة بعد بشارتها. وبأنّ أمّ السابق غبّطتها بقولها لها: “مباركة أنت في النساء“. فأجابتها مريم: “تعظّم نفسي الربّ… وها منذ الآن تطوّبني جميع الأجيال” (لو 1: 48). أسألك، يا ولدي، مَن كانت العذراء مريم؟ فتاة محتشمة وقورة من الناصرة. مَن كان يعرفها؟ لا أحد. ومع ذلك، فمنذ ذلك الحين نُسيت أمبراطوريّات وطُفئت أسماء لنساء شهيرات، نُسيت زوجتا نابليون والإسكندر الأكبر ووالدتاهما، ولم يبقَ ذكر لواحدة منهما؟ ولكنّ ملايين الشفاه في المعمورة كلّها طولاً وعرضًا، وعلى ممرّ الأجيال، يسبّحون فتاة الناصرة المتواضعة ويعظّمونها: “يا من هي أكرم من الشاروبيم وأرفع مجدًا بغير قياس من السيرافيم…”، والأجيال القادمة، أيضًا، لن تكفّ عن تكريمها وتعظيمها، أليس هذا بأعجوبة؟! الكلام عينه نقوله عن الزانية التي دهنت قدميّ الربّ في بيت سمعان الأبرص. ألم يعدْها الربّ بأنّ ذكرها سيدوم؟ مَن كان تابعو المسيح وقتذاك الذين حوّلوا غير المتسطاع إلى مستطاع، ودام ذكرهم أعوامًا وأجيالاً وقرونًا، أليس هذا كلّه معجزات تنطق؟! إن استطعت اشرحْها لي، وإن لم تستطع، فاقبلْها.
+ الملحد: أعترف بأنّ براهينك كافية ومقنعة. ومع ذلك لدي أيضًا ما أسأله: ألا تظنّ بأنّ المسيح ترك عمله ناقصًا لكونه تركنا. فأنا لا أستطيع أن أفهم كيف أنّ إلهًا يستطيع أن يكون لا مباليًا تجاه مآسي البشر. نحن نعاني هنا على الأرض، وهو جالس في الأعالي لا يحسّ ولا يهتمّ.
+ الشيخ: كلا، لست مصيبًا في قولك ولا محقًّا. لم يترك المسيح عمله ناقصًا، بل على العكس إنّه الشخص الوحيد الذي أكمل عمله في تاريخ البشريّة حتّى النهاية حتّى إنّه لم يعد هناك ما يقوله أو ما يعمله. لقد تمّم رسالته كاملة.
حتّى سقراط كبير الفلاسفة، رغم أنّه قال الكثير الكثير طيلة حياته، فلو أنّه عاش أيضًا، سيبقى له ما يقول. فقط المسيح خلال ثلاث سنوات علّم ما كان يجب تعليمه، وعمل ما كان يجب عمله، حتّى إنّه قال على الصليب: “لقد تمّ“.
أمّا عن تركه إيّانا الذي أشرت إليه، فأنا أفهمك تمامًا. الكون من دون المسيح مسرح لكلّ ما يخالف الصواب. من دون المسيح لا تستطيع أن تشرح شيئًا ممّا يحدث الآن، فالأحزان والمظالم والإخفاق والأمراض، هذا كلّه يجعلنا نتساءل لماذا تحدث ولماذا ولماذا… وسوف نطرح آلاف المرّات كلمة لماذا دون أن نحصل على جواب يشفي غليلنا.
افهم ما أقول: لا يستطيع إنسان على وجه الأرض أن يقبل بمنطقه البشريّ ما يحصل. فقط من خلال المسيح تستطيع أن تفسّر وأن تقبل برضى. إنّ المسيح، من خلال هذه الحوادث كلّها، يجعلنا نستعدّ ليوم الدينونة، للأبديّة. ومن الممكن عندما نصل إلى هناك أن نحصل على جواب لكلمة لماذا.
المسيح، يا ولدي، لا يتركنا على الإطلاق. إنّه قريب منّا على الدوام يساعدنا ويسندنا إلى منتهى الدهور، ألم يقل: “ها أنا معكم كلّ الأيّام” (متّى28: 20)، وسوف تفهم هذا، أكثر فأكثر، إن أصبحت عضوًا حيًّا في الكنيسة، في كنيسته هو، وإن اشتركت في الأسرار المقدّسة، وعندئذ سوف ينيرك لتفهم “لماذا؟“.
+ الملحد: أشكرك. سأحاول، وسأفكّر بكلّ ما قلته لي. صلّ من أجلي.
* عن مقالة باليونانيّة.