هل نريد أن نكون مسيحيين من دون المسيح؟
فوتيوس كونتوغلو
نقلها إلى العربية الأب أنطوان ملكي
عندما تتحدث إلى أشباه المسيحيين عن نسك الجسد والروح محبةً للمسيح، يغضبون ويسمّونك فقيراً ووثنياً وبربرياً. إذا أردتَ أن تختبر إيمان مسيحيٍ ما، حدّثه عن النسك. سوف يحسّ المؤمن بالندامة، بينما الفاترون، أي أولئك الوهميون والكفار، سوف يعترضون. ماذا عن قول المسيح“طوبى للذن تركوا كل شيء وتبعوني” أو “ملكوت الله يُغتَصَب اغتصاباً” ،و “في العالم سوف يكون يكون لكم ضيق” أو “ضيّق هو الباب والطريق التي تقود إلى الحياة“؟
نحن نريد أن نكون مسيحيين من دون المسيح، من دون ضيق روحي، من دون حمل الصليب الصعب، ونفضّل سلوك الطريق الواسع. هؤلاء المسيحيون المزيفون، عندما تحدثهم عن حياة شاقة وفقيرة، عن التضحية، عن النسك، يجيبون بأن المسيح لا يريد هذه الأمور، وأنها سلوكات غريبة. لكن أيها الإنسان الأحمق، في المسيحية ما من شيء يفوق القدرة على عمله. فكل الكائنات البشرية يمكن القول بأنهم أصحاب سلوك غريب، لكن فقط في المسيحية لا يوجد هذا السلوك. أين غرابة السلوك في أن تحب مَن قتل أباك؟ أين الغرابة في أن تدير خدك الآخر؟ أين الغرابة في الازدراء والجوع والعطش، في أن تعمل ما يطلبه الله منك، كأن تحب قريبك وتتحدث بنعومة إلى مَن يصرخ في وجهك، ألاّ تدين الذي يدينك، أن تتواضع أمام أكثر الناس حرماناً، وفيما تقوم بكل هذه الأشياء تردد أنك “عبد بطّال“؟
ما هو الغريب في الإيمان بأن أجسادنا سوف تُقام كخالدةٍ بطرفة عين، وبأنّ العالم سوف يتغيّر فجأة، وعالماً خالياً من الفساد سوف يتحقق؟ أفي المسيحية أيّ شيء غريب؟ المسيحية هي أكثر الأمور صعوبة بين الأمور الصعبة، وأكثر ما يصعب تصديقه بين كل ما يصعب تصديقه. لهذا السبب، الباب الذي يدخل فيه الإنسان إلى بلد المسيح الغريب واحد لا غير: الإيمان. وفي الإيمان ما من شيء غريب، بينما في عدم الإيمان الحكمة الماكرة واللين والتسوية. لهذا السبب لا يستطيع أشباه هؤلاء المسيحيون الزائفون أن يحتملوا نار الإيمان، ولهذا حوّلوا المسيحة إلى نظام أخلاقي نافع في الحياة الأرضية لا حاجة له إلى المسيح. ولأن غير المؤمن خائف، فإن كلّ مَن يؤمن هو “كَشِبْل ثَبِيتٍ“ على حد قول النبي.
كلّ مَن يحب الله يكون مشتعلاً دون أن يظهِر ذلك، يفرح من دون ضحك، ويكون مسحوقاً في أعماق نفسه. المحبة التي علّمنا المسيح هي أمر يختلف عن الإحسان. لهذا السبب، لا يشعر “المحسنون” بمحبة المسيح هذه، التي هي “يَنْبُوعَ مَاءٍ يَنْبَعُ إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ”. الإحسان الذي يقوم به الناس في أيامنا هو مجرّد دَين اجتماعي. هؤلاء المحسنون، وكلّ الأشخاص العملانون، ليسوا مسيحيين.
مَن يحبّون المسيح وإنجيله يحبّون ما يستحق المحبة أكثر من أي شيء آخر. في المسيح يمكنهم أن يجدوا كل الأشياء التي تستحق الجهد: المحبة، التواضع، والألم، والوداعة، والحزن الروحي والفرح الروحي، وهما عذبان عندما يتمّا باسم المسيح. “ تَعَالَوْا إِلَيَّ يَا جَمِيعَ الْمُتْعَبِينَ وَالثَّقِيلِي الأَحْمَالِ، وَأَنَا أُرِيحُكُمْ”. يريحنا؟ نحن لا نريد حتّى أن نسمع هذا الكلام. نحن نريد أن نكون مثقَلين بأهوائنا، بأعدائنا، بحروبنا، بهموم طموحاتنا وجسدنا، بالدم الملوّث، بالأسلحة والمدافع والقنابل. ماذا نفعل من دون هذه الأشياء، أيها السيد صانع السلام (Mr. Peacemaker وهنا يقصد السياسيين لا الربّ: المترجم)؟ كيف نحيا بسلام؟ بماذا نملأ فراغنا، لأن الحياة بالنسبة إلينا هي هذه الأشياء؟ أنت تعطينا السلام، لكن السلام هو موت لنا، لأنه موت أهوائنا المحبوبةّ! إذا قلتَ “سوف أحمّلكم أحمالاً أخرى، لا تعرفونها؛ سوف أُغنِي نفوسكم بثروات أخرى، حتّى لا يكون لكم سلام“، فسوف نأتي إلى قربك آنذاك، تكون لنا إلهاً. نحن نريد آلهة تضع علينا الأحمال. آلهة انتقام، مثل آريس وزوس وكرونوس، آلهة تخدعنا مثل هرمس وغيرهم. نحن نريد أن نسلك في الشرّ كونه حيّاً وقوياً.
“نعم، تعالَ أيها الربّ“، يصرخ يوحنّا بفرح نحو الآتي على غمام في المجيء الثاني. لا بدّ من أن تكون قديساً أو بارّاً أو حتّى يوحنا لكي تفرح بمجيء المسيح وتنتظره. لكننا نصرخ “لا تأتِ أيها الربّ“. لأننا خطأة وسوف يأتي علينا غضب السيّد. نحن نفكّر بهذه الأشياء مع القنبلة الذرية. عندما يصبح الإنسان عارفاً يأتي الخوف على كل قلب. طوبى لمَن هم مستعدون في كل حين! ولكن للأسف، مَن مِثلُ يوحنا، الأكثر قداسة بين القديسين؟ كلنا نخشى أنك سوف تأتي كلصّ في الليل (لوقا 21).
إذا لعنتَ أحداً أيها الإنسان أو تناولتَه بالسوء في القول أو الكتابة فسوف يكون هناك وقت يسامحونك (أمر بعيد الاحتمال، انسَه أيها الأخ). مَن لن يسامحك سوف يكرهك ويعيش خجلاً ورحلة حياتك تكون له بمثابة توبيخ. الذين تذوّقوا سلام المسيح من كل قلوبهم، لا يعذّبون أنفسهم بأنهم فقراء، لأنهم طوعياً يشتهون الفقر، ويخسرون فرحهم عندما يصير لديهم ما هو فوق حاجتهم حتّى ولو كان أبخس الأشياء. وكلّ ما هو متواضع وفقير ومتعقل فإنهم يحبّونه في قلوبهم سرياً من دون أن يقولوا أي شيء لأحد، لأن المحبة المتواضعة تحبّ الصمت والخفية.
“الربّ قريب من منسحقي القلوب“. عندما تتناثر التجارب ويُفتَح باب الفرح الكاذب، يُغلَق باب الفرح الحقيقي. يشعر المسيحيون بذلك بشكل واضح.
صلاة
أشكرك أيها الرب الجزيل الرحمة. أمدحك، أمجّدك لأنك خلقتنا من العدم. أنت لم تخلقني مرةً وحسب، بل كل يوم أنت تخلقني من لا شيء، لأنّك تنقلني كل يوم من ظلال الموت التي أعود وأقع فيها. في هذا العالم الذي لا يسبر غوره، بين هؤلاء الناس النمل، أنا لا شيء. كل إنسان هو لا شيء. مع هذا، أنت تذكر كل إنسان وتبحث عنه وتعيده إليك، وتقيمه من الموتـ وتجدده بيدك الأبوية، وكأن كل واحد منّا هو وحده في العالم. إن قوتك الجبّارة تحفظ كل الخليقة وكل نفس وكأنها الوحيدة التي لا يوجد غيرها. وأنت تشعِرهم بالخلود كما لو كانوا الوحيديم، وهم يشعرون بأنك أب حنون لا يتعب من مسامحتنا وتجديدنا ويموت كل ساعة من أجل خطايانا.