مقاربة إنجيلية لأزمة العالم الماليّة
الأب أنطوان ملكي
يجمِع عدد من العارفين في حقول الاقتصاد والأنثروبولوجيا والأخلاق والسياسة والإعلام على أنّ الأزمة الاقتصادية، الحاضرة اليوم في أغلب بقاع الأرض، سببها أخلاقي بالدرجة الأولى. فالأفراد كما الدول والشركات والبنوك، تعاطوا في الفترة السابقة مع المال بطريقة غير أخلاقية مما أدى إلى تفاقم الديون ووصول الكثيرين إلى الإفلاس والبطالة. لقد تورّط العالم في موجة من الجري وراء الربح السريع فكثُر الحديث عن الاستثمارات والبورصة والمال، وصارت كل وسائل الإعلام مضخّات للمعلومات التي قد تعني مشاهداً أو مستمعاً ما، فيما هي في أغلب الأحيان أحجية للأغلبية الباقية. تطوّرُ شبكات الاتصال سمح للناس بالتنقل الافتراضي في الدنيا، فصار المواطن العادي قادراً على أن يشتري ويبيع في أي مكان من العالم. سقطت حدود البلدان، إن لم يكن فعلياً ففي الممارسة، عند الكثيرين وازدادت قدراتهم على الأحلام. كثيرون من الناس العاديين تحوّل جهدهم من الجري وراء الضروري إلى التفنّن في الترف. فقد نقل إليهم التليفزيون والمحطات العابرة للقارات صوراً ومشاهد قالت لهم أنّ بمقدورهم الحصول عليها: سيارات، هواتف محمولة، رحلات سياحية، وغيرها الكثير. وكما ينطبق الأمر على الأفراد كذلك ينطبق على الدول التي راحت تبحث عن استثمارات حتّى ولو اضطرت لاختلاق الحروب. كل هذه العوامل تجمّعَت فكانت الأزمة. بدأت التحاليل، كَثُر المحلّلون و”الخبراء”، ارتفع منسوب الإحباط عند الناس العاديين وبدأ المبشّرون بالشيع وأشباه الأديان يطرحون معتقداتهم على أنّها الحلّ الأمثل لكل المشكلات.
“لأَنَّ مَحَبَّةَ الْمَالِ أَصْلٌ لِكُلِّ الشُّرُورِ، الَّذِي إِذِ ابْتَغَاهُ قَوْمٌ ضَلُّوا عَنِ الإِيمَانِ، وَطَعَنُوا أَنْفُسَهُمْ بِأَوْجَاعٍ كَثِيرَةٍ” (1 تيموثاوس 10:6). هذه الضلالة التي يحكي عنها الرسول ظاهرة في أنّ كثيرين، من الأفراد والجماعات المسيحية (طوائف ومؤسسات)، نسوا كلمة الإنجيل أو ظنّوا أنّ الزمان تخطّاها. لم يعد التملّك عندهم ضرورة للوقاية من برد أو من جوع، بل صار دليلاً على مكانة اجتماعية أو سبيلاً للتباهي. خطيئة المؤسسات الكبيرة أنّها لم ترحم الناس العاديين فداستهم واليوم تحتاجهم لتغطية خطئها. خطيئة الناس العاديين أنّهم لم يكتفوا بما عندهم بل صاروا متطلّبين. وخطيئة الدول أنّها انجرفت وراء المؤسسات. في كل هذه المعمعة لا مكان لقول المسيح: “طوبى للفقراء لأنّ لهم ملكوت السماوات”. الكلّ يريد الملكوت الذي رسمه لنفسه هنا والآن. نرى اليوم مؤسسات طالما اعتبرناها من طينة العمالقة تنهار وتعلن إفلاسها رامية موظفيها في مهب الريح، فنتذكّر قول إرمياء النبي لبابل: “أَيَّتُهَا السَّاكِنَةُ عَلَى مِيَاهٍ كَثِيرَةٍ، الْوَافِرَةُ الْخَزَائِنِ، قَدْ أَتَتْ آخِرَتُكِ، كَيْلُ اغْتِصَابِكِ” (13:51).
أليس للكنيسة كلمة في هذا الموضوع؟ أليس للإنجيل ما يقوله؟ بالطبع نعم، إن لم يكن للمؤسسات فللمؤمنين كأفراد. “اتَّقِ اللهَ وَاحْفَظْ وَصَايَاهُ” (جامعة 13:12). من هنا أنّ كل عمل ينبغي أن يتلاءم مع التقوى. لا خروج اليوم للناس العاديين من الأزمة التي أوقعهم فيها المجتمع إلا بالتقوى. إن اتّبع المؤمنون تعليم الكتاب المقدّس يخلصون. أين تصرّف الأفراد من قول الإنجيل: “مَنْ مِنْكُمْ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَبْنِيَ بُرْجًا لاَ يَجْلِسُ أَوَّلاً وَيَحْسِبُ النَّفَقَةَ، هَلْ عِنْدَهُ مَا يَلْزَمُ لِكَمَالِهِ؟” (لوقا 28:14). أين موقف الساعين وراء القنية والرفاهية من قول الرسول: “كُلُّ الأَشْيَاءِ تَحِلُّ لِي، لكِنْ لَيْسَ كُلُّ الأَشْيَاءِ تُوافِقُ” (1كورنثوس 12:6)؟ أغلب الناس اليوم يسعون إلى هذا الموضوع أو ذاك، أو إلى اقتناء هذا الشيء أو ذاك، بغضّ النظر عمّا يأكلهم من الفوائد يدفعونها هنا أو هناك. كلمة “الفائدة” أو المراباة، في اللغات القديم أكثر دلالة منها اليوم. في العبرية تعني “العضّة”، وفي اليونانية تعني “التحطيم”. الناس اليوم تعضّهم الفوائد وتحطمهم المؤسسات المالية لأنّهم يسعون إلى ما لا يوافق، فيشترون أو يبنون أبراجاً من دون حساب الكلفة بحكمة.
كي لا يُساء فهم هذا الكلام: ما مِن خطأ في أن يحسّن المؤمن ظروفه، بل في أن يكون ذلك على حساب أناس آخرين أو على حساب أمور أخرى، وأسوأ من كل هذا أن يرغب في ذلك من غير عمل. الإنتاج من غير عمل هو ما يَعِد به منطق الاستثمارات اليوم: أن يترك الإنسان مالَه يعمل وينتج. منطق الإنتاج من غير عمل لا يتوافق مع فكر الرسول: “إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُرِيدُ أَنْ يَشْتَغِلَ فَلاَ يَأْكُلْ أَيْضًا” (2تسالونيكي 10:6). يصعب الاقتناع بأنّ الربح المادي من غير عمل ممكنٌ من غير أن يكون على حساب أحد آخر، وعادة ما يكون الغني هو الرابح فيما الخاسر هو الفقير. فيزداد الغني غنى ويزداد الفقر فقراً. طبعاً، هذا الكلام ليس للتعميم حكماً، بل شأن كل الأمور، ينبغي التمييز.
الأمر الأخير هو موقف المسيحي من الاستثمار نفسه. “اكْنِزُوا لَكُمْ كُنُوزًا فِي السَّمَاءِ، حَيْثُ لاَ يُفْسِدُ سُوسٌ وَلاَ صَدَأٌ، وَحَيْثُ لاَ يَنْقُبُ سَارِقُونَ وَلاَ يَسْرِقُونَ” (متى 20:6). هذه الوصية هي حجر الأساس في تحديد المكان الذي ينبغي على المسيحي أن يستثمر فيه. المسيحي يستثمر في الإيمان والرجاء والصبر والمحبّة “اقْبَلِ الشَّرِيعَةَ مِنْ فِيهِ، وَضَعْ كَلاَمَهُ فِي قَلْبِكَ… إِنْ رَجَعْتَ إِلَى الْقَدِيرِ تُبْنَى… يَكُونُ الْقَدِيرُ تِبْرَكَ وَفِضَّةَ أَتْعَابٍ لَكَ، لأَنَّكَ حِينَئِذٍ تَتَلَذَّذُ بِالْقَدِيرِ وَتَرْفَعُ إِلَى اللهِ وَجْهَكَ. تُصَلِّي لَهُ فَيَسْتَمِعُ لَكَ” (أيوب 23:22-25).
في سعي العالم إلى الربح نسي الله، فصار ينتقل من حرب إلى حرب ومن أزمة إلى أزمة، وما الأزمة الحاليّة إلا واحدة من كثيرات. لم تعد الأخلاق المسيحية كالتضحية والمحبة من أسس المجتمع. لذا قد يكون اليوم وقت مناسب لكي يعود المؤمنون والعالم كلّه من حولهم إلى الحكمة والاعتدال والتروّي والتمييز جاعلين إياها من سِمات الحياة اليومية، كي تتبارك هذه الحياة والآتية معها.