قراءة عن الصمت والصحراء والصلاة
عن كتاب القفر في قلب المدن
إعداد راهبات دير مار يعقوب الفارسي المقطع، دده – الكورة
من الواضح أنّ البشريّة تواجه مشاكل كثيرة، تزداد مع الزمن، وتُحدث اضطرابات عميقة في نفوس جميع البشر. ولا ضرورة للتأكيد، أنّنا لا نقدر ولا يحقّ لنا البتّة، نحن المسيحيّين، أن نطرح جانباً هذا العالم الغريب القلق والمجهول المصير، لأنّ المسيح انخرط في العالم، ونحن خاصّته، جسده ننتمي إلى هذا العالم، عالم المعلوماتيّة الذي يطرح على عقولنا وقلوبنا ونفوسنا مسائل تتوسّع يوماً بعد يوم. فالعلم يتقدّم بسرعة، يتزايد يوميّاً، ويفوق ما يتمكّن إنسان اليوم، بل إنسان الغد، من إدراكه وفهمه واستيعابه.
هناك اكتشافات علميّة كثيرة بالغة السرّيّة، لم تُعلن بعد، يمكنها أن تصنع من الإنسان رجلاً آليّاً، لا بل يقال إنّه سيصبح من الممكن تحويل الإنسان وراثيّاً وإخضاعه لغسل الدماغ، ومع ذلك يبقى الإنسان سرّاً. هو في جوهره سرّ إلهيّ. والقول الذي سيبدو غريباً هو أنّ ما يستطيع مساعدة الإنسان العصريّ على اكتشاف أجوبة عن سرّه الذاتيّ، وسرّ الذي خُلق على صورته، هو الصمت والخلوة وبكلمة واحدة الصحراء. فالإنسان العصريّ بحاجة إليها أكثر ممّا كان يحتاج إليها الزهّاد في الماضي.
إذا أردنا أن نشهد اليوم للمسيح بين الناس، حيث تخضع ذواتنا لإغراءات لا نهاية لها، فإنّنا نحتاج إلى الصمت. إذا أردنا أن نكون دائماً مستعدّين لخدمة الغير، لا ماديّاً فقط بل عن طريق التعرّف إليه ومصادقته وتفهّمه ومحبّته من دون حدود، فإنّنا نحتاج إلى الصمت. لكي نتمكّن من استقبال القادمين إلينا، بفرح ودون كلل، وأن نقدّم لهم لا المأوى والخبز فقط، بل القلب أيضاً، فنحن نحتاج إلى الصمت.
إنّ صمت الإنسان الحقيقيّ هو التماس الله والتفتيش عنه. الصمت هو مناجاة المحبّين. الصمت الحقيقيّ جنّة مغلَقة، حيث تلتقي النفس بإلهها. الصمت الحقيقيّ هو مفتاح القلب المضطرم بنار محبّة الله. هو قصّة حبّ إلهيّة لا تنتهي إلاّ في الصمت الخصب، صمت الاتحاد النهائيّ مع الحبيب.
نعم، إنّ مثل هذا الصمت المقدّس، هو صلاة أعمق من كلّ صلاة، صلاة حضور الله الدائم، حيث النفس، وقد غمرها السلام، تحيا من إرادة ذاك الذي تحبّه حبّاً كلّيّاً وتامّاً. إنّه صمت يتجسّد في محبّة تفيض من دون حساب في خدمة القريب. صمت يشهد للمسيح في كلّ مكان وكلّ زمان. ويصبح عندئذ الاستعداد للخدمة لذيذاً وسهلاً، لأنّ النفس ترى في كلّ واحد وجه حبيبها. واستقبال الضيوف يصبح عميقاً وصحيحاً، لأنّ القلب الصامت هو قلب محبّ، والقلب المحبّ ملجأ للعالم.
وهذا الصمت البسيط المشبع بالصلاة، هو متاح لكلّ إنسان، هو مُلْكُ كلّ مسيحيّ يحبّ الله، هو ملك جميع الذين بدأت نفوسهم تفتّش عن الحقيقة وعن الله. إذ إنّه، حيث تسود الضجّة الداخليّة والتشويش، يكون الله غائباً.
الصحاري والصمت والخلوة ليست بالضرورة أمكنة، بل هي حالات للذهن والقلب. هذه الصحاري يمكن وجودها في أحداث الحياة اليوميّة العاديّة، يكفي أن نعي حاجتنا الكبرى إليها، ويكفي أن نكون مستعدّين لدخولها، فالاختبار الذي تحمله إلينا يمكن أن يكون غبطة وقداسة، لأنّ الله هو الذي يمنح القداسة للخلوة والصحراء والصمت.
من أوائل الخطوات في اتجاه الخلوة هو الابتعاد. ولكن قلوبنا وعقولنا ونفوسنا تحتاج لأن تكون منسجمة وواعية لهذه الخلوات. ولكي نصبح منسجمين يجب أن نلغي من أفكارنا مسألة الوقت. فالله لا يهمّه الوقت، لأنّه إذا كانت نفوسنا مستعدّة يمكنه أن يدعوها ويغيّرها ويرفعها خلال لحظة كما يقول هوشع النبيّ: “سأقودك إلى البريّة، وهناك أخاطب قلبك” (هوشع 16:2).
لا خلوة من دون صمت. غياب الضجّة ليس بالضرورة صمتاً. يمكن لنهار مملوء بالعمل أن يكون نهار صمت. إنّنا عندما نتكلّم عن أنفسنا، ونكون مملوئين من أنفسنا، ننسى الصمت. الصمت هو الحقيقة التي تكمن في المحبة. الصمت كباقي الأمور في مقدوره أن يجعلنا نعطي أنفسنا، أو بالعكس أن نصبح عنواناً للتقتير والبخل، إذ نترك ذواتنا لذواتنا. يقول الكتاب المقدّس أنّنا سنؤدّي حساباً عن كلّ كلمة بطّالة نطقنا بها. وقد نطالَب بتأدية الحساب عن الكلمات التي كان علينا أن نتفوّه بها، وبقينا صامتين.
ولكن قد يتبادر إلى ذهننا السؤال كيف نتوصّل فعليّاً إلى هذه الخلوة؟ هل بالتوقّف عن الحركة؟ إنّ التوقّف وترك هيجان الأعمال القتّال للنفس يقف ويقع من تلقاء ذاته كرداء بال مملوء غباراً، عندما تقرّر النفس الدخول في الخلوة. وبالحقيقة إنّ الانغماس بكثرة الأعمال ما هو إلاّ هرب من الذات، والتهرّب من الدخول في هذه الرحلة الداخليّة، التي يجب على كلّ إنسان أن يقوم بها، ليصل إلى الله الحيّ المقيم في أعماق النفس. يمكن للإنسان أن يتوقّف عن كلّ جلبة وضجّة خارجيّة تحدثها حياته اليوميّة والواجبات الملقاة على عاتقه والمطلوبة منه. إنّ هذا التوقّف ضروريّ جدّاً لأنّه يُدخل النفس في جو إلهي الذي بدوره يولّد الطمأنينة للنفس، طمأنينة الله التي بدورها تولّد الصمت.
في الخلوة والصمت والصحراء يتمّ التوقّف عن الحركة لنلجأ إلى فحص عميق لدوافعنا في الحياة: هل هي، مثلاً، صالحة لتتقبل أسس القداسة الحقيقيّة؟ إذ إنّ الإنسان يأتي إلى العالم ليصبح قدّيساً، عاشقاً للحبّ الذي مات لأجلنا. إنّ المأساة الحقيقيّة هي أن لا يصبح الإنسان قدّيساً. فإذا كانت دوافعنا لا تصلح لوضع أسس حقيقيّة وصادقة للقداسة، يجب عندئذ على النفس أن تعيد النظر في كلّ شيء من أساسه، ولن يفوت الوقت أبداً من أجل انطلاقة جديدة.
في الخلوة والصمت والصحراء يتمّ رفع القلب والأيدي نحو الله، من أجل الطلب إليه أن تهبّ عاصفة روحه القدّوس، لتنظّف النفس من كلّ خوف وجبن وأنانيّة وجشع وكسل..و..الطلب إليه أن تنزل ألسنة ناريّة لتمنح النفس شجاعة الانطلاق من جديد، شجاعة البداية في كلّ لحظة في طريق الجهاد.
والغريب أنّه عندما يقيم الصمت إقامة دائمة في النفس، على غرار ما حدث لمريم أخت لعازر عند قدمي المسيح، يصير الكلام أسهل للذين أصبحت نفوسهم متخشّعة تماماً في هذا الصمت، ويصبح العمل أسهل، ومعاملة الناس ملأى بالرفق والوداعة والصبر. وتشعّ المحبّة في كلّ عمل وكلّ كلمة. وشيئاً فشيئاً، وبطريقة خفيّة غير ملحوظة، يتغيّر العالم من حولهم، لأنّ صمتهم يصبح جزءاً من صمت الله، صمتاً محبّاً، قويّاً، مثمراً. يُسمِع اللهُ صوتَه من خلالهم، ويُرى وجهُه في وجوههم، ويصبح نوره نوراً مشعّاً من خلالهم لكلّ قريب. وهكذا يأتي الصمت بالسلام للجميع، ويأتي الحبيب من جديد ليسكن في ما بيننا قائلاً: نعم، “توقّفوا، اعلموا أنّي أنا الله” (مز11:46).
ولكن يطرأ هنا خطر لا بدّ أن نذكره: فكما أنّنا لا نعرف في كثير من الأحيان أن نميّز بين الصمت والعزلة الماديّة، قد لا نعرف أن نميّز بين الصلاة والخلوة. فهاتان وجهان مختلفان للحياة الروحيّة. فالصلاة هي، ولا شكّ في ذلك، حياة كلّ مسيحيّ. وبدون الصلاة، وبدون علاقة مع الله، تتلاشى هذه الحياة. نسمع كثيرين في أيّامنا يفكّرون بقصد مراكز يستمتعون فيها بالصلاة، بأماكن يجدون فيها العزلة الماديّة، الخلوة الروحيّة. لهؤلاء نقول: اقبلوا أوّلاً بخلوة قلوبكم. فالصلاة كالصمت، كالخلوة هي أوّلاً مسألة دخول إلى أعماق النفس، عليّ أن ألج إلى داخلي لألتقي بالثالوث المقيم فيّ. الصلاة أمر داخليّ، والقلاّية هي بالحقيقة قلب الإنسان حيث يعلّمه الروح كيف يصلّي. قد تساعد الخلوة على الصلاة وقد تصبح مهداً للصلاة. ولكن بشكل عامّ لا تتطلب الصلاة مكاناً جغرافيّاً خاصّاً لأنّها هي علاقة محبّة بين الله والإنسان، كما لا تتطلب الخلوة أيضاً مكاناً جغرافيّاً، فقد أكون في خلوة داخليّة وأنا في وسط الناس. فمن الخطأ إذن الخلط بين الصلاة والخلوة، والقول إنّ الخلوة ضرورة للصلاة. بل بالأحرى القول إنّه من المستحسن أن يضع المرء ذاته من وقت لآخر في خلوة. فالصلاة هي عمل دائم للعطاش إلى الله، أما الخلوة فيجب أن تبقى محصورة في وقت محدّد لئلا تفقد معناها فتصبح هرباً من الأعمال، هرباً من الآخرين، هرباً من الحياة، وهذه طبعاً كلّ شيء إلاّ الخلوة والصمت والصحراء. لأنّه من المستحيل أن أصلّي حقّاً إذا لم أخدم أخي، وإلاّ أصبحت كالكاهن واللاّوي اللذين لم يتوقّفا أمام الرجل الذي جرحه اللصوص.
الصلاة ، الخلوة، الصمت هي مصدر لفرح روحيّ لا يعبّر عنه. فإذا التقيتم يوماً بناسك أو براهب شاحب الوجه، حزين على الدوام، تيّقنوا أنّه ليس ناسكاً حقيقيّاً. الروحيّون هم أكثر الناس فرحاً ولو كانوا في عمر السبعين، لهم عيون الأطفال، وهم مملؤون من فرح عشرة الرب. لا يمكن غشّ الناس بالمظهر، لأنّ المسألة مسألة حضور الرب في النفس، وحضوره حضور مشعّ بالغبطة والفرح الهادئين.
إنّ أوّل ما يدخل المجاهد إلى الخلوة سيشعر إلى حدّ ما بضّجته الداخليّة، إلى جمع أفكار تهاجمه كالذباب، أفكار من كلّ نوع إلاّ الأفكار التي تخصّ الله. وهذا أمر طبيعيّ لأنّنا أناس عقلانيّون مملؤون بالمعلومات من كلّ نوع، فنحن نحتاج إلى وقت طويل قبل التوصّل إلى طيّ أجنحة العقل وفتح باب القلب. وهنا دور الخلوة: إنّها تدخلنا إلى أعماقنا ثم تجعلنا في اتصال مع الله. لا يهم بماذا تشعرون، حتى إذا لم تشعروا بشيء أيضاً إذ يكفي أنكم أتيتم للقاء الله في موعد شخصيّ. المهمّ هو إسكات العقل الذي بنى العديد من أبراج بابل ولا يزال في كلّ لحظة يبني. افتح باب القلب للقادر وحده أن يتقبلك كما أنت. إنّ صحراء وخلوة النسّاك والرهبان هي في داخلهم أي في روحهم المتخشّعة دوماً، المتطلّعة بحب نحوه فقط. ومن هنا يعرف الراهب كيف يمكث في الصمت والخلوة والصحراء حيث توجد الصلاة الحقيقيّة، وحيث تنتظره زيارات سرّيّة ينعم بها ومنها يستمدّ القوّة لاستمراره وجهاده.
وأخيراً إنّ الصحراء والخلوة والصمت سيجردوننا من الأنا، وربّ الصحراء أيضاً سوف يجرّدنا. ولكنّنا سنمتلئ من الطمأنينة الصادرة عن الله. في الصحراء والصمت والخلوة نلجأ إلى الصوم والصلاة وهكذا نموت عن أنفسنا لينمو المسيح فينا بطريقة أسرع، ونتمكّن من إعطائه إلى العالم بطريقة أسرع، هذا العالم المتعطّش إليه أشدّ العطش. ألا أهّلنا الله لنعيش الصمت الحقيقيّ والخلوة الحقيقيّة عسى أن يرتسم نوره علينا فننقله للآخرين آمين.