النسك البيئي: ثورة ثقافية
المتروبوليت يوحنا (زيزيولاس)
نقلتها إلى العربية جولي عطية
كاتب هذا المقال، متروبوليت بيرغامون الأب يوحنا زيزيولاس، ينادي بمفهوم جديد لنوعية الحياة في خليقة محدودة. الأزمة البيئيّة هي في جذورها مسألة روحيّة، لكنّ العديد من الناس الذين يتعاملون معها يغفلون جوانبها الروحيّة. مع ذلك، تبيّن تاريخيًّا وعمليًّا، أنّه لا سبيل إلى معالجتها من دون الاستناد إلى الدين والأخلاقيّات. كان المؤرّخ الأميركي لين وايت محقًّا في نسب أسباب هذه المشكلة إلى اللاّهوت المسيحي، بخاصّة إلى الكنيسة الغربيّة، لتوظيفها آيات سفر التكوين، والتي فيها يطلب الله من البشر الأوائل بأن “يتسلّطوا على الأرض”، في سبيل تشجيع الناس، وكما يقول ديكارت بصراحة، لأن يكونوا “أسياد الطبيعة ومالكيها”. واستمدّ هذا الموقف دعمًا وإلهامًا إضافيّين من لاهوتٍ ركّز على تفوّقية البشر بسبب “عقلانيّتهم” التي اعتبرها “صورة الله” في الانسان. وهذه المقاربة العقلانيّة فصلت البشر عن باقي المخلوقات وشجّعتهم على ازدراء كلّ ما ليس عقلانيًّا وبشريًّا.
بالإضافة إلى ذلك، ظهر مفهوم يعتبر الإنسان شخصًا مفكّرًا، حلّت سعادته وازدهاره في أعلى مراتب الأخلاقيّات. وأصبحت الخطيئة محدودة بكلّ ما يناقض أو يعيق هذين. بالتالي، بإمكان المسيحي أن يدمّر الطبيعة وهو مرتاح الضمير، طالما أنّ ذلك يساهم بتحقيق سعادته. حاليًّا، بدأ البشر يدركون أنّ اعتماد هذا الموقف تجاه الطبيعة يهدّد سعادة الإنسان ووجوده بحدّ ذاته. لكنّهم فعليًّا لم يحيدوا عن مبدأ المناداة بسعادة الإنسان، فحافزهم الأعمق ما زال هو السعي إلى اكتساب السعادة. ما زال البشر يقاربون الأزمة البيئيّة من زاوية مصلحتهم الذاتيّة لا من زاوية محبّة خلائق الله الأخرى أو من زاوية الشعور بالمسؤولية تجاه استمراريّة الكائنات غير البشريّة وخيرها في كوكبنا.
هذا الموقف جعل المسألة أكثر تعقيدًا، فقد تعسّر علينا التوصّل إلى فكر مشترك للتضحيات المطلوبة منّا لمواجهة الأزمة البيئيّة في مجتمعنا الاستهلاكي. لقد وجد السياسيّون أنّه من الصعب إنشاء معيار للقيم يرضي جميع مصالح البشر. مثلاً إذا قرّرت الحكومة إقفال مصنع ما لتسبّبه بالتلوّث، ستتفشّى البطالة في المنطقة حتمًا، لتحلّ مكان مشكلة الضرر البيئي. وطالما أنّ المصلحة الذاتيّة هي التي تحرّك البشر، لن يستطيع السياسيّون، حتى الأكثر كفاءة منهم والتكنوقراطيّون، مواجهة هذه الحالة. لذلك فالحافز يؤدّي دورًا حاسمًا في كيفيّة التعامل مع الأزمة البيئيّة، ومن الواضح أنّ مصلحة الانسان الذاتيّة ستفسح المجال أمام حوافز أخرى أو ستكون مرتبطة بهم. هذا يعطي البعدين الروحي والثقافي أهمّية حاسمة عمليًّا. ما نوع الحافز الذي يقدّمه الدين للناس في مواجهة الأزمة البيئيّة؟ نورد بعض المقترحات:
تشجيع فكرة قدسيّة المخلوقات كلّها، في جميع مظاهرها، الروحية كما المادّية. قد يكون ذلك سهلاً في الحضارات والمجتمعات التي تسود فيها الديانات الشرقيّة، لكنّه أصعب بكثير حيث يشكّل التقليد اليهودي المسيحي القوّة الدينيّة الرئيسة، أكان ذلك تاريخيًّا أو في الوقت الحالي. إنّ الخوف من الوثنيّة والتقليد العقلاني سيجعلان تشجيع فكرة قدسيّة الطبيعة – أو حتى فكرة القدسيّة بشكل عام – أمرًا صعبًا في الثقافة الغربيّة.
في الكنيسة الأرثوذكسيّة، والتي نتج تقليدها عن معارك طويلة ضدّ الوثنيّة الإغريقيّة الرومانيّة، نجد روحانيّة تكنّ احترامًا عميقًا للطبيعة. وترتبط هذه الروحانية برؤية تعتبر أنّ الطبيعة تقتني قدسيّتها فقط في الانسان ومن خلاله. هذا يمنح الجنس البشري شأنًا ومسؤوليّة مهمَّين، فالإنسان هو كاهن الخليقة لأنّه يحوّلها بحريّة إلى وسيلة للشركة مع الله ومع بني البشر. بالتالي، لا يجب أن يتعامل الشخص مع الخليقة المادّية كأنّها وسيلة لإرضاء لذّته وسعادته، بل بمثابة عطيّة مقدّسة من الله من شأنها أن تحضن شركة الإنسان مع الله ومع الآخرين وأن تشجّعها. ويؤدّي هذا الاستخدام البشري “الليتورجي” للطبيعة إلى تكوين ثقافة تحترم العالم المادّي احترامًا عميقًا مع إبقاء الانسان في المركز.
مراجعة جدّية لمفهوم الخطيئة. أصبحت الخطيئة مفهومة، أقلّه على مستوى الأخلاقيّات المسيحيّة، فقط في معنييها الأنتروبولوجي والاجتماعي، لأنّه بات يُنظر للطبيعة على أنّها “خادمة” للمصالح الذاتيّة للبشر ولسعادتهم. صارت الخطيئة تمثّل فقط الأذى الذي يسبّبه الإنسان لنفسه أو للآخرين، ويظهر جليًّا أنّ إلحاق الأذى بالطبيعة ليس مدرجًا في فئة “الخطيئة”.
هذا يتغيّر عندما يتوقّف الإنسان عن اعتبار الطبيعة عبدة لمصالحه، فتصبح هذه الأخيرة صلة ضروريّة للشركة بين البشر والله. وبما أنّ البشر لا يستطيعون أن يكونوا طرفًا في هذه العلاقة والشركة في غياب الطبيعة (أجسادنا هي ضرورية لهويّتنا لكن لا يمكن استيعابها بمعزل عن باقي الخليقة)، فأيّ ضرر يصيب الطبيعة سيجعلها غير قادرة على تأدية وظيفتها كوسيلة للشركة بيننا وبين الله. إذًا، الخطيئة ضدّ الطبيعة هي خطيرة، ليس لأنّها تتضمّن قلّة احترام لعطيّة إلهية فحسب، بل أيضًا وفي الأساس، لأنّها تجعل الكائن البشري غير قادر على تحقيق طبيعتها العلائقيّة. إنّ الفرديّة الانسانية تسير جنبًا إلى جنب الخطيئة ضدّ الطبيعة: تشهد الأزمة البيئيّة ببلاغة على ذلك.
روح النسك. لقد ارتبط النسك في أذهاننا بعدم تقديرٍ للمادة، طلبًا لأشياء “أسمى” وأكثر “روحيّة”. هذا يُظهر نظرة أفلاطونيّة إلى المادّة والجسد، وهي نظرة لا تنسجم مع التقليد اليهودي المسيحي، حيث العالم المادّي هو جزء أساس في هويّة الانسان بحدّ ذاتها. صحيح أنّنا نستطيع ملاحظة تأثير أفلاطونيّ بسهولة في التقليد المسيحي وربما في ديانات أخرى أيضًا، إلاّ أنّ هذا لا يصبّ في اهتماماتنا هنا. تساهم هذه الأنواع من النسك، التي تتضمّن احتقارًا للعالم المادّي، في تفاقم الأزمة البيئيّة بدلاً من حلّها. بينما يبدأ “النسك البيئي” – إذا أمكننا استعمال هذا التركيب – دومًا باحترام عميق للخليقة المادية، بما في ذلك جسد الانسان، ويُبنى على نظرة تعتبر أنّنا لسنا أسياد الخليقة ومالكيها، بل أنّنا مدعوّين لتحويلها إلى وسيلة للشركة، من دون أن ننسى إمكانيّاتها وحدودها.
النقطة الأخيرة بالغة الأهمّية، يجب أن يدرك البشر أنّ الموارد الطبيعيّة محدودة. الخليقة بأسرها محدودة وكذلك هي الموارد التي تمنحنا إياها الطبيعة لتلبية حاجاتنا. يبدو أنّ فلسفة الحياة السائدة في أيامنا والقائمة على الاستهلاك، تتجاهل هذه الحقيقة. فإنّنا نشجّع النموّ والاستهلاك عندما نصنّف بعض الأشياء بأنّها ضرورية في حين أنّ الأجيال التي سبقتنا استطاعت الاستعاضة عنها. علينا أن نعيد النظر في مفهومنا لنوعيّة الحياة، فالنوعيّة لا تحتاج إلى كميّة حتى تنوجد. وقد يؤدّي استعمالنا المحدود للموارد الطبيعيّة إلى حياة سعيدة أكثر من المنافسة المتواصلة على الإنفاق والاقتناء. على النموّ النوعي أن يحلّ مكان فكرة التطوّر الاقتصادي السائدة والقائمة على الإحصاءات الكمّيّة. ويجب إزالة المفهوم الذي يعتبر النسك نظريّة مرتبطة بفئة من المتديّنين الغريبي الأطوار، وإقرانه بالتقدّم النوعي – لا الكمّي – في المجتمعات البشرية.
سيتضمّن ذلك حتمًا تبدّلات كبرى في المفاهيم وسيتطلّب مراجعتها وإعادة تعريفها على صعيد المؤسّسات السياسيّة والاقتصادية والعلمية والاجتماعية على مختلف أنواعها. وقد يأخذ بنا ذلك إلى ثورة ثقافيّة على الأقلّ. لذلك فهذا التغيير في ثقافتنا يتطلّب مشاركة جميع العوامل المعنيَّة والتنسيق في ما بينها. هو ليس مجرّد مسألة تخطيط تكنوقراطي؛ لأنّه قد يستلزم تغييرًا لأعمق قناعات الناس وحوافزهم، فما من كائن بشريّ مستعدّ للتضحية من دون سبب أو حافز.
قد تتّسم هذه الأسباب والحوافز إمّا بالخوف أو بالمحبة، والأديان تستخدم كليهما. يبدو أنّ الأزمة البيئيّة التي نواجهها تثير الخوف – الخوف من تدمير كوكبنا – وهو حافز سائد لتغيير الوجهة. لكن علينا أن نصرّ على إيجاد حوافز أخرى أكثر إيجابية. يمكن للمحبة لخليقة الله ولأخوتنا البشر أن تقودنا طبيعيًّا إلى الحدّ من استهلاكنا الموارد الطبيعيّة وإلى تشاركها بعدالة أكثر مع الآخرين. ويتحقّق ذلك من خلال التربية من المراحل الأولى حتّى أعلى مستوى ممكن، لكن ربّما ما من شيء أكثر فعاليّة من الديانة والروحانيّة المنبثقة منها، لتحقيق هذه الغاية. لذلك، يجب أن توظّف كلّ الجهود لإشراك الجماعات الدينيّة في معالجة التحدّي البيئي الحالي.
الأزمة البيئيّة هي إلى حد كبير مشكلة روحيّة.