قـــــــوّة الله
إعداد راهبات دير القدّيس يعقوب الفارسيّ المقطّع
“اخرج من هنا أيّها السكّير المتسكّع المفلّس. لن تشرب من هذا المحلّ نقطة واحدة قبل أن تدفع ثمنها ـ أخرج وإلاّ استدعيت البوليس لطردك من هنا”. هكذا طُرِدَ توم كونور من إحدى الحانات، ولكنّه قبل أن يخرج التفت إلى الزبائن الآخرين، وقال لصاحب الحانة: “لقد وصلت هذه المدينة منذ ثلاثة أيّام، وكنت خلالها أتسكّع على أبواب المطاعم لأستجدي الناس لقمة خبز يابسة. ولكنّي لم أكن كذلك، فلقد كان في مقدوري أن أشتري عشرة أمثال هذا المحلّ. كنت رجل أعمال ناجحًا، وكانت لي عائلة سعيدة موفورة الهناء، ولكن المسكر والخمر سبّبا خرابي. وأنا، الآن، وحيد في هذا العالم لا أجد من يحبّني أو يعتني بي. صحيح أنّي لا أملك ثمن الكأس التي أطلبها، وصحيح لست إلاّ سكيرًا متسكّعًا، وسأخرج كما تريد، ولكن قبل أن أغادر هذا المكان أقول لكم أيّها الرفاق المحترمين : انظروا إليَّ وإلى هذه الثياب القذرة البالية، وخذوا لأنفسكم عبرة وموعظة. فلأجل خاطر السماء اتركوا هذا المكان اللعين، لأنّه سيوصلكم إلى نفس النهاية التي وصلت إليها أنا”.
خرج توم كونور هائمًا على وجهه يسعى في شوارع المدينة على غير هدى، فمرَّ في طريقه على إحدى الكنائس، ورأى الناس يدخلون إليها، فقال في نفسه: “إنّ أمثالي ليس لهم هنا مكان”. ولكنّ ترنيمة شجيّة شدّته، فوقف يسمع جموع المرنّمين ترنّم: “المسيح قام من بين الأموات…”. وقف كونور العجوز يستمع إلى هذه الترنيمة التي سمعها لآخر مرّة منذ وقت طويل جدًّا، وكأنّه لم يسمع قط نغمات شجيّة مثل هذه في كلّ حياته. ورغمًا عنه حملته أقدامه إلى الداخل، وجلس على كرسيّ قرب أحد العواميد، وأخذ ينصت لما يقوله الكاهن، وإذا به يسمعه يصلّي صلاة حارة من أجل الخطأة المساكين المشرّدين في مسالك الشرّ. تَفتَّح قلب كونور لهذه الصلاة، وهاجت ذكريات الماضي، وأخذ يبكي ويكفكف دموعه. لقد تذكّر بيته المريح اللطيف، وتذكر زوجته التي كانت ترنّم بصوتها الرخيم هذه الترنيمة نفسها، فبكى وبكى وعاش في ذكريات الماضي. لقد مرَّ بخاطره كيف ذهبت نضارة صحته، وعبث به شيطان الخمر فانتزع منه زوجته. وكيف غادره السلام، وكيف ضاع البيت الجميل، وبيعت مفروشاته الأنيقة لإشباع شهوة السكر. وكيف شحب وجه زوجته بسبب دأبها، يومًا بعد يوم، أمام طست الغسيل لتكسب أجرًا ضئيلاً لسدّ رمقها ورمق طفلها وزوجها السكّير. وأخيرًا مرَّ بخاطره منظرها وهي مسجّاة في كفنها البالي داخل صندوق بسيط من خشب الصنوبر، وكيف ذهب بابنها إلى ملجأ لليتامى. ثمّ استعرض صُوَر سكّير متشرّد بائس يهيم على وجهه عشرين سنة كاملة يستعطي درهمًا من هذا، ويستجدي لقمة من ذاك بلا احترام ولا كرامة. فقال متحسّرًا: “آه، يا ربّ، لِمَ لم أمتْ قبل أن تموت هي؟ ولماذا أعيش بعد؟”.
وكانت الخدمة قد انتهت، وأعلن الكاهن أنّ خدمة الغد تبدأ في الساعة السابعة والنصف. وهنا نهض الرجل العجوز، وتسلّل إلى الخارج قبل أن يراه الناس. ولم تكد الساعة تدق السابعة في مساء اليوم التالي حتّى كان توم كونور، مرّة أخرى، يجلس في الكنيسة. ولم تكن الخدمة قد بدأت بعد، فتقدّمت إليه فتاة رقيقة، وقالت له: “اسمح، يا مستر جونسون، بفتح درج المنضدة، لأنّي أريد كتابًا لوالدي قبل أن تبدأ الخدمة”. فنهض الرجل العجوز واقفًا، وخلع قبّعته القذرة، وقال لها: “عفوًا، يا آنسة، أنا لست مستر جونسون”. فقالت الفتاة: “إنّي أعتذر لقد ظننتك الطرّاش”. فهمّ كونور بالخروج، فقالت له الفتاة: “لماذا تخرج؟ تعال واقترب من الصفوف الأماميّة لتسمع جيّدًا، إنّ الخدمة ستبدأ سريعًا”. فرد بسرعة: “لا. لست أهلاً لأن أوجد في مكان نظيف مثل هذا، وقد لا يرغب الكثيرون في أن أجلس إلى جوارهم. فأجابت الصبيّة: “كلا، بل إنّهم يرحّبون بك. إنّ والدي هو الكاهن. وهو يحبّ أن يأتي إليه الشيوخ المتقدّمين في السنّ ليسمعوه”. ثمّ أمسكت بيده قائلة: إنّي أؤمن بأنّ الربّ يسوع يحبّك ويستطيع أن يجعلك رجلاً صالحًا إن كنت تدعه يفعل ذلك. أرجوك أن تأتي لتسمع هذه الترنيمات الجميلة، وأنا واثقة أنّك ستكون مسروراً”.
وسار توم كونور معها إلى الصفوف الأماميّة يتعثّر خجلاً، ولكن سرعان ما ملكت النغمات والترنيمات على مشاعره، وكانت الصلوات التي أعقبتها حارّة وعميقة ملؤها المحبّة، حتّى خيّل إليه أن كلّ الصلوات التي قُدِّمت في ذلك اليوم كانت لأجله. ثمّ قام الكاهن وتلا الفصل الخاصّ بالابن الضالّ، وتكلّم الكاهن عن محبّة الله للخطأة الهالكين، وعن رحمته العجيبة بكلمات لم يسمعها كونور العجوز من قبل. ثمّ ختم كلمته بهذه العبارة : “إنّ أبانا السماويّ المُحبّ فاتح ذراعيه ليرحّب بكلّ ضالّ شريد، ويقبّله بقبلة الغفران، ويلبسه حلَّة البِرّ الأولى إن كان يريد أن يقبل إليه”. ثمّ ما لبث أن انصرف الحاضرون، وبقي ذلك الرجل العجوز منكّس الرأس يشهق بالبكاء كطفل صغير، ولكنّه شعر بيد رقيقة توضع على كتفه، فرفع بصره ووجد الفتاة اللطيفة أمامه وهي تقول: “إنّ الربّ قادر أن يُخلِّصك. تعال إليه وثق به، وهو سيساعدك، فهو لا يردّ تائبًا نادمًا”. وقادته الشابّة إلى حيث كان أبوها، فمد الكاهن يده إلى الرجل مباركًا، فقال كونور: “يا سيّدي، إنّني إنسان بائس، وكنت أظنّ أن لا رجاء لأمثالي، ولكنّك قلت في هذه الليلة إنّ الله يرغب في خلاص الجميع”. ثمّ أخذ توم يسرد تاريخ حياته، فلمّا وصل إلى ختام القصّة احمرّت وجنتا الكاهن، وانهمرت دموعه، وقال للرجل باضطراب: “ما اسمك؟”، فقال: “توم كونور، وقد اشتهرت باسم العجوز السكّير”. فصاح الكاهن قائلاً: “أبي… أبي!!”، وضمّ الرجل إلى صدره، وقبّله وهو يقول: “أبي أنا ابنك الذي تركته طفلاً في ملجأ اليتامى. لقد بحثت عنك طويلاً، وأخيرًا ظننت أنّك متّ”. ثمّ عرف الأبُ قصّةَ ابنه، وكيف خرج من الملجأ، وعاش وسط عائلة مسيحيّة تبنّته وأحسنت تربيته، وصار خادمًا للربّ.